نظرية نوردشترم: لأن 4 أبعاد لا تكفي لتفسير الجاذبية
استعرضنا في الجزء السابق المعنى الهندسي للزمكان في النسبية الخاصة -والذي ابتكره هنري بوانكاريه Henri Poincaré- كوعاء يحمل بداخله التناسق الرياضي لمعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية. غير أن أهم تبعات هذه النظرة الرياضية هو ما عرضه هيرمان منكوفسكي Hermann Minkowski -أحد البروفيسيرات الذين حضر لهم آينشتاين عندما كان طالبًا في المعهد السويسري الفيدرالي للتقنية، سويسرا ETH Zurich- في ملتقى الجمعية العلمية بجوتنجن عام 1907 بعد إعادة النظر في معادلات ماكسويل باستخدام مكونات تنسور قوة المجال Field strength tensor.
هل يمكن أن تتفق جاذبية نيوتن مع النسبية الخاصة لآينشتاين؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن تحليلات منكوفسكي ليست إلا تكرارًا غير مبتكر لمقترحات بوانكاريه، غير أن الجزء الأصيل والثوري في بحث منكوفسكي الشهير «المعادلات الأساسية للعمليات الكهرومغناطيسية للأجسام المتحركة» Die Grundgleichungen für die elektromagnetischen Vorgänge in bewegten Körpern كان تعريفه للمتجهات التفاضلية في الزمان والمكان في صورة متجه تفاضل واحد زمكاني في الأربعة أبعاد. واعترافًا منه بفضل هيندريك لورنتز Hendrik Lorentz فقد رمز منكوفسكي لذلك المتجه بـLor.
يجدر بنا لفت النظر إلى مدى أهمية هذا التعريف -إضافة إلى تعريفه لتنسور قوة المجال الثنائي Dual field strength tensor وكتابة المعادلات في صورة تفاضلية differential form – باعتباره اللغة المعاصرة التي يستخدمها الفيزيائيون لوصف الأنظمة ذات أبعاد إضافية. هذه اللغة تمتاز بالبساطة وربط الكميات المتشابهة في السلوك مع بعضها البعض في أقل عدد ممكن من المعادلات التفاضلية. والأهم من ذلك أنها تكشف التماثلات symmetries الظاهرة والخفية، والكميات المحفوظة conserved quantities في النظام الفيزيائي وعلاقتها بالهندسة والتوبولوجيا. وهي الكميات التي غالبًا ما يتم قياسها في المعمل، أي أن تلك الطريقة تأتي وفي جعبتها ما يخبرنا بقابليتها للاختبار[1].
لقيت منهجية منكوفسكي قبولًا بين الفيزيائيين بشكل أغراه على متابعة استخدامها لإنتاج نظرية تجمع النسبية الخاصة والجاذبية في صورتها النيوتونية والكهرومغناطيسية. كان الفيزيائيون على وعي بأهمية أن تكون اقتراحاتهم الحديثة مصدّقة لما سبقها من توافق النظريات القديمة مع التجارب العملية، ومهيمنة عليها في تفسير ما فشلت القديمة في تفسيره. ولذلك تعتبر محاولات منكوفسكي أحد أسلاف الاتجاه المعاصر والمعروف بنظريات الجاذبية اللامتباينة لورنتزيًا Lorentz-Invariant gravitational theories لتعديل النسبية العامة.
جاء عام 1908 وعرض منكوفسكي نتائجه في مؤتمر العلماء الطبيعيين في كولونيا كمحاولة لمعالجة استعصاء استيعاب النسبية الخاصة للأنظمة المتسارعة تحت تأثير الجاذبية. وتم نشر نتائج مؤتمر كولونيا رسميًا عام 1909 بعد شهر من موت منكوفسكي بانفجار الزائدة الدودية عن عمر يناهز الرابعة وأربعين.
توفي منكوفسكي وهو لا يعلم اتفاق استنتاجه مع النسبية العامة في أن سرعة تأثير الجذبوي بين الأجسام لا بد وأن تساوي سرعة الضوء! لاحظ عزيزي القارئ أننا في فترة ما قبل النسبية العامة حيث لا توجد موجات جاذبية، وهو ما يجعلها نتيجة مدهشة على الرغم من كون منكوفسكي لم يكن يعرف أن طريقة معالجة النسبية العامة للجاذبية كنظرية هندسية تختلف تمامًا عن طريقة معالجة معادلات ماكسويل للكهرومغناطيسية كنظرية مجال[2].
وعلى الرغم من أن ڤيليم دي سيتر Willem de Sitter -صاحب تعميم زمكان منكوفسكي لأي عدد من الأبعاد de Sitter Space- قد أثبت لاحقًا عام 1911 تعارض نظرية منكوفسكي مع مشكلة مسار كوكب عطارد، فإن ذلك لم يثبط من عزم الفيزيائيين على تعديل النظرية بغرض توحيد الجاذبية مع الكهرومغناطيسية. وبعد ثلاث سنوات من وفاة منكوفسكي لحقه بوانكاريه، وبذلك سقطت آخر معاقل نظرية الإيثر الميكانيكية رغم كون بونكاريه المؤسس الأول لمفهوم الزمكان، بل وأول من اقترح وجود موجات جاذبية!
أي الطرق نسلك لوصف الجاذبية؟
احتد التنافس بين الفيزيائيين على تطوير نظرية للجاذبية بناء على اقتراحات منكوفسكي، فتمايزت مناهجهم واتجاهاتهم إلى خمسة مسارات رئيسية؛ اتجاه ماكس إبراهام Max Ibraham في ميلان بإيطاليا، اتجاه ألبرت آينشتاين في براغ بالإمبراطورية النمساوية المجرية (حاليًا بجمهورية تشيك)، اتجاه جُن إيشيوارا Jun Ishiwara – الياباني المبتعث- في جوتنجن بألمانيا، اتجاه جوستاف مِي Gustav Mie في جرايفزفالد بألمانيا، وبطل مقالتنا جونار نوردشترم Gunnar Nordström في هلسنكي بفنلندا.
بالنسبة لآينشتاين، وبين عامي 1907-1913، قادته الحيرة إلى التنقل بين عدة رؤى واقتراحات لوصف الجاذبية قبل السعي إلى توحيدها مع الكهرومغناطيسية. في البداية -ولتفادي التناقض الذي أشرنا إليه في المقال السابق بين مفهوم الفعل – عن – بعد action-at-distance وكون سرعة الضوء سرعة قصوى- اقترح آينشتاين ربط قانون نيوتن بهندسة منكوفسكي، بحيث أوجد علاقة بين سرعة الضوء والجاذبية. ثم عمل إبراهام على اختبار هذا الاقتراح بطريقة مختلفة عما بدأ به آينشتاين، فأدت إلى ظهور مشكلة في كون أن المعادلة النهائية قابلة للحل فقط في حالة كون مجال الجاذبية ثابتا بالنسبة للزمن، أي أن ثبات سرعة الضوء في هذه النظرية يجبر مجال الجاذبية على أن يكون ثابتًا هو الآخر، وهذا يجعلها نظرية محدودة جدًا.
جدير بالذكر أن آينشتاين حاول أيضًا تطوير نظرية حث جذبوي gravitational induction شبيهة بالكهرومغناطيسية، غير أن إبراهام أثبت مرة أخرى أن آينشتاين وصل إلى نتيجة مشابهة للتي وصل إليها ماكسويل -مؤسس الكهروديناميكية- عندما حاول ذلك قبل خمسين عامًا: طاقات وكتل سالبة الإشارة مرفوضة فيزيائيًا.
ورغم السجال العلمي – والشخصي- المتبادل بين آينشتاين وإبراهام على مدار سنتين، وعلى الرغم من أن كليهما أثبتا فشلًا ذريعًا فيما يخص مشكلة مسار عطارد، فإن كلتا الطريقتين أسهمتا بشكل غير مباشر في تطوير مفاهيم انحناء الضوء تحت تأثير الجاذبية، واستبدال زمكان منكوفسكي بالهندسة الريمانية.
ومع توالي المحاولات لجمع الجاذبية بالنسبية الخاصة، كانت أحد انتقادات آينشتاين المعاكسة لإبراهام في كون منهجية إبراهام مخالفة لمبدأ ثبات القوانين عبر تحويلات لورنتز. ولكن مع انتقال آينشتاين إلى سويسرا، بدأ هو نفسه بالتخلي تدريجيًا عن مبدأ ثبات القوانين تحت تأثير تحويلات لورنتز، وبدا جليًا للفيزيائيين أن الفيزياء تواجه أزمة كبرى عبّر عنها آينشتاين نفسه وهو يطلب العون من صديقه مارسيل جروسمان Marcel Grossmann: «سأجنّ حتمًا إن لم تساعدني»، أو كما وصفها ميسنر Misner، ثورن Thorne، و ويلر Wheeler في كتابهم الشهير Gravitation : «لقد فخّخت الجاذبيةُ النسبيةَ الخاصة، فنسفتها»!
جعلت الأزمة بين آينشتاين وإبراهام اللغةَ التي كتبا بها ردودهما على بعض غير تلك المعتادة في المجلات العلمية، إلى حد أن وصف إبراهام اتجاه آينشتاين بأن له «تأثير التنويم المغناطيسي المخادع وخصوصًا على قليلي الخبرة من المشتغلين بالفيزياء الرياضية، مما يجعله خطرًا يعيق تقدم الفيزياء النظرية بشكل صحي!» وصول اللغة إلى هذا المستوى أوقف آينشتاين عن المساجلات على أوراق المجلات ولكنه لم يتوقف عن السخرية في مراسلاته الشخصية ومع زملائه وفي المؤتمرات من نظرية إبراهام. فقد وصفها مرة «بالنظرية السطحية الضحلة والتي لم يكن يتوقع أن تأتي من فيزيائي في مكانة إبراهام».
وعلى العموم، تستطيع أن تعرف المزيد من التفاصيل عن النظريات التي تعتمد تغير سرعة الضوء في آخر ثلاثين عامًا من هنا، وعلاقتها بالأبعاد الإضافية هنا.
بالعودة للجاذبية، بدا أنه كان لزامًا على من يسلك أيًا من طريق آينشتاين أو إبراهام أن يتقبل فكرة تغير سرعة الضوء بتغير المجال الجذبوي القياسي. وبينما كان إيشيوارا مهتمًا بنظرية آينشتاين عن الفوتونات -فأبحاثه في هذا المجال قادت دي برولي de Broglie إلى اقتراح ثنائية الجسيم/الموجة particle/wave duality- قرر إقحام نفسه في السجال بين آينشتاين وإبراهام. فاقترح إيشيوارا قبول تغير سرعة «الفوتونات»، مع إهمال مبدأ التكافؤ وتساوي الكتل القصورية والجذبوية باعتبارها -في رأيه- مشكلة «ميتافيزيقية» ولا ينبغي التركيز عليها! بل وكان جريئًا في اعتبار تساوي سرعتي الضوء والجاذبية دليلًا على كونهما موجة واحدة نابعة من مجال واحد ذي وجهين.
كان رأيه أنه كما تُولد الكهرباءُ المغناطيسيةَ والمغناطيسيةُ الكهرباءَ، فكذلك تفعل كل من الكهرومغناطيسية والجاذبية مع بعضهما البعض. ونجح بشكل ملفت للنظر عام 1915 في الجمع بين نظريتي آينشتاين وإبراهام في كونهما حالات خاصة من نظريته للمجال الجذبوي «القياسي» الأكثر عمومية.
لكن النسيان طوى أعماله بظهور النسبية العامة في نفس السنة – كنظرية «تنسورية»- مع كل نجاحاتها المتلاحقة. وحصل إيشيوارا على نصيبه من الدراما ولكن بشكل غير متوقع، حيث يذكر الجزء السابع من قاموس السِيَر العلمية Dictionary of Scientific Biography أن إيشيوارا اقترح أن يطور نظريته في خمسة أبعاد. غير أنه يكاد يكون مستحيلًا الوقوف على تفاصيل ذلك الاقتراح عندما نعرف أن جزءًا من أبحاث إيشيوارا غير منشور. كما ضاعت مسودّات تلك الأبحاث بكل أسف، لأن إيشيوارا توقف عن النشر العلمي وانسحب من المجتمع الأكاديمي بعد إجباره على تقديم استقالته من جامعة توهوكو Tohoku University عام 1921، وذلك عقب اكتشاف فضيحة علاقته بامرأة أخرى غير زوجته. ولذلك لا يمكن التأكد من كون تلك الأعمال ذات أفكار أصيلة، أم أنها كانت متأثرة بمنهجية نوردشترم، والتي سوف نناقشها فور التوقف عند نظرية مِي.
ألهمت طريقة إيشيوارا جوستاف مِي ليستخدم الميكانيكا الهاملتونية ومعادلات لا خطية بغرض وصف المجال الجذبوي والكهرومغناطيسي سويًا بمجال واحد كتعميم للفوتون. غير أن هذا التعميم لا يمكن اعتباره أول اقتراح لوجود الجرافيتون جسيم الجاذبية، حيث إن الجرافيتون يفترض أن يكون جسيمًا أصيلًا بينما كانت جسيمات مي شيئًا آخر. فبغض النظر عن عدم اتساق النتائج مع التجارب الفلكية، إلا أن محاولة مي تعتبر ثورية جدًا في وقتها لأنها تمثل السلف الأولي لنظريات الكم المعروفة حاليًا بالسوليتونات والجاذبية المنبثقة solitons and emergent gravity وفي توقيت يسبق نشأة ميكانيكا الكم بحوالي خمس عشرة سنة!
ليست نظرية واحدة، بل نظريتين، وبعدًا خامسًا، ومزيدًا من المساجلات!لفتت مساجلات آينشتاين وإبراهام نظر نوردشترم، وخصوصًا مسألة تغير سرعة الضوء بتغير شدة مجال الجاذبية. فمن خلال معادلة آينشتاين الشهيرة: E=mc2، ومع مراعاة تغير سرعة الضوء بتغير المجال الجذبوي، فإن الأجسام المتحركة تحت تأثير الجاذبية تتأثر أكثر بالجاذبية كلما زادت طاقة حركتها. هذا الاستنتاج شبيه بالاستنتاج الأرسطي – والذي أبطله جاليليو- والذي يعتقد أن الجسم الأثقل يصل إلى مصدر الجاذبية أسرع من الجسم الأخف، وهو ما جعل آينشتاين يرفض الإكمال في هذا الاتجاه. غير أن هذا الاتجاه مكن إبراهام من وصف الجاذبية بتنسور شبيه بذلك الخاص بقوة المجال الكهرومغناطيسي والذي قدمه منكوفسكي، وهو ما ركز عليه نوردشترم لاحقًا.
لكي يتغلب نوردشترم على مشكلة تغير سرعة الضوء بتغير المجال الجذبوي، اقترح في عام 1912 استبدال المتجهات التفاضلية المكانية في معادلات الحركة النيوتونية بمتجه التفاضل Lor الزمكاني الذي اقترحه منكوفسكي. وأضاف إلى ذلك أن تكون الكتلة الساكنة التي يقيسها مراقب ساكن مثلها معتمدة على المجال الجذبوي بحيث «تتآمر» مع طاقتها E=mc2 فتبقى سرعة الضوء ثابتة.
غير تلك الاقتراحات لم تراع طريقة متسقة لحساب تأثير الدوران على الأنظمة الفيزيائية، كما أنها خالفت مبدأ التكافؤ بين الكتلة الجذبوية والكتلة القصورية. ولكن أهم الاعتراضات التي واجهت نظريته الأولى هي ما أشار إليه ماكس فون لاوي Max von Laue -ووافقه عليه آينشتاين- في كون اعتماد الكتلة على قيمة المجال الجذبوي يولد مزيدًا من الطاقة بلا مبرر، وكانت الطريقة الوحيدة لتبرير هذه الزيادة أن يُوخذ بعين الاعتبار إضافة تفاعل بين الجاذبية والتسارع والذي يؤكد مخالفة مبدأ التكافؤ كما حدث مع نظرية إبراهام. كانت الفكرة قائمة على احتمالية أن يكون التركيب الداخلي للمادة على علاقة بهذه المشكلة. فكما كانت منهجية منكوفسكي مغرية لتطوير نظرية جاذبية في الزمكان رباعي الأبعاد، كانت مغرية أيضًا لتجعل لاوي يعمل على تطوير نظرية نسبية للأجسام المتصلة – كالموائع- بغرض وصف علاقة التركيب الداخلي للمادة بالجاذبية.
نشأ عن ذلك تركيب رياضي جديد، والمعروف حاليًا بتنسور الزخم – الطاقة- الإجهاد stress-energy-momentum tensor، حيث استخدمه لاوي لدعم نقده لنوردشترم، لكنه لم يدرك أنه نفس التنسور الذي سوف يستخدمه آينشتاين لاحقًا لوصف كيف تحني الأجسامُ الزمكانَ في النسبية العامة. وعرفانًا بجميل لاوي، نسب آينشتاين أحد شروط اتساق معادلاته إلى كمية قياسية وأطلق عليها قياس لاوي Laue scalar، وهو ما يعرف حاليًا بمجموع الأجزاء القطرية (الأثر) لتنسور الزخم – الطاقة- الإجهاد trace of stress-energy-momentum tensor.
بمراعاة هذه الاعتراضات، اقترح نوردشترم في عام 1913 تعديل نظريته لتشمل تأثيرات الإجهاد والقص stress-shear على الأجسام وتأثير ذلك على الحركة غير المتعامدة على اتجاه الجاذبية والتي كانت تتسبب دومًا في المشاكل السابق ذكرها. فاتضح أن الوصف السابق في حسابه للكتلة القصورية كان يراعي الكتلة المادية ويهمل تأثيرات الضغط الداخلي الناشئ من تركيب المادة وتعرضها لأي مؤثر خارجي. كما اقترح التحايل على ارتباط الكتلة بالمجال الجذبوي بأن جعل الكتلة القصورية متناسبة مع الكتلة الجذبوية من خلال تعديل ثابت الجذب العام بحيث يكون هو ما يعتمد على المجال الجذبوي.
هذا الاقتراح يعتبر السلف الأول لجميع النظريات المعاصرة التي تستلزم تعديلًا ثابت الجذب العام نتيجة وجود مجالات فيزيائية تعبر عما يعرف حاليًا بالطاقة المظلمة. وكانت النظرية الثانية متسقة ذاتيًا بحيث يمكن استنتاج معادلات الحركة من القواعد العامة لميكانيكا لاجرانج مثلها مثل الكهرومغناطيسية ومثل جاذبية نيوتن.
لاحقًا اشتبك مِي ضد آينشتاين ونوردشترم، فكانت رؤيته وحساباته تخبر بأن نوردشترم قد خالف مبدأ حفظ الطاقة، كما أنه كان حانقًا على آينشتاين ونوردشترم لأنهما لم يعطيا نظريته حق قدرها. لكن نوردشترم في النهاية تمكن من الدفاع عن نظريته بشكل جيد. وبعد خطاب الاستنجاد الذي أرسله آينشتاين إلى صديق شبابه، لفت جروسمان نظر آينشتاين إلى إمكانية استغلال اقتراحات برنارد ريمان Bernhard Riemann -قبل خمسين عامًا من هذه الأزمة- لإمكانية وصف الجاذبية بكونها نظرية ذات أصل هندسي، فيما عُرف باسم نظرية المخطط العام Entwurf theory. جدير بالذكر أن ريمان تصور وصف الجاذبية من خلال نظريته في الهندسة الريمانية لكنه لم يضمن الزمن بداخلها، حيث كانت نظرته للزمان في إطار الميكانيكا النيوتونية. ثم قرر آينشتاين نبذ فكرة لاتباين لورنتز تمامًا، وبمساعدة أدريان فوكر Adriaan Fokker -أحد طلاب لورنتز السابقين- أعاد آينشتاين وصف نظرية نوردشترم بطريقة هندسية، فاتضح له أن النظرية – بشكل مُضمر- تعبر عن كيفية تأثر حجم الزمكان – حالة وجود المادة- في صورة انحناء ريتشي القياسي Ricci scalar curvature.
وإذا صدف ورأيت معادلات آينشتاين للمجال المنبثقة من النسبية العامة، فإنك تعرف أن انحناء ريتشي القياسي هو نصف تلك المعادلات، والنصف الآخر أكمله آينشتاين وديفيد هلبرت David Hilbert كلٌ على حدة ليصبح لدينا النسبية العامة. ولذلك كان اكتشاف انحناء ريتشي القياسي في معادلات نوردشترم خطوة لا غنى عنها في الوصول إلى النسبية العامة، والتي قضت وبشكل نهائي على نظرية إبراهام، ونظرية آينشتاين عن الجاذبية كمجال قياسي، ونظرية إيشيوارا. لكنها لم تتمكن من القضاء على نظرية نوردشترم تمامًا لأسباب سنعرفها في المقال القادم.
قرر نوردشترم المواصلة في اتجاه نظريته لتوحيد الجاذبية والكهرومغناطسية. وعلى الرغم من أنه تم نبذ النظرية سريعًا لكونها مخالفة للقياسات الفلكية بخصوص مشكلة مسار عطارد، فقد كانت نظرية تأسيسية في تاريخ الفيزياء. فبنفس طريقة منكوفسكي الذي اقترح من قبل متجهًا رباعي الأبعاد لوصف الكهرومغناطيسية، اقترح نوردشترم عام 1914 – قبل اكتمال مشروع آينشتاين للنسبية العامة بسنة- وجود متجه خماسي الأبعاد يحوي بداخله المجال القياسي والاتجاهي للكهرومغناطيسية إضافة إلى المجال القياسي للجاذبية.
تبع هذا الاقتراح تعميم المتجه التفاضلي Lor ليعمل في خمسة أبعاد، واقترح وجود المجالات فيما سماه صفحة العالم Weltfläche -أو ما يعرف حاليا في نظرية الأوتار بالـworldsheet- مع شرط كون تأثير البعد الخامس منعدمًا عندما يؤثر في المتجه خماسي الأبعاد . ويعرف هذا الشرط بالشرط الأسطواني cylindrical condition. بدا ذلك الشرط غريبًا، حيث إن البعد الخامس متعامد بالضرورة على بعد الزمن، لكن الشرط يجعله متعامدًا بشكل مختلف عن تعامد الأبعاد المكانية الاعتيادية.
مما يلفت النظر أن الشرط الأسطواني على علاقة وثيقة بمفهوم الفضاء المتراص compact space وهو مفهوم حديث جدًا في عصر نوردشترم ولم يكن مكتملًا إلا بحلول الثلاثينيات من القرن الماضي. كما لا يوجد تبرير فيزيائي عند نوردشترم لمثل هذا الاقتراح. غير أن نوردشترم أشار بشكل غامض في نهاية البحث إلى أنه لا يستبعد كون هذا النوع من التماثل -الأسطواني- ذا أصول أعمق من مجرد كونه شرطًا فيزيائيًا لتوحيد الكهرومغناطيسية مع الجاذبية. لعل نوردشترم رأى في هذا الشرط علاقة هندسية أعمق من تلك التي رآها في منهجية منكوفسكي لكن الرياضيات لم تسعفه. وكان صدى هذا الاقتراح واضحًا في بدايات مشروع هيرمان ڤايل Hermann Weyl -بحانب أعمال مِي- لتوحيد الفيزياء في نظرية مجال هندسية، كما كان مؤسسًا لمحاولة تيودور كالوزا Theodor Kaluza عام 1919 لدمج النسبية العامة مع الكهرومغناطيسية، ومن بعده أوسكار كلاين Oskar Klein أثناء تقديمه ما يعرف بالترصيص/التراص التوبولوجي compactification في محاولته لتوحيد النسبية العامة مع ميكانيكا الكم، وهو ما سنناقشه في المقالة القادمة .
بقي أن نعرف أنه في العام الذي تلى استقالة إيشيوارا بعد الفضيحة، توفي نوردشترم في 1922 بسبب الأنيميا نتيجة تعرضه لجرعات عالية من الإشعاع أثناء دراسته للنشاط الذري. ثم تبعه إبراهام في العام الذي يليه 1923 بسبب ورم سرطاني. بينما دفع اليأسُ جوستاف مِي لترك الجاذبية والفيزياء النظرية ككل ووجه اهتماماته بالفيزياء العملية. فانتهت المناوشات بعد أن فرضت النسبية العامة هيمنتها، وخلا ميدان الجاذبية تمامًا لآينشتاين حتى إشعار آخر.
الجزء الأول :بين النسبية والكم: عديد من المعضلات بلا تسويات
حسن الشال - إضاءات
إضافة تعليق جديد