فرنسا تنأى بنفسها وبوتين يكشف الصفقة: أردوغان صادق قبل أشهر على تسليم حلب
لا يزال السياق الذي قاد إلى استسلام المجموعات المعارضة في حلب الشرقية يتكشّف، ليتضح أن الأمر ما كان ليتم من دون صفقة بين الدول الفاعلة في الميدان السوري.
الخارجية الأوروبية نبهت مسبقاً إلى تحول تجب مراقبته في سياسة أنقرة، ليأتي الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ويقول إن من تخلّى عن المعارضة المسلحة لم تكن فرنسا. بدا الأمر كما لو أن هناك إقراراً بأن المعارضة كانت ضحية «صفقة»، تأتي أولاً وأخيراً من ارتهانها لدعم دول تستخدمها لصالح سياساتها.
أخيراً كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن دخان توجسات المعارضة ليس بلا نار، مؤكداً بالفعل عقد صفقة قبل أشهر مع نظيره رجب طيب أردوغان، كان أحد جوانبها الأساسية المصادقة على استسلام المعارضة المسلحة في شرق حلب. بوتين يواصل البناء على ما حققته تلك الصفقة. يقترح الآن مساراً جديداً للتفاوض السوري في العاصمة الكازخستانية، يوازي مسار جنيف لكن تقوده موسكو وأنقرة. هكذا يدخل الصراع السوري في مستوى جديد من التنافس الدولي، مع غموض يلف إمكانية تحقيق أي اختراق بدون انخراط مباشر من واشنطن ودول الإقليم الفاعلة.
لم تخف شخصيات في المعارضة شكوكها بأن أنقرة تغيّر أولوياتها، وبالتالي طبيعة دعمها الانتقائي والموجّه للفصائل المسلحة. بروكسل رصدت بدورها بوادر المناخ الجديد. حينما كانت تتحدث إلى جانب المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، نبّهت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيدريكا موغيريني أوائل هذا الشهر «أرى أن تركيا تعيد توجيه سياستها السورية»، قبل أن توضح «ليس من شأني التعليق أو توضيح هذا التحوّل، لكن نرى هذا بوضوح، وعلينا أن نرصد كيف سيتم تجسيده في النطاق الواقعي».
الرئيس بوتين كان يضع يديه ورجليه في مياه باردة، كما يُقال، مطمئناً إلى مجريات العملية العسكرية في حلب. كان أمضى 24 ساعة من زيارته الرسمية إلى اليابان، قال للصحافيين إنه خلالها «لم أطلع على المستجدات»، لذا لا يمكنه التعليق على تفاصيل الوضع الجاري. في ذلك الوقت، كان اتفاق الهدنة والإخلاء من حلب يُنتهك، مع تبادل الاتهامات حول مَن يتحمّل المسؤولية، مع تواصل الاهتمام الدولي والإعلامي بكل شاردة.
لدى بوتين أسباب وجيهة لعدم السؤال حول تلك الحيثيات. قال أمس (بحسب ترجمة الكرملين) في مؤتمر صحافي مع نظيره الياباني: «حسبما أرى فإن كل شيء يجري بالتوافق مع الاتفاقات، بما في ذلك الاتفاقات مع الرئيس التركي خلال زيارته سان بطرسبورغ»، قبل أن يوضح «لقد اتفقنا أن تركيا سوف توفر كل مساعدة ممكنة بالنسبة لإزالة هؤلاء المسلحين المستعدين للاستسلام في حلب».
هذه الجمل ليست تفصيلاً، بل تلخص حكاية كاملة. قمة سان بطرسبورغ جرت قبل أربعة أشهر ونصف، (في آب الماضي)، لتكون لقاء المصالحة والتطبيع بين بوتين وأردوغان. كان التوتر بينهما وصل مستوى غير مسبوق نتيجة إسقاط أنقرة المقاتلة الروسية أواخر العام الماضي، ما شكّل سابقة في تاريخ العلاقة بين دولة أطلسية وروسيا.
الترجمة المباشرة لكلام بوتين أن موافقة أنقرة على هزيمة المعارضة في حلب كانت أحد بنود المصالحة. لكنها كانت مصالحة عمادها المقايضة كما بين تعاقب الأحداث. خطوة التخلي عن حلب ترافقت مع تطور مهمّ، لم يكن بحاجة لكتمان، حينما حصل الغزو التركي للشمال السوري بتفاهم مع روسيا. لم تكن دمشق خارج تلك المساومات، إذ تحدثت الخارجية السورية بشكل مفاجئ عن حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي بوصفه امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني» التركي، ما بدا تبريراً لتجاهل التدخل العسكري التركي.
بعد قمة سان بطرسبرغ بشهرين عقد بوتين وأردوغان قمة أخرى في اسطنبول. المعارضة المسلحة في حلب كانت تستنجد لفكّ الحصار، فيما الخلافات تعصف بين الفصائل مع تبادل الاتهامات بالتقاعس. لم تتحرك أنقرة للإنقاذ متفرغة لعملية «درع الفرات» ضد مشروع القوات السورية الكردية، ولم تعط أي إشارة عن أنها مهتمة بدفع الفصائل المعارضة المرتبطة بها للتركيز على فك الحصار المحكم على حلب. بدلاً من ذلك، كان أردوغان يواصل حديثه إلى جانب بوتين، في تشرين الأول الماضي، مسوقاً شعار «حماية المدنيين» في حلب بدلاً من تلبية دعوات المعارضة المسلحة.
الصفقة يُبنى عليها كما قال بوتين أمس. هناك عمل على وقفٍ شامل لإطلاق النار، مع إحياء التفاوض السياسي في الاستانة، لتكون العاصمة الكازخستانية المكان الجديد المرجّح لموازاة مسار جنيف. قال بوتين شارحاً ذلك «المرحلة المقبلة ستكون الاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد، نحن نحافظ على حوار فعّال مع المعارضة المسلحة، وأيضا بمساعدة تركيا»، قبل أن يوضح أنه اتفق قبل أيام مع أردوغان على «أننا سنقترح على أطراف الصراع مواصلة محادثات السلام في مكان جديد، هذا ما سنقترحه نحن على الحكومة السورية، والرئيس التركي سيقترحع على المجموعات المعارضة. عاصمة كازخستان، الاستانة، يمكن أن تكون هذا المكان الجديد».
حاول بوتين امتصاص ردود الفعل المتوقعة على القفز عن عملية جنيف، مدافعاً بأن الأمر ليس كذلك: «إذا نجحنا، فهذه الأرضية التفاوضية الجديدة لن تدخل في منافسة مع المحادثات في جنيف بل ستكون مكمّلة لها»، ليستدرك مؤكداً العزم على المضي في هذا الخيار «على أي حال، أينما يجتمع أطراف النزاع، فأعتقد أنه من الصواب عقد هذا الاجتماع والتحرك باتجاه حل سياسي، هكذا أرى الأفق الآن في سوريا».
ليس معروفة إمكانية إحداث اختراق هنا بعيداً عن مظّلة الرعاية المشتركة مع واشنطن. دمشق لم تكن، على ما يبدو، بعيدةً عن تلك التفاهمات. الرئيس السوري بشار الاسد لم يُخفِ عدم قبوله بعملية جنيف، حينما وصفها بـ «المولود الميت»، متحدثاً وكأن انخراطه كان عن قصد لمجرد المسايرة الدولية. حديث بوتين عن أرضية جديدة للتفاوض يضع مسار جنيف أمام أسئلة جدية: إذا كانت الاستانة، ترجيحاً، فستكون مكملة، فهل يعني ذلك إيجاد «إطار عمل» لتنفيذ خريطة جنيف؟
لم يجر تفاوض جدي حول صيغة الانتقال السياسية التي تقترحه تلك الخريطة. بقي الحديث ينتهي بالخلاف حول مستقبل الأسد في العملية الانتقالية وما بعدها، في رمزيّة دالة على مراهنات الأطراف الدولية بإمكانية حسم وجهة الانتقال السياسي. الأوروبيون يقولون إن أنقرة تغير وجهة «سياستها» السورية، ليبقى من غير الواضح إن كانوا يتحدثون عن موقفها من بقاء الأسد أم عناوين أخرى، رغم أن ذلك سيكون الرمز الأهم لأي تغيّر جوهري؟ يمكن التذكير هنا بأن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن اشتكى، خلال مصارحة نادرة، بأن مشكلة واشنطن هي في إصرار حلفائها الإقليميين على هدف إسقاط الأسد.
تطورات حلب جعلت بعض القادة الأوروبيين يخرجون من قمتهم، فجر أمس، ليجدوا أنفسهم أمام محاكمة صحافية لجدوى السياسة المنتهجة خلال السنوت الماضية تجاه الصراع السوري. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ألمح إلى التحوّل القائم، ملمحاً إلى أن هناك راعين آخرين للمعارضة يمكنها أن تلومهم: «لدى المعارضة الشعور أنه تمّ التخلي عنها، لكن التخلي عنها لم يجر أبداً من قبل فرنسا». أمام تملّصه، سئل هل من المعقول أن الامور وصلت إلى هذه الحال بدون الاعتراف بحصول أخطاء؟ ليردّ بأن الخطأ الأهم كان في «ترجمة بعض الأحداث، ففي آب 2013 كنت أفكر أنه من الضروري التحرك (عسكرياً) حينما استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية، لكن تم اختيار حلّ آخر، وها نحن الآن نرى العواقب».
هذا الكلام علّق عليه مسبقاً فرانسوا فيون، المرشح اليميني الأوفر حظاً في خلافة هولاند. حينما كان يوجه سلسلة انتقاداته من بروكسل، في قمة مصغرة مع بعض الزعماء من عائلته السياسية، قال إن الولايات المتحدة «هي الوحيدة» القادرة على النهوض بالتدخل العسكري في سوريا، معلقاً أنه «كان من غير الواقعي توقّع ذلك من واشنطن».
على المنوال ذاته، ليس واضحاً إن كان واقعياً انتظار نجاح «مسار الاستانة» الموعود، في غياب واشنطن. تفيد الإجابة ربما إيراد مفارقة مرتبطة بالمكان والمناسبة. في أوائل تشرين الأول الماضي، كان إيرلان ادريسوف، وزير خارجية كازخستان الحليفة الوثيقة لروسيا، حاضراً اجتماعاً في بروكسل، حينما كانت واشنطن تعلن تعليق تواصلها مع موسكو حيال سوريا. كنا حينها نرصد ردود الفعل الأوروبية، الشديدة التحفّظ، ليبادر ادريسوف بالقول: «أعتقد أن هذه الأزمة العميقة والدموية التي يراها العالم كله لا يمكن حلها بدون المشاركة الفعالة لهذين اللاعبين الأساسيين (موسكو وواشنطن)، رغم وجود العديد من أصحاب المصلحة والعديد من المساهمين في بناء السلام في ذلك الجزء من العالم».
وسبم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد