قراءة في رواية (... لهذا الزمن)
لهذا الزمن... الرواية الثانية لـ ( علي محمد مرعي) الكاتب والفنان التشكيلي، بعد روايته الأولى( شرفة الخرنوب)...
روايته الثانية هذه الصادرة عن دار الحوار /2009/ تبدو فيها محاولة الكاتب مقاربة المسائل الكبرى في الحياة عبر التفاصيل الصغيرة ( اعتدنا دائماً أن نهتم بالأشياء الكبيرة ونهمل الصغيرة..).. والتفاصيل هذه ترد على ألسنة شباب القرية أثناء مداولاتهم ونقاشاتهم التي تبدأ بمخطوط قديم يحكي عن قصة أمير يجوب البلاد بحثاً عن دواء لابنه الوحيد، وهنا تبدو محاولة الكاتب الذكية في تقديم مقولاته ، فرحلة الأمير الباحث عن الدواء ، تشبه إلى حد ما رحلة البحث عن الحقيقة.. أو الخلود.. أو السعادة ، والتي تم تناولها بأشكال مختلفة، روائية وملحمية.. وغير ذلك، ويبدو الشيخ الحكيم في نهاية الرحلة كالحية التي اقتربت بهدوء من نبتة الخلود التي وجدها الملك السومري (جلجامش) ، وأخذتها بهدوء بعد أن اجترح الأهوال بحثاً عنها، وكأن الكاتب يريد القول أن الباحثين عن الحقيقة كثيرون، إنما الأحمق وحده من يجدها، فكيف بدا ذلك في الرواية؟..
علي مرعي يستخدم طريقة مبسطة ، فيرسم مسار رحلة الأمير التي تبدأ وتنتهي راسمة شكلاً هندسياً يمثل اللانهاية، ويلجأ إلى طريقة مبتكرة في تقديم المخطوط القديم ، فيرسم لوحة الغلاف، ومقدمة ناسخ مخطوط ( طريق الحق ) الذي يذيله باسم الناسخ الصريح ( تاج الدين البرقي ) ويحيله إلى زمن الامارة القلقشية في ميسورام ، وتبرز فكرة مقاربة الحقيقة ابتداءً من زاويتين، الأولى صادرة عن سؤال من شاب ربما كان عفوياً ( ألا يكفي ما نعانيه من أهل الحل والربط على هذه الأرض؟.. يتلوه تعقيب من شاب آخر ( السماء نادراً ما تسمع، لكن الشمس تشرق كل يوم)، لكن الجواب على ذلك يأتي من شيخ حكيم ( من في السماء يتعاطف مع أهل الأرض، لكن على أهل الأرض أن يعرفوا أنها لكل ساكنيها، وأنهم عليها في امتحان..) إذاً المسألة عبثية، ورحلة الأمير التي ترسم خطاً يمثل النكوص الدائم ( اللانهاية).. الحلقة المفرغة، ربما كانت رمزاً توضيحياً لمقولات الكاتب في عمله الروائي، فمسألة البدايات والنهايات هي مسألة عقلية قبل أن تكون سياسية أو دينية أو حتى فكرية، الانسان هو من وضع حدود الزمن ، هذا المسمى الذي يقال أنه الأبدية، لابداية ولا نهاية له، إنه الكون أيضاً، بما يحمل من أمداء وفضاءات عصية على السبر والكشف، لكن للانسان بداياته ونهاياته الخاصة به، فقد قسم الزمن( سنة شهر.. يوم.. ساعة..) وهكذا، وهو اصطلاح بشري، قد لا يقره الزمن الحقيقي ( الحقيقة).. ولكن.. هل يستطيع الأمير الباحث عن الدواء، أو الرسائل التي يجدها محفوظة له، أو الشيخ الحكيم الذي يدل الأمير على النبع ، أو بالأحرى هل يستطيع شباب القرية قراء المخطوط ؟ .. هل يستطيع كل هؤلاء، أو واحد منهم أن يزعم أن باستطاعته رسم بداية ونهاية مهمة كالتي رسمها من قبل من قسم الزمن ، أو اخترع الأعداد ، أوغير ذلك، البدايات والنهايات المهمة في الحياة تصدر عن مرحلة أو مراحل هامة، مراحل حقيقية تنتمي للزمن الحقيقي الذي يصنع أناساً حقيقيين، وتكون معجزة الجدل الدائر بين الانسان والكون، بينه وبين الحياة، داخل وخارج العقل، ولكن ..هل تم تناول المخطوط من الشباب المثقفين الذين اهتموا به وتداولوه بالطريقة التي أرادها واضع المخطوط المفترض؟.. الجواب يأتي من كاتب الرواية، الذي تشي حوارات نصه الروائي، دون أن يبدو متدخلاً فظاً في النص، بعدم الاتفاق على فهم واحد ، أو متقارب للمخطوط، كفكرة أولاً، وكمسألة تحيل إلى ظاهرة القراءة ثانياً، منهم من تلقفه كحجة في التبشيرية, ومنهم من فهم منه خطاً سياسياً يدعو لمعارضة الحاكم، ومنهم من اعتبره رمزاً غير مفهوم، فبقي يدور حول رمزية الرمز فقط، ومنهم من اعتبر المسألة برمتها خطرة أمنياً باعتبار اللقاءات التي تطلبتها قراءة المخطوط هي غطاء للقاءات تخل بالأمن في المنطقة، أو أن القراءة تبدو في نظر هذا البعض هي الظاهرة الخطرة، وهذا ما أشار إليه مصلح عندما قدم ورقته مبدياً فرحه بظاهرة الاهتمام بالقراءة من حيث هي موقف جدي من الحياة، بغض النظر عن رأيه الصريح بالمخطوط، وموقف الشباب منه.
لكن الكاتب يبدو كمن يأبى أن يترك الموقف موزعاً بين شلة الشباب القراء واختلافهم في تناول المخطوط ( الفكرة).. فيحيل في آخر الرواية إلى ابن المقفع الذي يلتقي به ربيع متسائلاً كيف عرفتني؟.. فيجيبه ( أنت تعرفني من كتبي أما في الحلم الأمر يكون معكوساً، أتعرف إلى من يقرؤون كتبي .. أقرأ الأفكار.. أنت قادم من المستقبل..).. وعندما يتساءل عن سبب حالته المزرية يقول ابن المقفع ( كتبت على أمل أن تصلح الأحوال، لكن ما حصل معي.. وما وصلتم إليه، يجعلني أشعر بالبؤس والخزي، أرى تعبي وقد ذهب هباءً، حسبت نفسي أضع أسساً صحيحة..).. وينذره( اهرب العسس قادمون) وفي حين يهرب ربيع مع خطيبته فوق بساط سحري هارباً من العسس، يبقى ابن المقفع في صحرائه وحيداً يحيط به العسس.
رواية (... لهذا الزمن)، تقع ربما تحت مصادرة العنوان، فبخلاف الفهم الأولي الذي يحيل ربما إلى التكيف مع الزمن كمقدمة لفهمه، يأتي الرمز التاريخي من خلال شخصية ابن المقفع الذي يؤكد مقولة الكاتب، أو أن الكاتب يوثق مقولاته من خلال الرمز بعبارة ( أرى تعبي وقد ذهب هباءً ) ثم ( اهرب العسس قادمون..).. فيضع بذلك فهما حصرياً للعنوان بكلمة محذوفة تقديرها ( طظ!!!..).
كتب علي مرعي روايته ، ويبقى على ربيع وأمثاله ، القادمون من المستقبل، أن يكملوا قصصهم على طريقتهم، إنما عليهم أن يدركوا أن شرط الامتحان الذي وضعته كهنة السماء ربما كان سبباً أبدياً في ضياع الجهود،
( لهذا الزمن) رواية تستحق التقدير ، إن للتجريب الشكلي الجرئ فيها، أو لاحتوائها على جملة مهمة من المقولات الفكرية المعمقة ، المرمزة أو الصريحة، ويبقى الجهد.. جهد الكاتب هو صاحب الأولوية في التقدير.
علم الدين عبد اللطيف
إضافة تعليق جديد