مسيرة مع الجوع والكمائن والوشايات والأسئلة ..رواية الانسحاب من «الفرقة 17» (2)
نشر الجزء الثاني من رواية انسحاب مئات الجنود السوريين من مقر «الفرقة 17» في الرقة، من لسان أحد أصحابها، مع تحوير بسيط في أسماء الشخصيات والأماكن بناء على طلب المصدر.
لم يكن «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» قادراً على تغطية كل مساحة مقر القيادة، لذا تمكنّا من تحديد مخرج وحيد يمكن سلوكه للانسحاب.
كانت بحدود الثامنة مساءً، أدرنا المولدات الكهربائية وأبقينا الإنارة مضاءة، وقررت مجموعة من 30 قناصاً إشغال المهاجمين لتغطية انسحابنا. بقي إلى جانب القناصين اللواء علاء الدين رجب، الذي كان قائد أركان الفرقة ورقي قبل الانسحاب بأسابيع إلى منصب نائب قائد القوات الخاصة، وكان آخر من انسحب من الفرقة.
كانت تلك المجموعة من الجنود مكلفة بإشغال ما يقارب ألفي مقاتل من «داعش»، في سبيل انسحاب ما يقارب 800 عسكري وموظف من القيادة. وفعلا غادرت كل المجموعات قبل حلول الفجر، بمن فيهم القناصون واللواء رجب. إلا أن المعروف أن قسما كبيراً منّا استشهد على الطريق. أحيانا في كمائن، وأحيانا بسبب الضياع، وأحيانا أخرى بسبب إخباريات.
واتجهنا باتجاه عين عيسى، التي تبعد 70 كيلومتراً على الطريق الدولي عن مقر القيادة، لكننا سلكنا طريقا بريا باتجاه ملتو، وربما تضاعفت المسافة بسبب ذلك. واستغرقت الرحلة سيراً على الأقدام خمسة أيام تقريباً.
في اليوم الأول (ليل الأربعاء في 23 تموز) سارت المجموعة المكونة من 100 شخص في مجرى نهر البليخ، متفادية إلى حد كبير إحداث جلبة أو إثارة الغبار، وذلك حتى بزوغ ضوء الفجر، حيث استلقينا بين عيدان القصب متخفين عن الأنظار. كانت مجموعتنا محظوظة في يومها الأول. كثر قضوا في النهر، لاحقاً، وفق ما أخبرنا زملاؤنا. كانت رشاشات «داعش» تمشط الأنهار بالرصاص، ولا تذهب قبل نفور الدم في مائه.
ليلة الخميس ـ الجمعة كانت شبيهة بما سبقها. بعدما قطعنا مسافة طويلة سيراً في محاذاة النهر، حلّ الظلام، فقررنا الاختباء في مياه أحد روافد النهر مجدداً. اختار كل منا حزمة قصب أخفى فيها جسده من دون أن يبقى منه ظاهراً سوى الوجه. كانت ليلتنا الثانية في الماء. مع بزوغ الضوء تحركنا مجدداً في مجموعات تسير خلف بعضها البعض.
ما كنا نخشاه حصل يوم الجمعة المشؤوم في 25 تموز. كنا قد اقتربنا من نهاية مسيرنا لذلك اليوم حين واجهنا كمينا لقوات «داعش» قرب أحد المكاسر على الطريق، في منطقة تدعى الخريطة بالقرب من قرية اليرموك، وتبعد بضعة كيلومترات عن مدينة الرقة. كانت الخطة تقتضي السير بعيداً عن الطرق المعبدة، لكن خطأ حصل أثناء المسير ليلا، وفوجئت المجموعة بسيارات دفع رباعي تحاصرها بالقرب من إحدى التلال. تراجعت على رأس مجموعة صغيرة، مجردة من السلاح، فيما تصدى الآخرون بالرشاشات للمهاجمين. كان صد الهجوم مهمة مستحيلة. لذا فضل البعض إنقاذ رفاقهم على الموت الرخيص. كنت تمكنت ومجموعة صغيرة من الاختباء في حقل للقطن. من خلف أزهار القطن كان يمكن الشعور بما يجري قربنا. آخر من وصل من المقاتلين قال إنه رأى عناصر «داعش» بالوجوه الملتحية على بعد 500 متر من موقعنا تحز رؤوس شهداء الجيش الواحد تلو الآخر وتجمعها في أكياس.
كانت تعليماتهم، كما تبين لنا، تقضي بقطع الرؤوس وتجميعها مع أسلحة وهواتف القتلى. تعرض الرؤوس في ساحات الرقة، لإثارة المزيد من الرعب، وتمنع وقوع السلاح بيد أحد من أهالي المنطقة. هؤلاء بدورهم تقع على عاتقهم مهام دفن الضحايا التي في مناطقهم.
استلقينا على أرض الطمي الرطبة لزهر القطن. أعيننا في الوحل الأسود المبتل، بانتظار حلول الليل مجدداً. كنا من دون طعام منذ ليل أمس. لذا بدأت أيدينا تمتد إلى بذار القطن الحلو المذاق. أكلنا منه حتى شعرنا ببعض الطاقة. وزحفنا قليلا إلى عمق الأرض، لنفاجأ ببعض شتلات البندورة الأرضية. تذوقت حينها والجنود الأربعة أول حبة بندورة منذ عام ونصف العام. وبعدها وجدنا الفليفلة الحلوة وبعض ثمار الخيار. كانت رسالة ما، تلك التي جاءتنا بها ثمار الأرض. أنساني طعم البندورة الطازجة للحظات طعم الموت الذي كدنا نذوقه منذ ساعات. أبعدنا بومضات نحو بيوتنا ودفء أرائكها وحلاوة أوقاتها. كانت من أجمل ما حصل لي في الأشهر الماضية، رغم أنها جرت في أسوأ ظرف من حياتي.
نمنا بعدها حتى حلول الظلام. وتبعنا من جديد نجمة القطب. كنا من دون سلاح. بأحذية رياضية، نتحرك بمحاذاة تفرعات نهر البليخ معتمدين على حدسنا لا أكثر. كان من المحظر سؤال أحد بسبب الخوف من مخبري «داعش». لاحقا سمعنا بقصص كثيرة عن أسر تعرضت للانتقام الشديد بالذبح من التنظيم لمساعدتها أو إيوائها مقاتلي الجيش. آخرون باعهم رعاة بسبب الخوف أو المال. كان علينا أن نعتمد على حظوظنا ومحاسن الأقدار. كانت تلك التي قادتنا إلى الرقاوي أبو إبراهيم، والراعي الذي تلاه. وربما أمثال هؤلاء هي التي أوصلت ما يقارب 400 مقاتل منا إلى مشارف عين عيسى، بعضهم نقله سكان بسياراتهم إلى اللواء المحاصر. بعضنا الآخر، كما علمنا لاحقا، ظهروا في خناصر في ريف حماه، بعد أن تم تهريبهم على حواجز فصائل الشمال الكثيرة. وثمة عدد كبير آخر لا يعرف أهله عنه شيئا، إلا أن الأمل يبقى، فثمة من ظهر بعد عامين من الاختطاف، رغم تسجيله متوفى في قيود الدولة، وأحيانا دفنه، بمراسم رسمية.
حين وصلنا مشارف عين عيسى، بدت لنا خزانات مياه اللواء، والإنارة قرب بواباته. لم يكن ممكنا التأكد من شيء حينها. كانت نصائح أبو إبراهيم، نسبة لما يسمع، بأن بلدة عين عيسى تحت رقابة «داعش»، لذا يجب تجنب بوابة اللواء الرئيسية. دخلنا زاوية الموقع الغربية، بعد أن شاهدنا آثار حركة الدبابات بالقرب من الساتر الترابي. عرفنا حينها أننا وصلنا أخيرا. كان ذلك النهار أول يوم عيد الفطر. لكن لم يكن ذلك يعني شيئا. تلقانا «الشباب» بالأحضان، وأجريت أول اتصال هاتفي بأسرتي منذ أسابيع، وقعت بعده أرضا فاقدا للوعي. لكنني الآن بعد مضي أسبوعين، أتساءل لماذا كان خوفي في أشده، وأنا أقف منتظرا أمام الباب الحديدي في آخر محطة بالبلدة الرقاوية؟
كنت أسأل نفسي، مستندا للباب، من سيكون مضيفنا وكيف سيتصرف؟ أعلم أن الرجل لن يخاف عسكر النظام؟ فنحن هاربون تائهون، ولن يأتي أحد للانتقام لنا. خوفه سيكون من أعدائنا وشراستهم المعروفة. لم سيساعدنا؟ فكرت باختلاق كذبات لكن عينيّ لم تكونا قادرتين على اصطناع سوى تلك النظرة التي كانت تكسو وجهي. كنت عسكريا نظاميا من جيش البلاد تائها في صحراء بلادي هربا من عدو بربري.
ضمن هذا التصور، الذي كنت مؤمنا به، كان على الرجل أن يجيبني عن أسئلتي التي لم تتوقف منذ عام ونصف العام من الحصار، خصوصا ونحن نطحن الحنطة بوسائل بدائية لنحولها خبزا نأكله. هل نحن في بيئة صديقة أم لا؟ هل نقاتل لإنقاذ بلدنا أم أنفسنا أم مناطقنا النائية؟ هل نحن أهل؟ هل نحن في صراع طائفي؟ هل هي مؤامرة؟
خدمت لسنوات طويلة في الرقة، والجزيرة، وكنت أريد أن أعرف. كنت لا أخاف الموت. كان الموت على يد مضيفي يعني أن شكوكي في مكانها. كنت أخاف شكوكي أكثر من الموت. لكن الرجل وأسرته الذين منحونا حياة إضافية، كانوا شعب سوريا الذي نقاتل من أجله. أو أفضل ما تبقى منه.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد