كيف يقرأ كتّاب مسلمون الإسلام
يحتل الاسلام كدين، والاسلام السياسي كحركات اسلاموية، موقعاً رئيسياً في السياسات الرسمية العربية والعالمية وفي المناقشات الفكرية المتعددة. وقد ازداد هذا الاهتمام بعد هجمات 11 ايلول في الولايات المتحدة الاميركية، فجرى تصنيف الاسلام ديناً محرّضاً على العنف والارهاب. يقدّم العديد من الحركات السياسية الاسلامية، في نشاطه المتعدد الوجه، مبرراً لالصاق هذه التهمة بالاسلام. لا يقتصر الاهتمام على العالم الغربي، بل تدخل منطقة الشرق الاوسط كعنصر اساسي في السجال، فهي منطقة ملتهبة يحتل الصراع الطائفي والمذهبي حيزاً مهماً في حراكها، وتمارس الحركات الاسلامية دوراً نشطاً في أكثر من بلد عربي. ويزيد من هذه الاهمية ما بدأ يتم تداوله عن صراع بين شرق أوسط جديد ترعى قيامه الولايات المتحدة وشرق اوسط اسلامي تقوده وتدفع به الجمهورية الاسلامية في ايران. أما أخطر ما يواجهه العالم العربي فهو تحوّل بعض قضاياه المركزية من وجهة عروبية في تاريخها وموقعها الى قضية تخص الدين الاسلامي، على غرار ما تجري اعادة تعريف للصراع العربي - الاسرائيلي.
انخرط كثيرون في السجال حول الاسلام السياسي وحركاته، وصدر أدب غزير خلال العقود الاخيرة، منه ما اتسم بالموضوعية والتحليل العلمي للظاهرة، ومنه ما اتسمت قراءاته بنظرة سلبية أو بقراءة ايديولوجية منحازة. تعاطت دور النشر العربية بتحفظ عن الدراسات النقدية العلمية والصريحة منها، فيما تميزت دور قليلة جداً بإصدار الكتابات التي تصنّف في خانة الممنوع والمحظور التفكير فيه والتعبير عنه، وتأتي في طليعة هذه الدور "منشورات الجمل" التي دفعت ولا تزال ثمن جرأتها، منعاً لمنشوراتها ومصادرةً لها وهجوماً عليها من المؤسسات الرسمية والدينية على السواء.
يعرض هذا المقال لمعالجات قام بها عدد من الكتّاب المسلمين وتناولت ظاهرة الاسلام السياسي، ويعطي حيزاً لكاتبين غير مسلمين تطرقا الى الموضوع وامتازت معالجتهما بحجم كبير من الموضوعية، وهما الكاتب اللبناني جورج قرم، والكاتب الفرنسي فرنسوا بورغا.
- يرصد تركي علي الربيعو في كتابه "الحركات الاسلامية" معالجة عدد من المفكرين العرب لظاهرة نشوء الحركات الاسلامية، ويرى ان الخطاب اليساري يعطي اهمية لهزيمة حزيران 1967 بوصفها مفتاحاً لقراءة الظاهرة، حيث كشفت الهزيمة انحطاط البورجوازية العربية وتراجع المشروع الوطني وغياب البديل الثوري للبورجوازية الصغيرة ودخول حركة التحرر الوطني أزمة مستعصية. ترافق ذلك كله مع تقهقر اجتماعي وانتشار واسع للأمية في العالم العربي، مما ضاعف من ازمة الانسان العربي النفسية والعصبية، التي تشكل اساساً موضوعياً للتزمت والتمسك بالتقاليد وتدفع الى الارتماء في احضان الدين. اضافة الى هذا العامل الموضوعي في النشأة، يمكن تسجيل استخدام السلطة الرسمية للحركات الاسلامية في صراعها مع القوى المعارضة وخصوصاً اليسارية منها، وابلغ الادلة كانت سياسة انور السادات في تصعيد الدور السياسي لـ"الاخوان المسلمين" في مصر.
يلقي الكتاب الضوء على قرارات اخرى، فيشير محمد عابد الجابري الى ان الاسلام السياسي هو إنتاج هزيمة الراديكاليين العرب ومساعدة دول النفط للحركات الاسلامية، فيما يربط محمد اركون تنامي ايديولوجيا الكفاح ضد الامبريالية، ومنه الكفاح ذو الطابع الديني، بتراجع الدولة العلمانية، كما يشدد على ان الخلط بين الدنيوي والمقدس، وبين الدين والدولة، يعود الى خضوع علماء الدين والفقهاء للسلطة السياسية.
يعطي عبد الوهاب المؤدب في كتابه "عظات مضاءة" اهمية للتقهقر الحضاري الذي اصاب العرب منذ افول عصورهم الكلاسيكية التي تميزت بمناقشة فكرية وانفتاح على الفلسفات والحضارات الاجنبية، ويرى ان الانهيار الحضاري للعرب بدأ بانتصار اهل التقليد والتفسير الحرفي على المعتزلة وما نجم عنه من ضرب للمذهب العقلاني والتأويلي في الاسلام. أما في العصر الحاضر، فقد تسبب اجهاض التيار العقلاني في سيادة الاسلام التقليدي الذي مثّله "الاخوان المسلمون" ونهض على هزيمة الفكر التجديدي الذي سعى اليه جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وغيرهم من رواد النهضة العربية. ويضيف المؤدب ان اسباباً خارجية ايضاً ساهمت في صعود الاسلام السياسي، ابرزها السيطرة الاستعمارية على بلدان المشرق العربي، وخصوصاً منها إنشاء دولة اسرائيل على حساب الشعب العربي، وهو ما عنى للعرب خيانة الغرب لمبادئ التنوير وحقوق الانسان وتغليب مصالحه السياسية والاقتصادية عليها.
يعيد جورج قرم في كتابه "المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين"، من موقعه كباحث في شؤون الشرق الاوسط، انبعاث الهويات الدينية واللجوء الى الدين سياسياً وايديولوجياً، الى كون كل من الديانات التوحيدية الثلاث تتميز بنوع من "الاصطفائية". تعتبر الديانة اليهودية نفسها اولى الديانات واساسها لان الله نظر الى الشعب اليهودي كـ"شعب الله المختار"، فيما ترى المسيحية تميزها واولويتها من كون المسيح في نظرها هو الله متجسداً في انسان. أما الاسلام فيصنف نفسه "ابن الله"، فيما المسلمون "خير أمة أخرجت للناس".
يشدد قرم على ان انحراف الهوية الدينية يعود الى استخدام الدين في النزاعات والصراعات السياسية، والى وجود عوامل خارجية فاقمت التطرف الاسلامي، مثال نظريات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الاميركية واستراتيجيتهم الامبريالية في العالم، الدافعة في اتجاه التحريض الديني، وخصوصاً بعد تصنيف الدين الاسلامي ارهابياً. وساهمت هذه المواقف الغربية في بروز ردود فعل داخل العالم الاسلامي رأت بموجبها ان هذا الغرب يخوض ما يشبه "حروباً صليبية" ضد المسلمين ويسعى الى السيطرة على العالم العربي عبر دعمه حليفه الاساسي اسرائيل. لذا يدعو قرم الى اعطاء الاولوية لقراءة اسباب صعود الحركات الاسلامية واستخدامها الارهاب، بوصفه جواباً عن الاحتلال العسكري للمنطقة والاستعمار الصهيوني لفلسطين، اضافة الى التهميش الاجتماعي للغالبية الساحقة من المواطنين، وسوء التوزيع الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتحكم الانظمة السلطوية برقاب الشعوب العربية وقمعها ومصادرة حرياتها.
يقرأ الكاتب الفرنسي فرنسوا بورغا في كتابه "الاسلام السياسي وجهاً لوجه"، اسباب صعود الحركات الاسلامية من موقع قريب جداً منها، حيث عاش وسطها لفترة زمنية وناقش افكارها مباشرة مع بعض قياداتها. يعيد بورغا هذا الصعود الى عوامل ثلاثة، يتصل الاول بانهيار مشروع التحديث العربي الذي قادته انظمة الاستقلال العربية منذ الخمسينات وفق برامج هدفت الى تحقيق التحرر القومي وطرد الاستعمار وتحرير فلسطين وقيام الوحدة العربية، اضافة الى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعلها تنهض بالمجتمعات العربية وتحسن مستوى معيشة ابنائها، ثم تحقيق الديموقراطية السياسية عبر مشاركة اوسع القوى الشعبية وتأمين المساواة والعدالة بين ابناء المجتمع، وهو برنامج لم يمكن تحقيقه وفق تطلعات الشعوب العربية. أما العامل الثاني فيتعلق بفشل الاحزاب والتيارات السياسية العلمانية التي صعدت مع الاستقلالات العربية، وهي احزاب قومية واشتراكية وشيوعية وليبيرالية، فشلت جميعها، في النظر والعمل، في تأطير القوى الشعبية وقيادة معارضة تساهم في تغيير الاوضاع القائمة. يأتي العامل الثالث حصيلة العاملين السابقين ويتجلى في فشل العروبة كهوية جامعة احتضنت المشروع القومي العربي، لأن العروبة، وفق مفهوم هذه الحركات، ولدت في احضان الغرب وتبنّت ثقافته، وجرت محاولة فرضها على المجتمعات العربية كهوية بديلة من الهوية الاسلامية التي كانت سائدة من قبل.
- في كتابه "الحداثة في فكر محمد اركون"، يضيء فارح مسرحي بعض الجوانب الفكرية - الدينية التي يراها اركون منطلقات ايديولوجية لحركات الاسلام السياسي. يعتبر اركون ان هذه الحركات تنطلق من مسلمات ايديولوجية واحدة على الرغم من الاختلافات والصراعات القائمة في ما بينها. فهي تستند الى "عقل اسلامي" تحدّد منذ ان كتب الشافعي "رسالته" التي عيّنت الاحكام والاصول الشرعية للفقه الاسلامي. تستند هذه الاصول الى الخطاب القرآني وسيرة النبي والإمام علي وسائر الائمة عند الشيعة، حيث يمثل القرآن مصدر السيادة الإلهية العليا، والسنّة مصدر السيادة العليا للنبي، بما يحصر دور العقل في البحث عن الاحكام الموجودة في القرآن والسنّة. أسست الرسالة لتكوين عقل اسلامي منغلق ضمن قوانين حديدية صارمة تقوم على الجزم ان سبل النجاة في الدار الآخرة ووسائل الوصول اليها تجد كل تفسيراتها وشروحها في القرآن، مما يكرّس العقل الديني عقلاً تابعاً وخادماً للوحي، غير متجرئ على تجاوز ما يقول به الوحي. وهذا ما يفسر تحوّل هذا العقل الى دوغمائية تفرض اعتقاداً راسخاً بأن الاسلام اطار صالح لكل زمان ومكان، والايمان بوجود الاسلام الحق يستوجب القول بإله موجود، واحد، خالق، وقادر، خاطب الناس باللغة العربية، وكلامه مدوّن في اللوح المخطوط (القرآن) الذي يحوي كل شيء ويمثل الحقيقة القصوى، فيما يتفوّق المؤمن على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم.
تمثل ظاهرة التكفير مكوّناً عقائدياً لدى الحركات الاسلامية المتطرفة، فيشير الشيخ حسين الخشن في كتابه "الاسلام والعنف" الى جذور هذه الظاهرة التي تعود الى المراحل المبكرة من تاريخ الاسلام وتطوره، فينسب الى الخوارج المسؤولية عن اطلاقها بكل ما يترتب عليها من عنف، يصل بأصحابه الى إهدار دم المخالف لرأيها. يرى الخشن ان النظرة السطحية الى النص الديني والتشدد في احكامه، تشكّل عنصراً مركزياً في فكر هذه الحركات. يحوي التراث الاسلامي مادة خصبة تؤسس للتكفير عبر الطريقة الانتقائية في قراءة الآيات القرآنية والاحاديث النبوية بما يخدم اهداف هذه الطائفة أو تلك. فالحركات الاصولية تكاد تتشابه في نظرتها الاستعلائية التي ترى بموجبها ان فهمها للدين يحمل وحده الحقيقة، فيما يقف الآخرون في المكان الخاطئ، وكل فرقة تصنّف نفسها بالفرقة الناجية، فيما مصير سائر الفرق الى جهنم وبئس المصير.
يفسر علي حرب في كتابه "الانسان الادنى: امراض الدين واعطال الحداثة"، بعض الأسس الايديولوجية للاسلام السياسي وتوجه بعض فصائله نحو الارهاب، فيجد ان هذا الارهاب ينبع من "ازمة الهوية والمعنى"، وهو ثمرة العقول المغلقة وعبادة الاصول وتقديس النصوص. فالارهاب "حصيلة أوامرنا الإلهية وحكوماتنا الدينية ومرجعياتنا الغيبية وشعاراتنا الاحادية وثوابتنا الابدية". ويكمن جذره في المحاولات الهادفة الى اسلمة الحياة المعاصرة انطلاقاً من معتقدات "اصطفائية" تدّعي امتلاك الحقيقة، وفي شعار الحاكمية الإلهية واقصاء الاخر. أما الخلافات المذهبية بين السنّة والشيعة فكان محورها ولا يزال الصراع على السلطة واندفاع هذا الفريق الى تكفير الآخر.
يشدد عبد الوهاب المؤدب على وجوب العودة الى الجذور العميقة الضاربة في الماضي العربي والاسلامي التي تساعد في فهم افكار الحركات المتطرفة، ويرى ان المشكلة الرئيسية في هذا الفكر تكمن في كيفية قراءته النصوص الدينية المقدسة في الاسلام. ذلك ان قراءة النص بحرفيته ستلقي الضوء على الآيات الداعية الى العنف وتضع جانباً الآيات الكثيرة الداعية الى العفو والرحمة والمغفرة. وهو ما يفسر تمسك هذه الحركات الاصولية بآيات العنف وجعلها منطلقاً ايديولوجياً تبرر به ارهابها تحت اسم "الجهاد"، ويفصل الآيات عن السياق التاريخي التي نزلت به والاسباب التي استوجبت هذا النزول.
يحاول عبد الحسين شعبان في كتابه "فقه التسامح في الفكر العربي الاسلامي"، مجادلة الحركات الاسلامية في تركيزها على التعصب والعنف، فيرى ان بعضها يعتمد آيات العنف فيما يغيّب آيات التسامح، ويشدد على أن الآيات القرآنية والممارسات العنفية التي شهدها التاريخ الاسلامي والمتناقضة مع مبدأ التسامح، جرت قراءتها بعيداً من الظروف التاريخية وسياق الصراعات آنذاك، مما يعني عدم جواز ادراجها كمكوّن جوهري وحقيقي للدين الاسلامي.
يرصد تركي الربيعو في كتاب "الحركات الاسلامية" آراء كتّاب تطرقوا الى افكار الحركات الاسلامية وعقائدها، فيشير الى ما يقوله فؤاد زكريا من تضاد مطلق بين الصحوة الاسلامية والعقل، والى تركيز بعض هذه الحركات على تمجيد العنف وعدم الاستماع الى الرأي الآخر، والتشديد على الطاعة المطلقة للقادة واستخدام القوة ضد معارضيها. أما رضوان السيد فيفسر عنف هذه الحركات بوصفها من نتائج لامعقولية الاستبداد السائد في البلدان العربية وتوظيف النصوص الدينية والفقهية بما يخدم نضالية هذه الحركات. في المقابل يعتبر نبيل عبد الفتاح ان العنف مكوّن اساسي في بنية الخطاب الاسلامي في شتى فروعه، ويرى "ان الاخوان المسلمين" يختزلون الاسلام السياسي ويقدّمون رؤية تقليدية لنموذج أهل الذمة بالنسبة الى الاقباط. وسط ذلك، يقترح نصر حامد أبو زيد وصفاً لخطاب الحركات الاسلامية يقوم على خلفية ايديولوجية اساسها التضاد بين المتنور والمتخلف وبين العقلاني والخرافي. فالانتكاسة التي شهدتها حركة النهضة والتنوير العربي ارتدّت صعوداً لقوى الخرافة والاسطورة التي منعت القراءة العقلانية للنص الديني.
- لا تخفي حركات الاسلام السياسي توجهاتها واهدافها التي تختصرها بشعار مركزي ومحوري عنوانه "الاسلام هو الحل". تقدم نفسها بديلاً من السلطة القائمة وتطرح شعارات تتسم بالعمومية في قضايا لا علاقة لها بالاسلام والاهداف الدينية التي أتى من اجلها. يكاد شعار الوصول الى السلطة جامعاً لهذه الحركات، بصرف النظر عن فكرها وعن التلاوين والخلافات في توجهاتها، وتشكل العلاقة بين الدين والسياسة، ومن ضمنها خضوع السياسة للدين، نقطة رئيسية في خطاب الاسلام السياسي. يشير تركي الربيعو الى وجهة نظر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الاسلام واصول الحكم"، القائلة بأن السياسة شأن تدبيري وليس عقائدياً، ويفند الرأي القائل بكون الاسلام ديناً ودولة، ويرفض هذه المقولة مشددا على ان الخلافة مقام ديني. ويضيف الشيخ عبد الرازق ان الاسلام لم يعرف يوما دمجاً بين الدين والسياسة بمقدار ما عرف استخداما للدين في تسويغ قرارات السلطان السياسي. في المقابل يبدو هشام جعيط قلقاً على مستقبل الدين في الدولة العلمانية العربية، فيشدد على وجوب اعتراف الدولة بالدين وحمايته، في مقابل رفض استخدام الدين اداة في يد الدولة التي تتلاعب به لغايات سياسية.
يشدد عبد الوهاب المؤدب على خطورة التوجه السياسي لبعض الحركات الاسلامية في نظرتها الى الغرب، بفكره وعلمه وحضارته، فتراه العدو الرئيسي للاسلام وعائقا امام انتشار مبادئه، مما يدفعها الى الدعوة الى قطع العلاقة مع هذا الغرب والانكفاء على التراث الاسلامي والحضارة الاسلامية واعتماد النص القرآني وحده بوصفه مصدر الحقائق الكاملة. يرى المؤدب في هذه الدعوة خطر انعزال اسلامي عن المجتمعات الغربية التي تعيش اعداد واسعة من المسلمين وسطها، وتبريرا لرفض اندماجهم فيها، بما يعني البقاء على هامشها ويزيد من التنافر بين المسلمين وسكان البلاد الاصليين، مما يهدد بتحوله تصادما وعنفا، كما باتت تعرفه العديد من بلدان اوروبا الغربية. وهذه حالة لن تصبّ في مصلحة الاسلام والمسلمين، بل ستؤكد الصورة السلبية التي تسم هذا الدين بالانعزال والارهاب والتطرف.
من موقع معاد للاسلام، تقدم ارشاد منجي في كتابها "مسلمون واحرار" وصفا للاسلام، مقارنة بالديانتين المسيحية واليهودية، فتسم الاسلام بالتعصب واللاتسامح، وتنتقد اصرار المسلمين على احتكار دينهم للحقيقة ووصفهم الاديان الاخرى بالهرطقة والضلال. فتقارن بين الاسلام واليهودية التي ترى فيها مثال الحب والرحمة والابتعاد عن كره الآخر، فيما تضع المسيحية في موقع الوسط بين الديانتين.
يقدم فرنسوا بورغا شرحا وافيا عن اهداف الحركات السياسية الاسلامية، فيرى انها تجمع كلها تقريبا على الوصول الى السلطة واعادة بناء الدولة الاسلامية وفقا لمبادىء الشريعة. لذلك تشكل الانظمة العربية القائمة عدوها الرئيسي نظرا الى اعتمادها العلمانية اساسا لقوانينها تحت تأثير الاستعمار الغربي وانتشار ايديولوجيته وثقافته. تتفاوت النظرة بين حركات تدعو الى بعث "السيادة الالهية" او سيادة "قانون الله"، بكل ما يعنيه من رفض كامل للقوانين المدنية، وحركات تحاول ان تتكيف مع الواقع فتلجأ الى الضغط المتدرج لاحلال القوانين الاسلامية من خلال تعديلات متتالية على القوانين المدنية وتستند الى الشريعة الاسلامية. تستفيد هذه الحركات من اضطرار الانظمة الى الخضوع المتتالي لضغوطها نظرا الى حاجة هذه الانظمة لاضفاء مشروعية دينية على سلطتها السياسية المفتقرة الى الارادة الشعبية.
ويرى بورغا اهدافا ايديولوجية وفكرية لهذه الحركات تتمثل في مواجهة الحداثة والديموقراطية. فالحداثة، كما تراها، هي ضد الاسلام لأنها تجسد الاستعمار الثقافي الذي عاد فترسخ رغم رحيل قواته عن المنطقة عبر قوانين وتشريعات مدنية وتعليم وارساليات ومعاهد. اما الديموقراطية فهي إنتاج الحداثة القائمة على مفهوم مستورد من الغرب، هدفه الرئيسي استكمال ضرب الهوية الاسلامية. فالديموقراطية قائمة على الارادة الشعبية التي تتنافى مع سيادة الله واولوية القانون الالهي. كما ان الديموقراطية تتعارض مع احكام الشريعة الاسلامية لاعتمادها القوانين المدنية والوضعية. اما مبادىء حقوق الانسان والاعتراف بحقوق الاقليات غير الاسلامية، فليست الا وسائل يستخدمها الغرب لفرض هيمنته على المجتمعات الاسلامية. لذلك كله، ترى هذه الحركات ان مبدأ الشورى الاسلامي هو التعبير الحقيقي عن الديموقراطية الاسلامية المتوافقة مع تعاليم الاسلام وقيمه.
- من هذا المآل الذي وصلته المجتمعات العربية والاسلامية وأخطار وقوعها في قبضة ظلامية، يطلق عبدالله القصيمي صرخة عكس التيار في كتابه "الكون يحاكم الاله"، فيوجه الملامة الى البارىء الذي يتسبب بمآسي العرب والمسلمين. فهو مسؤول عن تشويه العرب وتخلفهم بسبب اعطائهم ألسنة ناطقة وآذاناً مسموعة، كما هو مسؤول عن افساد تدينهم وايمانهم عبر خلق التعصب والحقد والبغضاء فيهم. ويتساءل عن سبب هذا الانفاق الضخم على الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدينية المخصصة لقراءة النصوص الالهية وتفسيرها من اجل وظيفة تتحدد فقط في تمجيده؟ ولماذا الانفاق ايضا على الحج الى كعباته ومزارات انبيائه؟ ولماذا تدفع تلك الخسائر المجنونة في شهر رمضان من اجل ان يأكل الناس ويشربوا ويمارسوا الحب، فيما يمتنعون عن العمل خلاله بحجة التعبد الى هذا الاله؟
بعد هذه "السياحة" مع بعض الدراسات حول ظاهرة الاسلام السياسي، يمكن القول ان معالجة هذه الظاهرة ونقدها موضوعيا وتقديم اجوبة حول سبل التعاطي معها، لا تزال متفاوتة في جديتها وجرأتها وصراحتها في وضع النقاط على الحروف والتصدي لما هو خطير فيها. هذا من دون التقليل من اهمية ابحاث ودراسات لكتّاب اخضعوا الاصولية الاسلامية وفكرها الى مشرحة التحليل العلمي والعقلاني، واعملوا قبضتهم في سلوكياتها محليا وعالميا، غير آبهين بالتهديد والتخوين والتكفير الذي واجههم به ظلاميو هذه الحركات الاصولية.
يعبّر صعود الاسلام السياسي عن درجة محددة من مسار تطور المجتمعات العربية مما يعني انها ظاهرة ذات تاريخ وزمان محددين. اذا كانت الظاهرة تجلت اكثر ما يكون في انهيار مشروع التحديث العربي الذي انطلق مع صعود المشروع القومي وتكوّن انظمة الاستقلال، فإن هذا الاسلام السياسي لم يشكل ولا يمكنه ان يكون جوابا متقدما عن هذا الانهيار او طريقا للخلاص، بمقدار ما يمثل اعمق تعبير عن الانحدار الذي وصل اليه هذا المشروع القومي، مما يعني ان ظاهرة الاسلام السياسي تمثل المظهر الاسطع لأزمة التطور العربي والتحديث في جميع الميادين. هذا الحكم لا يحجب واقعة كون الاسلام السياسي، بحركاته الاصولية خصوصاً، يقدم نفسه داخل المجتمعات العربية والاسلامية بوصفه مشروعا متكامل البعد في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة. تقف هذه المجتمعات امام مشروع ايديولوجي يتسم بالشمولية والتوتاليتارية، ويعبّر صعوده عن درجة التطور التي ارتدت اليها المجتمعات العربية في اجتياح ثقافة الخرافة والاسطورة والتعصب ورفض الآخر داخل مكوناتها، وذلك على حساب قبول الآخر والاحتكام الى العقلانية وسيادة منطق التسامح.
ان القاء الضوء على الاسباب الموضوعية لصعود الاسلام السياسي وحركاته الاصولية وموقعها التاريخي، يوجب تعيين بعض العوامل التي يمكن ان تساعد في الحد من اندفاعة هذه الحركات، في هذا المجال يمكن تسجيل الآتي:
-1 يشكل النهوض الاقتصادي والاجتماعي والفكري، في اطار تنمية شاملة للمجتمع، اول شرط في هذا المجال. تتغذى الحركات الاصولية من الانتشار الواسع لمظاهر الفقر والامية والجهل والبطالة والتهميش الاجتماعي التي تلفّ فئات واسعة من المجتمعات العربية. كما تقدم اليها انظمة الاستبداد السياسي ارضا خصبة ينمو فيها فكر يغلب النزعات الارهابية والعنف، فتعتبره هذه الحركات افضل الاجوبة عن قمع هذه الانظمة لها والحد من حريتها في العمل. وتتطلب مواجهة هذه الحركات ايضا اتاحة المجال لحرية مناقشة ايديولوجيتها وممارساتها من موقع موضوعي وعقلاني، بعيدا من التخوين وانكار حق الظاهرة في الوجود.
-2 يبدو العالم العربي والاسلامي راهنا في أمس الحاجة الى اصلاح ديني يطاول النصوص الدينية والتراثية والقوانين الفقهية السائدة، وبات مستحيلا تجنب المرور في هذا المخاض الذي يشترط التحديث والتقدم الاجتماعي والفكري، وهذا شأن مرّت به اوروبا في القرن السادس عشر وشكّل نقطة انطلاق نهضتها، وقد حاول العالم العربي ولوج هذه النهضة نهاية القرن التاسع عشر لكنه اجهض قبل ان يحقق مراميه. يحتاج الاصلاح الديني اولا الى اعادة تحديد مفهوم الدين بما يؤدي الى الفصل بين جوهره ومتطلبات ممارسته في الحياة اليومية، وبما يعيد الاعتبار الى الدين بصفته الروحية والانسانية وعلاقة الانسان بربه. ويتطلب الاصلاح، ثانيا، اعادة قراءة للنص الديني (القرآن)، تستخدم العقل والمنطق في تفسير الآيات، وتعتمد المنهجية التاريخية في القراءة. يحوي القرآن آيات نزلت في مرحلة تاريخية محددة واجابت عن حاجات سياسية واجتماعية، وكان من بينها آيات الجهاد الداعية صراحة الى العنف ضد غير المسلمين. لا يمكن اعتماد هذه الآيات اليوم تحت حجة سائدة بقوة، مفادها ان القرآن يحوي الحقيقة الكاملة لكل زمان ومكان. تستند الحركات الاصولية الى هذا المنطق في تبرير تبنيها لممارساتها العنفية وترى فيها اساسا ايديولوجيا لعقيدتها. تتحمل المؤسسة الدينية مسؤولية رئيسية في الجواب عن هذه القضية، مما يفرض عليها تجاوز التفسير الحرفي والظاهري للآيات واعادتها الى موضعها التاريخي، ويضع المؤسسة الدينية ورجالها في موقع يحتاج اليه الاصلاح الديني بشكل كبير.
-3 لا ينفصل الحراك السياسي والاجتماعي المتصدي لاستبداد الانظمة السائدة، مقرونا بسعي المجتمعات العربية الى ولوج الديموقراطية وسيلة من وسائل تقدمها، عن تقديم جواب عقلاني في وجه الحركات الاصولية، بل يشكل هذا الحراك شرطا لا بد منه للخروج من نفق الارهاب الاصولي وتدميره لبنى المجتمع.
يحتاج العالم العربي الى مشروع نهضوي شامل يطال كل ميادين حياته كشرط لدخوله العصر ووصوله الى الحداثة، وهو ما يوازي مواجهة مشروع نشر الظلامية في العالم العربي والهيمنة على عقله.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد