طه حسين في ذاكرتنا
اقبل صاحبنا على دروسه في الازهر وغير الازهر من المساجد. فأمعن في الفقه والنحو والمنطق، واخذ يحسن "الفنقلة" التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم، ويسخر منها المسرفون في التجديد، ولا يُعرض عنها المجددون المعتدلون. واذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً، والازهرية مع الظهر، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً. وكان يحضر الدرس الاول في الازهر، والدرس الثاني في مسجد محمد بك ابي الذهب، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على استاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه. وربما المّ بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول الى شرح ابن عقيل على الالفية. ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس. كان يستجهل الشيخ، ويرى في "فنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الازهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه.
وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الازهرية هذا، ففيه تعلم "الفنقلة" حقاً، وكان اول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف "وعلامة الفعل قد"، فقد اتقن صاحبنا ما اثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والاجوبة، واتعب شيخه جدالاً وحواراً حتى سكت الشيخ فجأة اثناء هذا الحوار، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط، ولم يذكره قط الا ضحك منه ورقّ له: "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة". قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر، ويملؤه العطف والحنان ايضاً. وآية ذلك انه بعد ان اتم الدرس واقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون، وضع يده على كتف الصبي، وقال له في هدوء وحب: "شد حيلك الله يفتح عليك".
وعاد الصبي مبتهجاً بهذه الكلمات والدعوات، فأنبأ بها اخاه وانتظر بها اخوه موعد الشاي. فلما اجتمع القوم الى شايهم قال للصبي مداعباً: قرر لنا "وعلامة الفعل قد". فامتنع الصبي حياء اول الامر، ولكن الجماعة الحت عليه، فأقبل يقرر مما سمع وما وعى وما قال، والجماعة صامتة تسمع له، حتى اذا فرغ نهض اليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبّل جبهته وهو يقول: "حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام".
واما الجماعة فاغرقت في الضحك. واما الصبي فاغرق في الرضا عن نفسه، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد انه اصبح طالباً بارعاً نجيباً.
من كتاب "الايام" لطه حسين
إضافة تعليق جديد