خمسة أيام للوصول إلى «اللواء 93» .. رواية الانسحاب من «الفرقة 17» (1)
مساء الثالث والعشرين من تموز الماضي، خرج المئات من جنود الجيش السوري من قيادة «الفرقة 17» في ريف الرقة، في انسحاب لا مفر منه، بعد هجوم نفذه عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش».
سار بعض الجنود لخمسة أيام حتى وصلوا نقطة آمنة. بعضهم لم يصل. والبعض الآخر انقطعت أخباره من لحظتها. الرواية التالية هي لمجموعة من خمسة أشخاص، يقودهم ضابط متوسط الرتبة، وصلوا دون العشرات من زملائهم أحياء إلى مقر «اللواء 93»، بعد مسير مئة كيلومتر.
ننشر الرواية عن لسان أصحابها، مع تحوير بسيط في أسماء الشخصيات والأماكن بناء على طلب المصدر.
السابع والعشرون من تموز. الساعة الواحدة صباحا.
«انتظرنا حتى الواحدة صباحا. كان يجب أن نؤمن بأنه لو كتب لنا الموت سابقا لما فتحت لنا الأقدار ممرا للهرب. أربعة أيام من جر الأرجل، والاستلقاء في الأنهار ومقارعة اليأس. الجوع والعطش وأوجاع الإصابات والأمراض. لكن كانت تلك اللحظة هي الأصعب. اللحظة التي طرقنا فيها باب أحد البيوت على أطراف بلدة رقاوية. وانتظرنا من يفتح الباب. كانت تلك اللحظة هي الأثقل في محنة الأيام الخمسة».
كان المنزل على طرف أحد أحياء البلدة، غير منار، بسبب انقطاع الكهرباء، تتوسطه ساحة صغيرة، ألقيت بها ألعاب أطفال معطوبة. طرقنا بابا حديديا، وانتظرنا لبرهة، بعد سماعنا جلبة صغيرة في الداخل، ومن ثم خطى ثقيلة بدت لرجل. لم يسأل مَن في الباب، وفتح موجها بطارية مشعة إلى وجوهنا.
سألت بصوت جاف تعب: أين نحن يا عم؟.
قال في قرية (..) في الرقة.
نفدت أنفاسي. كان اسم القرية معروفا للغاية بالنسبة لنا كأهم مقر لـ«جبهة النصرة» منذ عام، وذلك قبل أن تهرب قياداتها تحت ضربات «داعش» قبل أسابيع عدة، ويحتلها التنظيم.
تفحصت ما بدا لي ظاهرا من عيني الرجل خلف الضوء، وقلت له بكل صراحة. نحن عسكر.
أجاب بثقة: عرفت.
وَأَضَعْنا الطريق إلى عين عيسى، أضفت.
سأل: من أين انتم؟
أجبت: ثلاثة من الساحل. اثنان من دمشق.
سكت قليلا، ثم قال وهو يفسح لنا الطريق بمصباحه: سيصيبكم ما يصيبني. لكن لا تستطيعون أن تبيتوا هنا، لأننا سنذبح إن اكتشفنا.
دخلت والمجموعة دار الرجل. كانت مضاءة هي الأخرى بشاحن صغير مثبت على الجدار، وقد انتشرت على الأرض وسائد وفرش تقليدية، كما في كل بيت في ريف الرقة. طلب منا أن نجلس حيث نرتاح. على الجدار صورة واحدة لرجل مسن، ربما يكون جد الأسرة، ولوحات دينية. يوجد تلفاز صغير مطفأ على طاولة صغيرة. افترش الجنود الأرض، وغاب الرجل بعد أن ترك مصباحه. كانت المجموعة تحاول تفادي التفكير بنوايا المضيف. كنا منهكين، وجائعين، وتائهين في الصحراء، وأصبحنا تقريبا لا نكترث كيف تنتهي هذه المحنة. استأذن الرجل، الذي بدا ستينيا، ولكن بملامح فتية «الشباب»، فدخلت شابتان محجبتان، وقدمتا لهم صينية طعام. كانت أول وجبة طعام تقليدية يتناولها أي منا منذ عام ونصف العام. سحور مجهز من المساء من البطاطا المهروسة بالزيت، والمرتديلا وأجبان، وإلى جانبها شاي حلو.
سألنا الرجل، الذي طلب أن نناديه بابي إبراهيم، إن كنا نرغب بتبديل ثيابنا. كنت قد اعتدت بذلتي رغم أنني استلقيت لليلتين في مجرى نهر البليخ، وهو أحد فروع نهر الفرات الكبرى. جفت البذلة علي، وأصبحت جزءا مني، ملتصقة بجروح الشظايا، والرصاص. لكن شابين رقيبين في الجيش بدلا قميصيهما الممزقين، وارتديا ثيابا بدت من قياس الرجل. قدمت لنا الشابتان، وهما ابنتاه، حلوى رمضان من القطايف أيضا. لم تقولا لنا شيئا سوى أهلا وسهلا، لحظة دخولهما علينا. والحمد لله على السلامة لاحقا.
قبل الفجر بقليل، طلب الرجل أن نتبع إشارته باتجاه حقل قريب تتطرف به هضبة، يعلو قسما منها الشوكُ والعشبُ الطويلُ. ذهبنا قبل طلوع الفجر نتحسس طريقنا، منهكين بعد الوجبة الاستثنائية، حتى وصلنا تجويف الهضبة المقصودة، واستلقينا به. تغطينا والجنود بأربع بطانيات بنية اللون، ونمنا حتى الرابعة ظهرا. استيقظت حينها على نباح كلبين، بدَوَا قربي. عندما فتحت عيني كانت عينا الكلبين تطلقان شراراتهما باتجاهي. طلبت من الجنود عدم الحركة. كانت ثمة رائحة كريهة تبعث نسبيا على الاطمئنان، وهي رائحة دواب وخرفان. رفعت رأسي قليلا، فازداد النباح، وبدت غمامة غبار بعيدة، وسرعان ما سمعت صوتا يقول بلهجة محلية آمرة لا تتحركوا.
جفت الدماء في عروقنا مجددا، فعدت إلى وضعيتي السابقة. لكن الصوت تابع، بلهجة أكثر صرامة، لا ترفعوا رؤوسكم. ثم تحدث الصوت إلى الكلاب آمرا إياها بالابتعاد فيما اقتربت خرفان إلى نقطة اختبائنا. لحظات قليلة وظهر رأس راعٍ مغطى بكوفية بيضاء مغبرة، لا تخفي وجهه الأسمر. من دون أن يلتفت باتجاهنا تابع: «في دورية. لا تتحركوا. هلأ شوي وبيروحو».
وبالفعل، سمعنا صوت محرك ثقيل لعربة عسكرية على مسافة ليست بعيدة. التقت أعيننا برضى «ابن حلال آخر!».
مساء عاد الرجل، يحمل لنا 20 ليترا من الماء النقي والبارد. فواكه للطريق. قبلنا واحدا تلو الآخر، ودلنا على الطريق بتفاصيله. اطلعنا على عمق ترع «السقاية» التي سنواجهها. نصحنا بتجنب المناطق المأهولة. حذرنا من مناظير «داعش» الليلية، ونصحنا بعدم التوقف عن السير في الصحراء التي ستقودنا شمالا نحو عين عيسى، مشيرا إلى أن العبارات التي اختبأ بها بعض جنودنا كانت بمثابة مصائد لصيادي التنظيم.
مع أفول الشمس، أرسل لنا أبو إبراهيم ابنه يحمل كيسين من القماش، بطبختي محاشي باذنجان. طلب منا ابنه أن نحذر. وتمنى لنا السلامة.
كان قد مضى على مغادرتنا قيادة الفرقة 72 ساعة. كانت الثامنة مساء حين راجعت الخطة مع مجموعتي للانسحاب قبل ثلاثة أيام. التعليمات كانت بالمغادرة بمجموعات صغيرة، باتجاه منطقة اللواء في عين عيسى، مرورا عبر مجرى النهر، نحو قرية حزيمة وصولا الى تل السمن باتجاه عين عيسى. قررنا تخفيف حمولتنا قدر الإمكان، بسبب طول الطريق، وانعدام الجدوى القتالية. كان يكفينا سلاح خفيف وسلاح ابيض وبعــض القنابل الدفاعية. أكثرنا من الماء وبعض الأدوية المضادة للالتهاب، والمسكنات. كنت اصبت بالتفجير الانتحاري الأول في كتيبة الكيمياء، وتلقيت شظايا في بطني وفخذي ورأسي. لكن إصابتي لم تكن خطرة، وكان يمكن تأجيل العلاج الطويل الأمد. نجم الانفجار عن عربة «بي أم بي» يقودها انتحاري. لم نتمكن من إيقافها رغم القذائف التي أصابت منتصفها. في النهاية انفجرت على السور الترابي الأول للمقر، وتلاها اشتباك قريب. وفي الثالثة صباحا ومع انقشاع الغبار، تبين لنا أن المعركة المقبلة أصبحت صعبة، نظرا لتقدم العدو، وإمكانية شن هجمات أكثر فاعلية. قررنا إعداد خطة الانسحاب، والاتكال على الله.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد