عبد السلام العجيلي: أتعجب لعجز يدي عن حملها قلماً
أكثر من وعكة وجراحة، وفوقها زلة قدم، داهمت الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي في الآونة الأخيرة. كعادته رابط الجأش،
لكنه يسأل عن سبب تمرد يده عليه، وهو الذي كان يستل قلمه بعنفوان، كلما استدعت الضرورة ذلك.
لم يكن اللقاء مع الدكتور عبد السلام العجيلي في مقهى الشام، كما جرت العادة، حين يزور دمشق بين آونة وأخرى. كان لقاؤنا في المشفى الذي سبق وحلَّ فيه قبل فترة قريبة، وخضع أثناءها لعملية جراحية لم تكن سهلة، وتمكنت عزيمته الصلبة من اجتياز الأزمة الصحية الصعبة بسرعة رغم تقدمه في السن، وخرج منها ليحكي عن صور زاهية كانت تراوده في غيبوبة متقطعة استمرت عدة أيام، كأنه كان في صالة سينما، تعرض فيلماً بديعاً. ربما هو الرضى عن النفس، أو هي قناعة ما فتئ يعبر عنها. فهو لا يطلب شيئاً في دنياه سوى الطمأنينة ومحبة الآخرين. اجتاز الحاجز الأول في اختبار الصحة، وعاد إلى بلدته ليمارس حياته بشكل طبيعي، بين المقهى والمضافة وغرفة المكتب، وأحياناً السفر إلى دمشق للقاء الأصدقاء.
زلة قدم العجيلي
لكن سوء الحظ هذه المرة، تربص له في غرفته في الفندق، عندما زلت قدمه فعاد على الأثر إلى المشفى، ليخضع لعمل جراحي آخر لعلاج كسر في الساق، ولتبدأ مرحلة جديدة من التحدي ستكون أشد ضراوة، بين روح تنهل الحياة بشغف، وجسد بذل أكثر من طاقته ليواكب طموحات شخصية ووطنية وقومية ندر وجودها في هذا الزمن. فمن مهنة الطب الشاقة في ريف ناء، متعب وفقير، إلى كرسي النيابة في العاصمة، مروراً بالتطوع في جيش الإنقاذ لنجدة فلسطين، وليس انتهاءً بالعمل الدبلوماسي والثقافي، مسيرة حافلة، تكللت بأسفار الى مختلف بقاع الأرض طلباً للمعرفة والتواصل مع ثقافات المجتمعات الأخرى. نشاط تجسد في أدب رفيع، وشعر ظريف، وقصص شيقة، وروايات مشوقة، ومحاضرات قيمة، ومقالات صحافية غالباً ما كانت دواء مراً لداء مستشر في بلداننا.
جسد عانى طويلاً من انشغال العقل والنفس بالهم العام، فتحدى التعب وغالب الإنهاك، بالفكاهة والمرح والحكايا الناقدة الطريفة، المبطنة بالسخرية. كانت مرحة وتبدو خالية البال، خالطتها فكاهة مستحبة حين كانت الأجواء مبسوطة. أما الآن فتحولت الكتابة الساخرة، إلى جادة ممزوجة بمرارة أوضاع أخذت تتدهور، بسبب واقع، قد يثير الضحك من فرط سوداويته، كما هي حاله: «أحياناً أضحك لكنه ضحكٌ كالبكاء».
في المشفى يشكو العجيلي من تعطله عن القراءة والكتابة، فقد كان يقرأ كل ما تقع عليه يديه، فيتجاوز عدد الكتب التي يقرأها في العام الواحد الـ200 كتاب. في السنوات الأخيرة اقتصرت قراءاته على ما يهدى إليه من إصدارات جديدة، وبالأخص من الشباب، وباقي الوقت خصصه للكتابة في صحافة، يصر أصحابها على حضور قلمه فيها، ويجد حرجاً من الاعتذار، مفضلاً الانشغال بها على نيل قسط من الراحة، بعدما ترك مهنة الطب منذ نحو عامين. إلا أن الجسد المتعب الذي لم يعد يساعده على ممارسة الطب، أعلن إضرابه أيضاً، ولم يعد يساعده على القراءة والكتابة، فيتذكر بأسف أمير شيزر أسامة بن منقذ، أحد العلماء والفرسان الشجعان، الذي أعلن جسده إضرابه عليه، بعدما عاش أكثر من ثمانين عاماً تخللتها عدة حملات على الصليبيين، فيردد شعره:
متعجب لعجز يدي عن حملها قلماً
من بعد ما حطم القنا في لبة الأسد
فقل لمــن يتمنى طول مدتــه
هذه عواقب طـول العمر والمدد
يقرّ للمرة الأولى بوهن الجسد
تلك هي المرة الأولى التي يقر فيها العجيلي بوهن الجسد، وقد تكون هي الخشية من سؤال دأب في الزمن الأخير على إلقائه على نفسه بين الحين والحين، وهو «كيف يمكن للمرء أن يرحل عن هذه الدنيا بهدوء، دون أن يتألم أو أن ينزعج، ودون أن يؤلم الآخرين أو يزعجهم؟». سؤال نردده بقلق طالبين له الصحة وطول العمر، فنحن ما نزال بحاجة الى وجوده معنا مثالاً يحتذى، كاستثناء نبيل وجامح في واقع مظلم ومستكين.
يُحسد العجيلي على صفات كثيرة يتمتع بها، حسبه شعوره بأنه لم يعان الفشل، لأن الخوف من الفشل، ساعده على تداركه؛ كما يؤكد دائماً، حين يرد على سؤال عن أسباب هواجسه تلك: لقد عشت الحياة حلوها ومرها، عشت حتى شبعت منها، رحم الله أبا نواس وهو القائل:
على الفراش، ولا يدرون ما دائي
يا ويح أهلي، أبلى بين أعينهم
الانكفاء عن الأنظار
ما إن خرج الدكتور العجيلي من العمل الجراحي الثاني، حتى طلب العودة فوراً إلى بيته في الرقة، ربما كما قال ذات مرة عن نفسه، لأن فيه شيئاً من طبع الوحش، حين يتعرض لجرح ينكفئ في المغارة بعيداً عن الأنظار ريثما يتعافى، أو ربما لا يريد لأحد أن يراه ضعيفاً، وهو الذي عود الآخرين أن يكون أكثرهم شباباً ورشاقة وخفة ظل، أو ربما لأنه لا يمكنه العيش أو الكتابة خارج الرقة، فقد التصق بها، على امتداد عمر الدولة السورية المعاصرة، فتحولت من بلدة صغيرة نائية، إلى مدينة حاضرة وقريبة من محبي أدب العجيلي لكثرة ما حكى عنها فكأنها هو، وهو هي، من الصعب الفصل بينهما، يرد ذكر العجيلي فتتداعى إلى اللسان الرقة وبالعكس، حتى اختلط ذكرهما في الذاكرة الشعبية، ونظمت أهازيج للأفراح يرد فيها ذكر العجيلي وكأنه شخصية تاريخية موغلة في القدم، أو أحد الأولياء الصالحين. فنسمع:
بين الرقة ودير الزور
طالع كماة يا طيبو
عبد السلام موصي
كل من ياخد خطيبو
يهز رأسه العجيلي مبتسماً بفرح طفولي نضر كلما أعدنا على أسماعه هذه الأهزوجة معلقاً: في بلدتي يعتبرون الخطيب هو الحبيب.
قصته مع الرقة
لعل أكثر ما يستاء منه عبد السلام العجيلي، تكرار طرح هذا السؤال عليه: ما الذي يجعلك تعيش في الرقة هذه المدينة النائية؟ فعلاً، كيف لهذا الرجل الذي ذاع صيته، واقبل إليه الكتاب والباحثون والمفكرون يقصدونه من بلدان عدة، كيف لهذا الأديب بتجربته الواسعة الطيف، الاستقرار في محيط مدينة، لن تمنحه ما تمنحه إياه العاصمة، أو المدن الكبرى.
لا يخفي عبد السلام العجيلي تبرمه وانتقاده، لهكذا أسئلة: بقائي في الرقة هو الشيء الطبيعي، ويجب أن يُسأل الآخرون عن سبب هجرتهم. أنا بطبعي أحب الأشياء الشاقة، فلو أني أرغمت على ترك الرقة لذهبت إلى الكونغو أو نيجيريا مثلا، ولكنني رغم ذلك لا أحرم نفسي من رؤية الأشياء الجميلة، ولذلك كثرت أسفاري، ويتابع: يريدون مني أن أفكر بعقليتهم واشعر بمشاعرهم، لي عقليتي الخاصة التي لا ترى في الانجازات الثقافية وما يتعلق بها من شهرة وبعد صيت، الأهمية التي يرونها هم. أما أن تكون مدينتي صغيرة أضيق بها أو تضيق بي، فإني أتمثل في هذا المجال دوماً ببيت الشاعر عمرو بن الأهتم.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
ويبدو أن أخلاقي من السعة بحيث لم يؤثر بها ضيق بلدتي الفائق، ولا أدركني الملل فيها. والدليل على ذلك أني بلغت بها، مع إصراري على البقاء، مبلغاً قصر كثيرون عن بلوغه في بلدانهم الواسعة.
أهالي الرقة بادلوه مشاعره بأحسن منها، وقد نكون نحن الذين عرفنا من العجيلي جانبه الآخر، كأديب مرموق وسياسي مخلص ووطني مناضل، لكن أهله وأبناء مدينته عرفوا فيه طبيباً بارعاً وإنساناً رائعاً، لم ينسهم لحظة، لاسيما حين تسلم وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، فوجه لهم شكره ومحبته مقتسماً معهم التكريم، ورأى في تكريمه تكريماً لهم من خلال شخصه، لأنه واحد منهم وليس لأنه أفضلهم. شخص كعبد السلام العجيلي اجتمعت فيه خصال نادراً ما اجتمعت لشخص واحد. وإذ نتمنى له التعافي، فلأننا نفتقده، كما تفتقده دمشق المشتاقة لتفاؤله وضحكته في زماننا العبوس هذا.
الجمل/ سعاد جروس
إضافة تعليق جديد