فن المقالة الأدبية عند ياسين رفاعية
1 – فّن المقالة الأدبية :
أتحدث عن ياسين رفاعية من زاوية كتابته للمقالة الأدبية، مشيراً إلى إسهامه في الحياة الثقافية العربية.
بدأ ياسين رفاعية الكتابة الأدبية احترافاً منذ أوائل الخمسينيات حين انخرط في مسيرة الإبداع القصصي والشعري، وحين عمل صحفياً ومديراً لتحرير «المعرفة» ، فكتب آلاف المقالات والمراجعات والمقابلات والتحقيقات، وتنقل بين أكثر من مجلة وصحيفة في أكثر من عاصمة في دمشق وبيروت ولندن، غير أنه لم يضمن كتبه الكثيرة حتى الآن إلا قصصه ورواياته وشعره ونصوصه ، وثمة كتاب يتيم خصصه لحكاياته مع أدباء رفاق سبقوا ، أي أن رفاعية لم يجمع بعد شيئاً من مقالاته ومراجعاته ومقابلاته وتحقيقاته الغزيرة.
احترف الصحافة على مدار ثلاثة عقود من الزمن، ظل خلالها متابعاً دؤوباً، حاضراً في الصحافة الثقافية، شديد الإخلاص لأخلاقية رفيعة في التعامل مع الأدباء والأدب، حتى انطبع بالطوابع الإيجابية، ونادراً ما أشار إلى ملاحظات سلبية، وإذا فعل ذلك فهو يبثها لماحة خاطفة وجيزة في ثنايا عرضه النقدي، بل إن مقالاته تجنبت النقد بما أنه حكم قيمة أو معيار على العمل الأدبي لصالح النقد على أنه قراءة لقارئ يسعف على كشف دواخل العمل الأدبي ومغاليقه. ويلحظ متتبعو كتابات رفاعية فيض الودّ الذي يغمره على الأعمال الأدبية التي يتناولها بالتقديم أو التعريف أو الإضاءة. ولهذا كله، لا يسمي رفاعية نفسه ناقداً على الرغم من أنه كتب مئات المقالات النقدية ، ولم يجمعها في مؤلفات حتى الآن ، كما أشرنا ، مؤثراً أن يكون أديباً يكتب القصة والرواية أولاً، والشعر على طريقته ثانياً، والمقالة والنصوص ثالثاً.
والحق، أن أسلوبية رفاعية في كتابة المقالة توافي رؤيته الفكرية والفنية التي لازمته في أعماله الأولى ، ثم استوت في السبعينيات راسخة. لقد غلبت على فنّه رؤية واقعية وسرعان ما مازجته باكراً نزعة تعبيرية تجهد لتمثيل الأشياء كما تصورها ذاتية الفنان ، لا كما هي في الواقع، فكان العالم الخارجي منظوراً إليه بتاثير ميول الفنان وأهوائه. أما رفاعية فقد مازج واقعيته بهذا النزوع التعبيري الذي يداخل بين الموضوعية والذاتية في مقاربة العالم الخارجي ، ونلمس هذه المقاربة في نتاجه الإبداعي كله، ولنذكر في هذا الإطار مثالين الأول ما كتبه عن تجاربه بلغة الشعر في «جراح» (1961) و«لغة الحب» (1976) و«أنت الحبيبة وأنا العاشق» (1978) ، وفيها بوح ذاتي، وشغف إلى حّد الوله بنساء خاض معهن معاناة الحب والحياة في واقع قاس ، فقد سمى قسماً من كتاب لغة الحب: «أناشيد إنسان على حافة الهاوية» ، أما كتاب «أنت الحبيبة وأنا العاشق» فليس غزلاً مجرداً ، كما يبدو للوهلة الأولى من عنوانه، بل هو توق إلى الحب وسط مكابدة الحياة ومرارة الواقع، وربما كشف نص «حصار» عن هذه الروح المعذبة في رؤيتها الذاتية المضغوطة:
تحاصر من هنا وهناك ، من الأعداء ، ومن الأصدقاء ، وما من أحد ، يفك عنك الحصار ، ما من أحد ، يفتح لك الشباك ، تمشي في الطريق ، صدرك مشرع ورأسك ينحني ، لكل العابرين من بين كتفيك ، يداك تحية لاتهدأ ، ما من أحد ، يرفع لك يده 0
أما الثاني فهو امتداد لغة الشعر بقيعان وجدانها المثقلة بذاتية تحترق على أطراف الأمل إلى قصصه ورواياته، ففيها يعاد تركيب الواقع وفق منظور ذاتي حيناً وموضوعي حيناً آخر. إنه يأخذ بعض استحقاقات الواقع ، ويضعه ضمن شرط إنساني خاص ومنظور سردي يعزل هذا الشرط عن عناصر الواقع كلها. ولنا أن نقول: إن لغة الشعر ليست وحدها دلالة على نزوعه التعبيري، إذ يمتد إلى هذا التركيب الواقعي الذي يبنى على مثال ذاتية متوجعة مفجوعة تسعى للإحاطة بوجهة نظر موضوعية، هي عماد رؤيته الفكرية والفنية.
وهكذا، بالقدر الذي استغرق فيه رفاعية بواقعية مشروطة في إبداعه القصصي والروائي والشعري فإنه تعامل مع الواقع، بصروف الأيام وتقلبات المواقف، بحنين طاغ، هو بعض روح المودة مع الأدباء ونتاجهم ، ولعل أبرز مثال لذلك هو كتابه «رفاق سبقوا» الذي يجسّد أسلوبيته في كتابة المقالة الأدبية، فالكتّاب أشبه بالسير، وأقرب إلى الحكايات، ولكنه طريقة من طرائق كتابة المقالة الأدبية، فثمة طرائق أخرى تستند إلى سمات التعليق أو المراجعة أو البحث أو التحقيق أو التقرير. لقد ارتأى رفاعية في هذا الكتاب أن يكشف عن جوانب خفية في حياة من تناولهم وفنهم، مثمراً معرفته بإبداعهم، والأهم علاقته الشخصية بهم.
اختار رفاعية خمسة أدباء عرب عاصرهم، هم أمين نخلة وفؤاد الشايب ومعين بسيسو وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور ، ولا شك في أنه يعرف أدباء وشعراء كثيرين عايشهم زمالة أو صداقة، ولكن الموت جمع هؤلاء بين دفتي كتابه، وقد تحدث عن قصص موتهم جميعاً، المحزن أو الفاجع، وكما قال رفاعية: «فأمين نخلة سيد الغزل في القرن العشرين دون منازع، وسيد اللفظة الأينقة، عانى في السنوات الأخيرة من حياته موتاً بطيئاً قاسياً، بعد نزف مفاجئ في الدماغ. أما فؤاد الشايب الذي مات في ذروة شبابه فهو الآخر سقط فجأة بسبب الضغوط النفسية التي عانى منها عندما أحرق الصهاينة في بونس ايرس في الأرجنتين منزله، بسبب محاضرة ألقاها باللاتينية في جمهور غفير عدّد فيها آلاعيب الصهيونية. أما الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، فهو أيضاً سقط بعد رحيله عن بيروت بعامين فقط. إذ كانت بيروت رئته الشعرية التي كان يتنفس بها ، ولم يكن قد تجاوز من العمر الـ 53 عاماً. وخليل حاوي الذي انتحر بعد يوم واحد من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، إنما انتحر بعد خيباته القومية المتعددة ، وهو الذي كان يعتبر نفسه شاعر الانبعاث العربي، وصلاح عبد الصبور سقط بعد محاكمة مرتجلة وقاسية اتهمته بالتعاون مع سلطة عقدت صلحاً مع العدو الإسرائيلي ، باستثناء أمين نخلة، فإن وراء موت الأربعة الآخرين، إسرائيل بشكل أو بآخر، ففؤاد الشايب الكاتب السوري ومؤسس فن القصة السورية، كان مديراً لمكتب الجامعة العربية في الأرجنتين، ومن مهامه الرئيسة فضح الآلاعيب الصهيونية. وكانت مواقفه الشجاعة في تعرية العدوان الصهيوني كثيرة ومتعددة، آخرها محاضرته في الارجنتين والتي بسببها أولع الصهاينة النار في بيته وأوراقه وذكرياته.. بحيث لم يحتمل قلبه هذه الصدمة فسقط. ومعين بسيسو الشاعر الفلسطيني الذي كان كل شعره من أجل قضيته، هّزه غزو بيروت وخروج المقاومة منها.. فلم يحتمل صبراً أكثر من عامين، ثم توقف قلبه فجأة في أحد فنادق لندن.. وهو جاء إليها لينشد في أمسية شعرية شعراً جديداً له عن الحبيبة فلسطين ، وكذلك نجد المعنى ذاته في انتحار حاوي، وموت عبد الصبور».
وعلى هذا، يمكننا أن ننظر فيما كتبه، فنجده بحثاً أو نقداً أو مقالة أو تعريفاً واختياراً أيضاً، إذ جمع طابع المختارات إلى السيرة والحكاية، حين وضع في خاتمة كل مقالة مختارات من أدبهم أو شعرهم بما يجعلها تعريفاً كافياً بالأديب وأدبه أو الشاعر وشعره.
أما خصائص كتابته فنوجزها فيما يلي:
أ - إن رفاعية يصدر في كتابة المقالة عن الحب أو الاهتمام أولاً، وهل الحب إلا اهتمام في جوهره ، فهو لا يكتب عن النصوص أو الأعمال التي ينفر منها، ويطفح كتابه هذا بمعاني الوفاء والنبل فيمن كتب عنهم ، فحضرت مآسيهم حية فاجعة مثلما أشرق إبداعهم من جديد في أضواء التعاطف التي سلطها عليهم وعلى إنتاجهم الباقي.
ب - إن رفاعية ينفر من المصطلحات النقدية طلباً للغة أدبية بسيطة معبرة ودالة، وربما كان ذلك بتأثير الصحافة، وقد حقق هذه المعادلة الصعبة بما جعل أدبه في متناول القاريء العادي قبل المتخصص.
ج - يبحث رفاعية دائماً في الأعمال أو النصوص التي يعالجها عن صلة شخصية تكون منطلقاً لتعاطفه معه ، وهذا ما يفسر اتساع شبكة علاقاته بالأدباء في مختلف أرجاء الوطن العربي، غير أنه بالمقابل يصرف جهوداً كبيرة لقراءة الأعمال والنصوص، ولا يعطي أحكاماً ومعايير لا يقتنع بها، لأنه حريص على إقناعنا بها أيضاً.
د - لا يعنى رفاعية بالأحكام النقدية، فالمهم عنده هو إضاءة الأعمال والنصوص والكشف عن طبيعتها الفنية ومغازيها و مراميها الفكرية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هـ - ابتعد رفاعية عن الصراعات الفكرية والسياسية، وتعكس مقالاته عن استقلالية مبكرة، ربما كان سببها معاناته الخاصة من وطأة التحزب والأيديولوجيات والحسابات السياسية الجائرة في كثير من الأوقات 0 ومن مظاهر هذه الاستقلالية ابتعاده عن القبلية النقدية التي سلطت على رقاب عدد غير قليل من المبدعين كسيف انكشاري، فكتب عن أدباء لا يعرفهم، وعن أدباء لا يوافقهم الرأي، وغالباً ما جمع في مقالة أو أكثر بين أدباء من اتجاهات متعارضة، أو من انتماءات مختلفة.
من الواضح، أن هذا الكتاب يمثل هذه الاستقلالية خير تمثيل ، في التعريف بالشخصيات ، وتحليل مواقفهم ، والإفصاح عن رؤاهم ، والكشف عن ثراء إبداعاتهم ، وشجن معاناتهم ، حتى أنهم رحلوا باكراً تحت تأثير الضغوط والإرهابات والمفاتن وموت الحياة في منظوراتهم الأدبية والفكرية والوجودية 0
2 - الإبداع النصي :
استغرق ياسين رفاعية طويلاً في الإبداع النصي الذي يجمع بين أكثر من جنس أدبي واحد في كتابته ، وتصدّر هذا الإبداع في كتابه " نصوص في العشق " في مؤلفاته الثلاثة ، وعنواناتها " حب شديد اللهجة " ، و " كل لقاء بك وداع " ، و " أحبك وبالعكس أحبك " 0
اعتمد في هذه المؤلفات المتميزة على العتبات النصية أولاً ، وعلى خصائص التركيب النصي الشاملة لتأثير البنيوية وتقانات تشكلاتها لهذا النص أو ذاك ، سعياً إظهار المعاني والدلالات الكامنة ، إذ لا يجاهر رفاعية ، أو يباشر في الحديث الشخصي أو القيمي أو القصدي ، على أن النص شديد التعالق مع عناصر التمثيل الثقافي ، ومدى مقاربة الخطاب السردي الوجداني ، أو الحواري ، أو البلاغي ، أو الاجتماعي ... إلخ 0
تركزت العتبات النصية أولاً على العنوانات ، والإهداء ، والمفاتيح الواردة من كتّاب عرب وأجانب ، وكلمة الناشر ، ومدخل المؤلف ، إلى جانب الإشارات ، والإحالات ، والمرجعيات ، والمتناصات العالية بالدرجة الأولى ، أما خصائص التركيب النصي فقامت عند رفاعية على العناية بالسياقات الاجتماعية والنفسية من الدلالية إلى التداولية ، وبنى النص عنده على محاور الإحالة الكلامية ونظم النص التخاطبي – الإبلاغية ، وتثمير المتناصات في المبنى الحكائي ، أو السردي ، أو الوجداني ، أو الحواري ، وتلامحت النصوص مع التسنين أو التشفير أحياناً ، بما ينفع كثيراً في ضوء المعرفة الذاتية العامة والخاصة من فيوض الوجدان إلى مكابدة العيش وخوارقه 0
تركزت العنوانات على العشق ومواصفات الحّب ، من العنوان العام " نصوص في العشق " إلى عنوانات الأجزاء الثلاثة ، وهي منظورات كامنة ودقيقة مرتبطة بتشكلات النصوص ومكوناتها عن هذه المواقف والقيم والرؤى والأفكار المنبعثة من الدواخل إلى توصيف الأوضاع والقضايا الإنسانية وإشكالياتها ، مثل " حّب شديد اللهجة " ، و " كل لقاء بك وداع " ، و " أحبك وبالعكس أحبك " 0
لا يتحدث رفاعية عن تجارب معينة ، بل هو يتأمل في عناء العلاقات نحو انفتاحها على تحققات الحّب في أبعاده المختلفة ، ولا يعني الحّب العلاقة بين الرجل والمرأة فحسب ، بل هو ضابط ورابط للسلم والأمان من جهة ، وللشجن والقلق والمخاوف من جهة أخرى 0
ألمح الإهداء إلى الخطاب الإنسـاني ، ليس لإمرأة بعينها ، بل إلى فعالية ضمانة الحّب في الوجود ، كقوله : " ليبق لكِ هذا الحب " ( ص 9 ) ، وتكاملت الفعالية مع المفاتيح النصية لسقراط ، ولامارتن ، وتشيسون ، ومصطفى أمين ، إذ " فطر الرجل على حّب المرأة ، وفطرت المرأة على حّب الرجل " ، و " أي جمال في الطبيعة لا يستطيع أن ينافس جمال المرأة التي تحّب " ، و " خير لنا أن نحّب ، فنخفق من ألا نحب أبداً " ، و " الفتاة التي أحبها ليس لها ماض ، فقد ولدت يوم أحبتها " 0
إن جوهر هذه المفاتيح النصية هو إتساع مفاهيم الحب ، وتعدد مستوياته ، وتنوعاته ، من التعبير التوصيفي المباشر إلى التعبير الإستعاري غير المباشر 0
أفادت كلمة الناشـر ، وهي مفتاحيـة أخرى ، أن الخـاص في عاطفـة الحّب ومكانتها وخصوصيتها يندغم بالعام باسـتمرار في التجارب البشـرية ، كلما أمعن النظر والتأويل في النبل واللغـة واللهجـة وغيرها :
" ترّن فيها نبضات الحنين والأشواق ، وتتسربل كلماتها برداء حريري شفاف لقصة من قصص الحب الممتعة التي نقرؤها فتشيع في نفوسنا لذة العشق ولذة الحرمان معاً " ( ص 14 ) 0
أضاء مدخل المؤلف رفاعية المفتاحي مدلولات النصوص عن الحب والعشق ، فقد نشرها طويلاً في مجلة لندنية ، لاستعادة الحّب في تصليب الذات الإنسانية ، على أن الحّب الشرقي متواصف مع الحب الغربي ، وأن لهما خصوصياتهما ، وهناك الانتماء إلى اللغة الشعرية في التعبير عن الحّب ، وقد أصدرها لأول مرة باسمين مستعارين " عابر سبيل " ، " يارا " 0 وذكر تناصات شعرية مع أبيات شعر لجميل بثينة ، وكثير عزة ، وقيس بن ذريح 0 وألمح إلى مؤثرات الحب النافعة والقاسية مثل غصة في القلوب ، ولوعة في النفوس 0 وثمة أقوال وكلمات ومنظورات ومقاصد باعثة لهذه المعاني والمدلولات : " ولم يجد أنبل من أن يعيش الإنسان قصة حّب صادقة يهبّها حياته وإبداعه وحاضره ومستقبله ، وإلا كانت شجرة الحياة يابسة تعصف بها الريح " ( ص 18 ) 0
أتناول في هذا البحث المعطيات النصية في الكتاب الأول " حب شديد الهجة " أنموذجاً ، فقد بدأ بعنوان واسع في الخطاب الشمولي الإنساني : " ياعشاق العالم تعالوا إلي ! " ( ص 19 – 22 ) ، والنص مخاطبة على سبيل النجوى ، وابتعاث المعاني باسم الحب ، وجعل محتوى " أكتب رثائي بالحبر الأسود " كتابة رثاء لمدى انتشار موت الحياة عند إفساد الحّب في التجارب البشرية ، من مجرد عابري السبيل في علاقاته إلى اشتراطاته الواهنة والمضعفة للذات الإنسانية بالحبر الأسود ، بالدم ، بالنار 0
حوى النص الثالث " مكتوب على لوح قدرنا السفر " التورية والترميز والتأويل لمضاء السفر ، أي التجربة ، في عواصف الذات عن اختراق الحب وسيرورته المعاقة أو المعرقلة في خضم العلاقات من اللقاء إلى الوداع ، أما النص الرابع " أحبك بجنون " فيتناول خضم التجربة واختراقاتها أو غرقها في شمولية العذاب ، أو دموع العصر ، أو مضادات التلاقي والهجران ، أو هذيان الموت 0
دعا نص " أنا الممكن وأنت المستحيل " إلى النوم في الأحضان ما بين الممكن والمستحيل من المناداة إلى تمثيل معطيات الكينونة ونفي التأزم : " وأنت وحدك الملجأ ، وحدك كأس الماء ، وحدك السمن والرز ، وحدك العطر ، وحدك التفاح ، وحدك الوعد تلو الوعد ، وحدك الفصول الأربعة ، وحدك المدن الجميلة ، والملابس الجميلة ، وحدك الحنان ، وحدك روعة الحب وأناقة الشموع ، وحدك الحياة إذا سقط الموت في قاع القلب " ( ص 37 ) 0
امتدت منظورات الحّب في " صلاة صوفية " إلى معنى المعنى ، وتعالي المقاصد الجليلة في النجوى للـرب اطمئناناً وخلاصـاً من العذاب : " أنت القادر .. أنت الخالق .. أنت القريب .. أنت المولى .. أنت النجيب .. أنت الحبيب .. يارب " ( ص 40 ) 0
شمل التعبير النصي للحب في " المرة الأولى طعم مختلف " معرفة الفضاء والطبيعة والبيئة والأوضاع ، لهدي دعوات الشراكة والعلاقات ، وكلما جرى التخلي عن حسن المسالك والأشواق مال الوجدان إلى المرارة والوهن ، والمفيد هو مجاوزة الخيبات في طبيعة الحّب نفسه 0 وتتكاثر المساويء والمفاسد والعذايات والرقاد والعسس مالم ينظّف الحب العالم والوجود برمته ، من أجل مفارقة الأحزان في منظورات " أحبك كل الوقت " 0
أشادت النصوص " الحب الأجمل " بجمال الحب ونعمته ، و " أزهو بالبكاء لأنني أحبك " بالتخييل النافي لقلق الواقع ، و " سبحان من علمني كيف احبك " بمراسلة الاغتراب والذاكرة والتساؤل في النفس نحو الحوار الفاضل والنبيل ، و " حزن بين الرمادي والرمادي " بمجانبة العذاب والحلم المستحيل وشتاء التجربة ، بينما أختارت نصوص أخرى مشكلات وجع الحّب وإفساده ، ففي نص " على راحتك أطبع قبلة الأشواق " يحلل التلوث الحضاري في إفساد الحب ، كلما شاعت فوضى العلاقات ، وكلما زاد الاهتراء النفسي والتآكل الروحي ، ما يستدعي دعوة الإنقاذ من عذاب الزمن 0
اهتم نص " شرعية الحب هو أنت " بتعدد القهر : " وذات يوم ، سوف يكتشف الجميع فيقتدون بنا .. ونصير أنا وإياك أسطورة الحّب الذي لا يموت " ( 89 ) 0
نقل نص " أحبك ألف مرة وأكثر " قضية الحب من النجوى إلى الحوار ، ومن مجرد الإحساس إلى الاعتراف والإقرار بجدوى العشق الذي لا يقتصر على تجربة شخصية ضيقة أما نص " أيتها القاتلة أنت حبيبتي " فيؤكد على التعلق بالحّب على الرغم من كل شيء ، وما يقلل من العزيمة على تحققاته ، ترائياً أو وجوداً ، هو مساويء التجارب البشرية ، وأفلح نص " انتظرك حتى المستحيل " في ضرورة الولع بالانتظار نحو الأمل بالخلاص من العذاب ، لأنه دون الحّب يزداد الضياع والاغتراب والوحدة : " كنت وحدك زينة المدينة ، وحدك الشعلة والضوء والحرية ، وحدك الإنسان والدم والحنان .. وفي غيابك الآن كلّ شيء ساقط .. فمتى تعودين ؟ " ( ص 181 ) 0
أمعن رفاعية في نصوصه في إضاءة مسارب جودة العلاقات الإنسانية القائمة على الحّب في ابعاده الكثيرة الظاهرة والكامنة لتقصي المساويء والمظالم في التجارب البشرية ، ففي نص " لايغسل قلبي فرح " ، صار السراب في العشق إلى تجاعيد الخوف ، وصار الحلم إلى كوابيس ، وتشابكت الشكوى من البوح والأسى إلى وهم الحب أو وهنه 0 وتعمقت هذه المشكلات في نص " أميرة المدن القديمة " عند سرد التأمل النافع في تجنب الاحتراق الدامي وعواء العسس ، بما ينفع في الإنقاذ من الجحيم : " أنا السّر المعذب وراء الرحيل .. وكان في الظن أن تجيئي منقذة ونجاة ، يحتويني صدرك ، ويطفيء لهيبي ... آه هل جئت النـار تلتحم بجحيمي .. فلا أصبح إلا رماداً ، ولا أمسـي إلا الرماد ؟ " ( ص 202 ) 0
إن كتابة ياسين رفاعية النصية شديدة الثراء بالشكل والمحتوى ، من العتبات النصية إلى حواضن النصوص للمتن الحكائي والخطاب الإحالي والبلاغة و الإبلاغية ، مما تكشف النصوص عن عمق الرؤى والأفكار والمقاصد في منظوراتها التأليفية والجمالية المبدعة.
عبد الله أبو هيف
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد