لؤي كيالي بعد ثلاثين عاماً على رحيله..احترق عقله قبل أن يحترق جسده
قد تقسو الكآبة وتتحوَّل إلى حزنٍ مأساوي, حزن يتدفَّق ألحاناً, يعرِض عوالم فكرية تدشِّن أو تستبق/ تتنبَّأ وجودَ أو عدمَ وجود لحظة الحرية.
هي كذلكَ؛ ونحــن نستــقبل الذكرى الثلاثين (26/12/1978) لــيوم رحــيل الفــنان لــؤي كــيالي.
فرقٌ بين مثقَّف مجالِدٍ ومساومٍ مجادِل, لؤي لم يكن ليجادل ويساوم؛ فلسطين قضية قومية أولى عاشت معه حتى لحظة رحيله, وأذكر أنَّنا يوم سافرنا معاً إلى عمَّان في عام 1978 ليقيم معرضاً لأعماله؛ أوَّل ما وصلناها طلب مني أن نزور مخيمات الفلسطينيين فيها؛ فذهبنا إلى «مخيم الحسين» فشافَ ما شافَ وبكى ما بكى ـ لقد أحدثت «الشوفة» هذه صدعاً عميقاً واسعاً في نفسه وقرَّر أن لا يعرض أعماله.
لؤي كان يحلم, لم يكن مجنوناً كما أراد له أقاربه ومديرُ صحَّة حلب يومها أن يكون, أرادوه مصاباً بالصرع, ووضعوه في حجرة بالمستشفى كأنَّها تابوت. وهذا ما دفع مدير الثقافة ( بكري الناصر) لأن يطلب من محافظ حلب إطلاق سراحه وإخراجه من هــذا المشفى؛القبر. ففنَّانٌ مثل لؤي كيالي وكما رأى مدير الثقـافة حينها؛ ليس مكانه مشفى الأمراض العقلية التي ورَّطه فيها عمه الطبيب طه اسحق كيالي, ومــن ثمَّ عمَّته, ومن ثمَّ صهره, ومعهم أحد الأطباء الــذي رأى في تقــريرٍ له ضرورة الحجر عليه تحت الرقابة لخطــورة وضعه الصحي فاستقبلته المشافي العقلية ولثلاث مرات في: 5/5/ 1970 , و26/1/1971 , و4/3/1973. تقدَّموا ببلاغاتٍ إلى الجهات الرسمية في مدينة حلب طلبوا فيها إدخاله إلى مشفى الأمراض العقــلية والنفسية ليسجنوا ما بقي من عقله؛ عقله القوي والثــوري ولا سيما أنَّ لؤي في حينها كان ممَّن فتــنوا بالأحــزاب والسلطات التي كانت تقدِّم نفسها على انَّها تحــمل مشروعاً نهضوياً ثورياً عربياً. لكن أصابعه التي يرســم بها ماسحي الأحذية؛ وبائعي الصحف؛ والذرة؛ والعلــكة؛ والجوارب؛ والصيادين؛ والنساء الحبالى؛ والزهــور؛ والنائمين في الطرقات؛ تهدِّدنا بالاحـتراق في العــقل الذي ما عاد عقلاً.
لؤي كان كذلك وأكثر. ثمَّ إنَّه كان يقبل أن يموت جوعاً ولا يطلب من أحدٍ حسنةً, ولم يكن كغيره من الفنانين يبحث عن المال والسلطة. فقد اقتربت منه أحزاب سياسية كثيرة كما روى لي؛ وكما أعرف.. فرفض أن يشتغل لها أو يكون عضواً فيها, كما انَّه لم يكن في صراعٍ مع السوق لبيع لوحاته, فهو لا يجهد نفسه رغم إنَّه كان قادراً على تحقيق مداخيل تصل أرقامها إلى الآلاف وعشرات الآلاف من الليرات السورية وهــي أرقــامٌ كبيرةٌ في حينها لكثرة الطلب على لوحاته, إلا إنَّه لم يســتغل ذلك, وكان يكتفي ببيعها بمئات اللــيرات. أذكــرُ مرَّةً في أحد معارضه وبعد أن اقتنت سيِّدة حلبــية لوحة له أرادت أن تضاعف ثمنها مرَّات ومــرَّات فرفضَ ذلك, وهدَّدها بالنكول عن البيع.
لؤي كيالي لم يبحث عن الثروة. في عام 1967 وفي شهر حزيران وبعد هزيمة أنظمتنا يبيع قطعة من أثاث منزله ويبرق بثمنها إلى «يوثانت» أمين الأمم المتحدة حينها يطالبه فيها بالعمل على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها. كان يبحث عن الكرامة التي افتقدها العقل فيرد له اعتباره. تسمُّونه مجنوناً ليكن. فالذي يجري من مؤامراتٍ وتصفيات للعقل العربي المفكِّر يدفع الواحد منَّا لأن يكون مجنوناً.
الجنس والحب
هناك جانبٌ خفي في حياته، كان يتهرَّب منه، كان يرعبه. إنَّ أيَّ كلام عن الجنس وعن الحياة الزوجية، كان يدفع به إلى أقصى حالات الضيق والقهر، في حديثنا مع بعض ونحن في الطريق من حلب إلى عمَّان سألته: لماذا لا تتزوَّج؟ أجابني: اجتماع الرجل والمرأة في بيت الزوجية ربَّما هو اجتماع لتقديس وتمجيد الجنس، لكنَّه بنظري هو تدنيس له، ألا ترى أنَّه وجهٌ من وجوه العنف لكنَّه يتم برضى الطرفين ـ المرأة والرجل (!!) وأردُّ عليه: لكن فيه عذوبة تعدل من عنف اللقاء، بل تحيله إلى متعة، متعة مقدَّسة. ويجيبني: إنَّ المقدَّس، مقدَّسك هذا، غير قادر على تطهيرنا من لوثة الكفر إلا إذا كانت الغاية تخصيب العقل. الفكر لا يتجانس مع اللذَّة إلا إذا كانت من نتاجه، إلا إذا كانت فكرة، ألا ترى أنَّ هناك أفكارا مؤنَّثة وأفكارا مذكَّرة؟.. كيف نجانس ما بينها؟. هل تعرف أنَّ الخلاف بين المرأة والرجل هو من اجتماع فكرتين من نفس الجنس. كذلك الحروب التي تحدث باستمرار، هي نتاجٌ لاجتماع فكرتين وليس خلافاً على حقــوق أو مكتسبات. فأقول له: يعني أنَّ مستبدَّاً يُزيح مستبدَّاً وليــس عادلاً يزيح طاغية، الجمال يزيح البشاعة، جسدٌ جمــيل يزيح جسداً بشعاً وهذا صراع يخـتلف عن صــراع فكــرتين من نفس النوع.
أحياناً كنت أعتبر لؤي مخادعاً لأنَّه يُخفي عنَّا الكثير من عواطفه، إنَّ حبَّه لمغنِّيةٍ من الدرجة العاشرة في أحد أندية الليل بحلب، هو حدثٌ استثنائي وعابرٌ رغم ولعه الشديد بها، لأنَّه شابٌ وهي عجوز, لؤي عندما كنت أذكِّره بهذه المغنِّية الختيارة (روحية عبد الخالق) كان يفرُّ و يذهب بعيداً.. ويرميني بالمثل الصيني: إذا كان معك قرش فاشترِ بنصفه زهرة وبالنصف الثاني رغيف خبز. ويتكلَّم بلهجةٍ عنيفة ويقول لي: لقد تنبَّأت بنكسة حزيران .1967 بعد النكسة أحرق لوحات معرضه (في سبيل القضية) الذي أقامه قبل شهر من اندلاع حرب 67 وأصيب بمرضٍ نفسي لازمه حتى وفاته محترقاً عام .1978 ماذا تريد مني أن أفعل أكثر من هذا؟ الفنان يتنبَّأ، يحذِّر، يرى بعين القلب والعقل فينكشف له المستقبل، والرؤيا عنده تَتَّسعُ دوائرها فيرى ما لا يراه القائد العسكري والقائد السياسي.. هذه فروسية الفنان وفراسته. أنا لا أشعر بالذنب، أنا أشعر بالألم.
الجمال
الغريب أنَّ لؤي لم يرسم مغنِّيته هذه؛ في حين أنَّه رسمَ العديد من النساء ممَّن كان يعرفهن أو يتخيَّلهن بعددٍ من الأوضاع..، وبكافة الاعتبارات والامتيازات والتبدلات التي تعرَّضن لها من فيزيولوجية إلى نفسية, وكان في ذلك يحاول أن يفرجينا جمالهنَّ وليس تعاستهنَّ وأحزانهنَّ وبكثير من الثراء الروحي. لكنَّه من جانبٍ آخر كان يعتبر نفسه فارساً فلا يلين لهنَّ ولا يجاملهنَّ؛ كنّا نسهر في بيته في «حلب/ فقُرِعَ الباب, فتحه؛ فدخلت امرأة على ذاتٍ من الجمال وبمنتهى الأناقة؛ كانت تريد أن تشتري لوحةً منه لكن على أن يرسمها بحيث تتناسب مع ديكور منزلها الجديد فطرَدَها. فقلت له: أَوَتُشهرُ السيف في وجه امرأة؟.. فأجابني: كيف تدنِّس شرفَ الفنان وأسكت؟.أنا لست خياطاً ولا قندرجياً!!؟. وأسأله: لو أنَّ مغنِّيتكَ طلبت منكَ ما طلبت هذه المرأة هل كنت ستطردها؟؟. يُشعل سيجارة ويعبُّ منها نفساً عميقاً ويقول: هناك فرقٌ بينهنَّ. أنا أعرف أنَّه كان يحبُّها، يحب مطربته وسيدافع عنها، لكنَّني لم ألمحه في يومٍ ما أهداها وردةً أو لوحة. سألته: لقد أحرقتَ مبلغاً كبيراً (خمسمئة ليرة) ثمن لوحة لك من أجلها، من أجل روحية عبد الخالق وهي تغني في نادٍ ليلي، وأنتَ تعرف يا لؤي أنَّها مغنِّية من الدرجة العاشرة؟. يفتل شاربيه، ويرفع رأسه عالياً وقد أغضبه رأيي: وما المانع؟؟. يجيبني لؤي, ويستطرد: بالنسبة لي هي مطربةٌ من الدرجة الأولى, هذا إحساسي بها؛ «فان غوغ/ قطعَ أذنه من أجل حبيبته. معنى هذا يا لؤي أنَّك تحبُّها؟ يسكت. ثمَّ يفتل شاربيه ثانيةً وأقول له: قياساً إلى ما فعله «فان غوغ/ أنتَ لم تفعل شيئاً؛ أنت لم تهدها ولو وردة. ينهض واقفاً يسوِّي بنطاله ويشعل سيجارةً ثانية ويقول:وهل تريـــدني أن أقطع أذني. هل يروق لكَ ذلك؟!؟!!
لمَّا احترق لؤي وكان ذلك مساء يوم 10/9/1978، احترق من جراء (سيجارة)؛ نامَ وهي في يده فأتت على بطنه وجهازه التناسلي وماتَ على إثرها بعد علاج استمرَّ ثلاثة أشهر كأنَّها جاءت بمحض الصدفة، أو كانت قدراً. لكن لما قال لي عندما عدته في مشفى الجامعة بحلب: «أنور» أنا لم أنتحر؛ كان برأيي يدفع عن روحه والآثام التي ارتكبها بحقِّها، كأنَّ روحه، كأنَّه يريد أن يطهِّرها. بالتأكيد هو لم يتهرَّب، لم يهرب من المدنَّس إلى المقدَّس, ولا من المقدَّس إلى المدنَّس. لؤي ربَّما ودون تصميمٍ عاقبَ نفسه, عاقب جسده؛ عاقبنا.
وكأنَّه وضعَ حداً لشطط غرائزه وعلى حساب الفن، الفن الذي انشغل طوال حياته به، هو أخذ قدراً بسيطاً من الفن لكنَّه أعطاناً قدراً أكبر من الحريَّة في تلمس قضايا وطنية وقومية وإنسانية في أعماله.. لوحته/ثمَّ ماذا/, معرضه «في سبيل القضية»؛ كمثالين يدللان على أنَّه فنان نخبوي. وهو لمَّا رسم الصيادين وبائعي الصحف وماسحي الأحذية والمرأة ـ المرأة في كلِّ أوضاعها لم يكن ليرسم مجوناً في لوحاته، على العكس فقد كان يُرينا المرأة وهي في أقصى درجات القوَّة والعفَّة.
لؤي كيالي كان يعتبر نفسه بطلاً، ولأنَّ البطل قدوة، ومهما أذنــبَ فإنَّ العفوَ سابق؛ لأنَّه لا يزال يسترقُ الدهشة والإعجاب منا؛ الإعجاب بالقوَّةِ، قوَّته. لؤي كيالي كان يرى نفــسه قــوياً وقدوة، لذا دافع حتى موته عن هذه القوَّة.
أنور محمد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد