"نازك خانم" للحسن.. الذاكرة السورية
على الرغم من أن أجواء روايتها الجديدة مختلفة عن سابقاتها من حيث المكان والشخصيات، إلا أن لينا هويان الحسن لا تفارق كتابتها الماضية في روايتها الأخيرة "نازك خانم" الصادرة عن منشورات "ضفاف" (بيروت) و"الاختلاف" (الجزائر)؛ أقصد أنه من الصحيح أن الروائية السورية تغادر أجواء البادية – (وهو المكان الذي اكتشفناه معها بكلّ تفاصيله مع روايتي "بنات نعش" و"سلطانات الرمل") - لتدخل إلى المحيط الدمشقي مع روايتها هذه، إلا أن "الذاكرة" السورية، هي التي تجمع بين أعمالها كلها. من هنا، أن تغادر مكانا لتدخل إلى آخر وتروي عنه وتخبرنا حكاياته عبر حكايات شخصياته، قد لا يشكل قطيعة حقيقية. فهذا الانتقال في التاريخ وفي الحيّز الفضائي ليس سوى انتقال من مرحلة إلى أخرى في سياق تاريخ متكامل، أو لنقل في سياق ذاكرة متكاملة، هي في الحصيلة النهائية ذاكرة بلد وذاكرة شعب. لذلك أميل أكثر إلى اعتبار أنه إذا بدت الروائية متشعبة الخيوط في أعمالها المختلفة، إلا أنها في العمق، تنسج لوحة متكاملة لتاريخ بلد نجد أنه يقف اليوم على "مفترق طريق" كما على "مفترق مصير".
لا أريد من كلامي هذا أن أشير إلى أن روايتها سياسية أو تاريخية، أبدا، بل الجميل فيها أنها تكتب تاريخا خاصا، موازيا لما نقرأه في كتب التاريخ الرسمي، بمعنى أن ثمة شخصيات وأحداثاً قد تصنع التاريخي الحقيقي في الواقع، لكنها إن اختفت مع مرور الزمن فلأن تسارع الأحداث يجعلها تعود دائما إلى المرتبة الثانية، بينما هي في العمق، التي تستحق أن تكون تاريخا كبيرا.
هكذا تبدو "نازك خانم"، تلك الشابة التي عاشت حياة مليئة بالأحداث، لكنها أيضا مليئة بالذاكرة، التي كانت تقف دوما على حافة التحولات الاجتماعية، بل لنقل إنها في كثير من الأحيان ساهمت بأن تكون هي السبب في هذه التحولات، كأن تكون من بين أوائل اللواتي "ألبسهن سان لوران بدلة السموكينغ" أو أن تكون أول "امرأة ارتدت البيكيني في مسابح دمشق".
إذاً ثمة الكثير من هذه التفاصيل التي تزخر بها رواية "نازك خانم"، وما هذه التفاصيل في واقع الأمر سوى تلك الحركات "التحررية" (إن جاز القول) في دمشق الخمسينيات والستينيات، والتحرر هنا بمعنى الحراك الاجتماعي والثقافي، الذي من دون شك، يقود إلى تحرك سياسي بالمفهوم الأوسع للكلمة. ومن داخل هذا الحراك، لا بدّ من أن نقرأ التاريخين، التاريخ الخاص لنازك والتاريخ العام لمدينة دمشق بكل ما عرفته من تحولات في تلك الفترة الزمنية التي شهدت العديد من التحولات التاريخية العامة. بهذا المعنى، ربما لم يكن بمقدور نازك أن تكون "بطلة" هذه التحولات الشخصية، لو لم تكن المدينة أصلا تذهب إلى تحولاتها هي. لكن بين الأمرين، نقع على شخصية تعرف كيف تشدنا وكيف نقرأ سيرتها من دون أن تسقط لا الكاتبة ولا الكتابة، بلغة "الحنين المرضي" بل هي تفاصيل السرد التي تأخذنا نحن إلى الحنين، كأن نتذكر وكأن نقارن في الوقت عينه، بين تلك الفترة وبين اليوم.
لا أعرف إن كانت الصدفة هي التي قادت الكاتبة إلى موضوع مشابه، أي حين نجد نازك وهي تقود سيارتها بلباس رياضة التنس وبين أخبار "داعش" وأخواتها الآتية لنا من كل حدب وصوب. ربما ليس لنا أن نرهق القراءة في هكذا مقارنات (وإن كان ذكاء الكاتبة يجعلنا ننقاد إلى هكذا أمور من دون أن تشير إليها)، بل علينا أن نتمتع بمناخات ماضية تدفعنا أحيانا إلى أن "نبكي" على حاضر لم يعرف كيف يستقيم.
لأقل إنها رواية أشبه "بعلبة باندورا" (المرأة التي منحت كل شيء). فإذا كانت الآلهة قد منعت الإغريقية بفتحها كي لا تحل الكارثة، فأنا أرغب في أن تقرأوها قبل أن تحل الكارثة الحقيقية الراهنة.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد