فرويد المسافر لا يزال حاضراً
سيغموند فرويد المتوفى عام 1939 لا يزال حاضراً، لا بسبب تراثه العلمي فقط، بل حتى من خلال تفاصيل حياته التي تحرض على الاطلاع والمتابعة. يبحث المهتمون من خلالها على أدلة عملية من سلوكياته تفسر نظريات وأطروحات هذا المحلل النفسي الذي اثر في طريقة تفكير البشر في القرن العشرين، بتأسيسه اسلوباً جديداً في فهم النفس البشرية. من التفاصيل التي كانت محل اهتمام الأوساط الثقافية البريطانية أخيراً، معرض عن رسائل وكتابات خطها اثناء سفره للسياحة أو العمل، تحت عنوان «فرويد المسافر» استوحى تعبير Reisemalheurs الوارد في إحدى رسائله ويعني بالألمانية «مشقة السفر».
للوصول الى متحف فرويد شمال العاصمة البريطانية حيث اقيم المعرض، يجب على الزائر ان يصعد من الشارع الرئيسي في منطقة (فينشلي رود) الى تلة مزدحمة بالبيوت العريقة توحي بخلفية سكانية تنتمي الى الطبقة المتوسطة العليا. هذه المنطقة التابعة لمنطقة هامستيد الشهيرة، كانت معروفة بكونها منطقة تجمع المثقفين والفنانين في لندن قبل ان يغزوها العاملون في البنوك والمؤسسات المالية والإدارة في العقد الأخير تقريباً. كما انها شهدت هجرة يهود أوروبا منذ القرن التاسع عشر، وفي هذه المنطقة تحديداً اختار سيغموند فرويد ان يستقر مع عائلته عام 1938 هرباً من النازية وهتلر، بعد ان صمد لسنوات في مدينة فيينا متمسكاً بشقته وعيادته الشهيرة. ولم تكن انكلترا بغريبة عليه فقد زارها مرات منذ شبابه المبكر وأحبها. الا ان القدر لم يمهل فرويد طويلاً ليستقر فيها فقد توفي بعد وصوله الى لندن بسنة، وأكملت عائلته حياتها في ذلك المنزل حتى عام 1982 بوفاة ابنته آنا وكانت قريبة منه ومن تخصصه. وبقى المنزل لسنوات مغلقاً الى ان أعيد فتحه قبل عشر سنوات تقريباً من جانب معجبيه ومن تبقى من اقاربه، فتركت مكتبته والغرفة التي كان يستغلها كمكتب على حالهما من غير تغيير تماماً كما كانت في حياة فرويد، بينما استغلت بقية الأماكن للنشاطات المختلفة او تركت كما نظمتها العائلة.
اشتمل المعرض على تراث فرويد السياحي، أو الخاص بالسفر، والمحفوظ في أرشيفه الشخصي الغني من بطاقات بريدية ومطبوعات وخرائط، ورسائل الى عائلته واصدقائه، ثم كتب ومقتنيات اشتراها أثناء سفره. وهناك ترجمة بالإنكليزية تصحب عرض البطاقات والرسائل فقد كان فرويد يكتب بالألمانية.
كان فرويد يعتقد بأن السفر «ممتع وخطر في آن معاً» وقد تغلبت رغبته في الهروب من ضغوط حياة المنزل عندما كان شاباً صغيراً على مخاوفه من حوادث القطارات أو الإصابة بالكوليرا، أو مما قد يحدث أثناء التنقل والترحال. ومع تقدمه بالعمر عرف عنه حنينه الى السياحة نحو الجنوب الأوروبي خصوصاً الى ايطاليا في فصل الصيف. لكنه أيضاً سافر كباحث الى فرنسا، وجاء الى انكلترا لزيارة اقاربه في مانشستر ووقع في هوى الساحل الشمالي الغربي، وسافر الى الولايات المتحدة ليحاضر حول تخصصه في الطب النفسي.
ويحلل احد المتخصصين النفسيين رسائل فرويد الى عائلته اثناء السفر بقوله: «يلاحظ القارئ ان رحلاته تشكل نوعاً من اشكال العمل - الحلم، فهي تحقق رغبته التي تمتد بعيداً الى سنوات طفولته، عندما حلم في الاكتشاف والفتح المعرفي».
غير ان قلق فرويد العصابي بخصوص السفر والتنقل، يتكشف بوضوح من خلال سلسلة رسائله الشخصية الى عائلته. يقول منظم المعرض ان «القلق من فكرة السفر الى أماكن عريقة بتراثها، مثل روما، يكمن أساساً في خوفه من انه قد يؤخذ بعظمة وثقل ثقافة وتاريخ تلك المدينة». ولا بد من ان الأمر انطبق على مدن أخرى. فلماذا كان يخشى فرويد هذا الثقل الحضاري وهل كان يزعجه ان يغير من أفكاره التي بنى عليها نظرياته وتحليلاته النفسية مثلاً؟
في مقابل التخوف من «ثقل الحضارات» سنجد رسالة اخرى بنبرة مغايرة كتبها لزوجته من نيويورك يصف فيها تفاصيل زيارته لناطحة سحاب للمرة الاولى في حياته، فيؤكد انه لم يدهش لرؤيتها لانه شاهد في حياته ما هو اعظم «وإن لم تكن أضخم او أعلى» يقول في رسالته التي كتبها عام 1909 في اول زيارة له لاميركا بصحبه رفيقيه الرائدين ايضاً في مجال علم النفس: كارل يونغ وساندر فيرنتزي.
في مقابل توتره أمام السياحة الثقافية كان سيغموند فرويد يستمتع بالسياحة الطبيعية، وفي المعرض نقرأ ترجمة لبطاقة بريدية أرسلها لابنته آنا من منتجع سانت آن القريب من مدينة بلاكبول شمال غربي انكلترا على البحر الايرلندي، يبدي فيها سعادته ورغبته في ان يصطحبها معه في المرة المقبلة الى هذا المكان – على رغم ان هذا الشاطئ كان بسيطاً ولم يكن قد طور خدماته السياحية كما الآن -. فرويد زار المكان سابقاً عام 1875 وهو في التاسعة عشرة من عمره أثناء زيارة أقرباء له في مدينة مانشيستر القريبة، وهناك استمتع بالبحر الذي كان يراه للمرة الأولى في حياته، وتسلق صخور الشواطئ. وعندما عاد مرة أخرى عام 1908 كتب رسالة للعائلة يبدي فيها سعادته للهدوء والسكينة في المكان خصوصاً النظر الى البحر طوال النهار الأمر الذي يجعل الزائر يشعر بحال جيدة «استمتع بالإجازة هنا اكثر من أي مكان آخر. انكلترا عموماً هي للرحلات والأكل، وهناك بهجة في الاتصال بالناس في انكلترا اكثر من اي مكان آخر». هل تغيرت انكلترا ام ان فرويد نجح في ما لم ينجح فيه غيره؟ أو انه كان قد بلغ شهرة واسعة بحيث يتهافت الناس على التحاور معه؟
يفخر الإنكليز بأن فرويد أشار الى ولعه بمدينة بلاكبول في كتابه المهم «تفسير الأحلام» الصادر عام 1900. ولعل حبه لانكلترا هو الذي دفعه الى اللجوء اليها مع أسرته هرباً من وحشية النازية وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ولم يفكر بأميركا مثلاً.
لا يمكن اعتبار أرشيف فرويد الخاص بالسفر ضمن أدب الرحلات ولم تكن في ذهنه تلك الكتابة المتخصصة. غير ان زائر المعرض وأي مهتم بذلك التراث من الرسائل والمشاهدات قد يفكر في ما اذا كان هذا المحلل النفسي نظر الى العالم نظرته التحليلية إياها التي تحيل الأشياء الى الرغبات الجنسية الدفينة والى محفوظات اللاوعي. انه مثلاً يحكي عن متعة السيجار الخاص المتوافر في انكلترا وهولندا وأنه افضل بكثير من «تلك الطحالب الورقية البافارية» نسبة الى مقاطعة بافاريا الألمانية. يحكي هنا كأي رجل بسيط يقدم الأمور في منظورها المباشر الاعتيادي ومن غير رموز. أحد الأشخاص التقى فرويد مرة في أحد الأماكن العامة ولاحظ انه يدخن كثيراً، فسأله عن سر عشقه للسيجار؟ فأجابه بسخرية لاذعة «أحياناً لا يكون السيجار أكثر من مجرد سيجار».
لكن هل يمكن للمتابع تحليل ارشيف سفرياته الذي يحمل افكاره، من منطلق نظرياته تلك؟
رسائل السفر لن ترقى الى مستوى الرسائل الأخرى التي تبادلها مع علماء عصره واحتوت على شروح لآرائه ونظرياته العلمية، ولفتت أنظار القراء اليها عند نشرها في كتب خاصة، مثل الرسائل المتبادلة بينه وبين كارل يونغ. الا ان المعرض كان فرصة للاطلاع عن قرب على تفاصيل تخص شخصية مثل سيغموند فرويد بخط يده، خربشاته، الصور الملتقطة له في تلك الرحلات. في إحدى رسائله يحكي عن ضرورة شراء ربطات عنق جديدة لان ما لديه تلوث بجو البحر، وعن هم شراء الهدايا وشكواه من ان السوق الإنكليزية لا تحتوي الكثير، الخ من تفاصيل حياتية. صدر كتاب بالألمانية قبل سنوات جمع الرسائل ولم يصدر الكتاب بالانكليزية.
غالية قباني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد