سيرة مزدوجة للجواهري بتناقضاتها الكثيرة
على سعة وإتساع الحياة التي عاشها الشاعر محمد مهدي الجواهري (1900-1997)، وعلى أهميته الشعرية وما أثار شعره ومواقفه من قضايا ومشكلات إجتماعية وسياسية أكثر منها فنية، فإن الدراسات التي كتبت عنه وفي شعره تكاد تكون قليلة قياساً الى ما حظي به شعراء آخرون من عصره. وكتاب الناقد عبدالحسين شعبان «الجواهري: جدل الشعر والحياة» (دار الآداب - بيروت 2009) من الكتب القليلة التي تناولت حياة الشاعر وشعره. فهو كتاب يحتلّ أهمية استثنائية وسط ما كتب عن الشاعر حتى الآن من دراسات، وذلك من ناحيتين: الناحية التوثيقية - التاريخية لعديد القصائد والمواقف، وناحية المعرفة الشخصية والقرب، مكاناً وزماناً، من الشاعر، ما أتاح له الكشف عن تفاصيل كثيرة متعلقة بحياة الشاعر، ومواقفه، وعلاقاته، متحرياً العوامل المحركة لبعض مما كتب، وفي مراحل مختلفة من حياته. فكان أن وضع قراءته التاريخية هذه (أكثر من كونها قراءة نقدية لشعره) في محاور كشف فيها أو من خلالها عن تشكلات الذاكرة الشعرية للشاعر عبر قصائد بذاتها وجدها تقابل صوراً من الحياة عاشها الشاعر، أو تنزل منزلة تلك الحياة.
وإذا كان تابع في هذه المحاور مفاصل من حياة الجواهري، الانسان والشاعر، فإنه تابع كذلك تطور علاقته الشخصية به، قارئاً ثم صديقاً، فأغنى قراءته بكثير من التفاصيل التي قد تكون غير معروفة، ولا محددة على النحو الذي جاءت فيه. إلا أن «أسلوب التداعي» الذي اعتمده الكاتب في عملية التدوين جرّه الى تفاصيل كثيرة عن قضايا ومواقف قد تخص الكاتب أكثر مما تخص الشاعر وشعره، ما يمكن أن نعده «سيرة ثنائية» للشاعر موضوع الكتاب، ولمؤلف الكتاب، فهو سحب بعض مواقفه السياسية على الموقف العام للشاعر. وتتواشج مع هاتين السيرتين «سيرة» الواقع السياسي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية العام 1921 الى اليوم، بعد وفاة الجواهري بأكثر من عقد. وهي «سيرة» نخلص من خلالها الى أن عهد العراق الملكي (1921- 1958) هو الافضل من حيث التعاطي مع الانسان والمجتمع والثقافة قياساً الى «العهود الجمهورية» التي أعقبت، وصولاً الى «عهد الاحتلال الأميركي» القائم اليوم.
وفي محور وضعه تحت عنوان «شاعر ودولة» كانت نقطة الانطلاق فيه نظرة تمييزية بين «سلطة المثقف وسلطة الحاكم»، وجد الموضوع يقوم على المفارقة والتفارق: «ففي حين كانت سلطة الجواهري الثقافية تتعزز، كانت المسافة تتباعد بينه وبين السلطة السياسية»، لتنسحب حالة التفارق هذه على علاقته بالمجتمع - الذي كان أن خرج على بعض من تقاليده بعد أن لم يجد فيها أكثر من تكبيل لوجود الانسان فيه، مخترقاً «التابو الاجتماعي»، ومعلناً «ثورته الاجتماعية» التي ستكون الوجه الآخر لثورته السياسية. بل سيبلغ به حدّ «الخروج» في القول الى الخروج بالفعل، ملقياً «عمّته» عن رأسه، وحين سألوه عنها أجاب: «إني طرحتها في الكناسة» - كما جاء في واحدة من قصائده - مشبهاً قوافيه، في ذلك العهد المبكر من حياته وشعره، بحسن خليلته وهي تقف أمامه «حرة»، واعترافه بأنه «بشرٌ جمّ المساوئ آثمٌ أشِرُ» ... مقتحماً «الحياة الاجتماعية السائدة بجرأة عجيبة».
وإذا كان الجواهري، في شعره، لم يترك لسواه أن يتفحص «جوانب شخصيته بتلقائتها وعفويتها، بعناصر القوة الكبيرة ونقاط الضعف الانسانية» فإن ذلك هو ما سيكون معْبر هذه القراءة، الشخصية التاريخية، للشاعر، والتي سيكون المحور الآخر فيها «في حضرة الشعر»، متأملاً في فضاءاته، وغنى تجربة الشاعر فيه «وتنوعها وتعدد صورها الفنية». فهو على رغم حزنه الذي يصفه المؤلف بالحزن الكلاسيكي، «يمتلك قدرة عجيبة على تذوق مباهج الحياة في مساحاتها، التخيلية منها والواقعية». وبتأثير الواقع المزدوج لبيئته الاجتماعية (وهي نفسها البيئة الاجتماعية للمؤلف) كان يأتي بـ «قصيدة للتحدي وأخرى للحب». بل يجده في تلك البيئة قد عاش في ظل سلطات ثلاث كانت لكل منها استجابتها الخاصة عنده: فهناك سلطة الدولة التي «أكسبته التحدي، وسلطة الثيوقراطية الدينية [التي] دفعته للتحرر، وسلطة التقاليد [وقد] دفعته لفكرة الحداثة».
أما محور الحوار واللقاءات فهو الآخر نجد فيه الاثنين معاً: المؤلف والشاعر، وجهاً لوجه، هذا معلقاً، أو مستفسراً، أو طالباً الرأي وتحديد الموقف في قضايا بعضها ينتمي الى ما هو «تاريخي شخصي» أو ما يقع موقعه، وبعض آخر يجمع بين الشخصي والعام من التاريخ، وبعض ثالث يتحرى الدواخل، فيما هو في رابع يتقصى شؤون الابداع الشعري عنده، فضلاً عن مداخلات حياته في شعره... بما يلقي مزيد الأضواء على شعر الشاعر وشخصه، وهو الذي يؤكد «أن كل قصيدة [من قصائده] هي ثمرة نكسة أو فاجعة أو نتاج موقف». فهو الشاعر المتمرّد الذي خاطب نفسه يوماً من ثلاثينات القرن الماضي قائلاً: «وما أنت بالمعطي التمرّد حقه / إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى».
وإذ يقرّ المؤلف أن البحث في شعر الجواهري وأدبه «بات من الأمور المعقدة نظراً الى غنى تجربته وتنوعها وتعدد صورها الفنية»، فذلك لأنه وضع مؤلفه هذا في «محيط الجواهري» الإنسان والشاعر، وليس عند «شاطئ من شواطئه. فقد أراد المؤلف، على ما يقول كتابه، أن يحيط مرة واحدة بالاثنين معاً، الإنسان والشاعر. فالجواهري، كما يرى بعض دارسيه، فضلاً عن شخصيته الكبيرة فهو شخصية متناقضة «الى حدّ التصادم والتطرف»، الأمرالذي يدعو الشاعر والباحث عبد اللطيف إطميش أن يتساءل (في مقدمته للكتاب) عن الكيفية التي يمكن أن يصل فيها الدارس الى هذه الشخصية، «وكيف يتعامل معها، وكيف يؤلف بين متناقضاتها ليخرج في النهاية» بما خرج به شعبان في كتابه هذا من «صورة واضحة وحقيقة لهذا الشاعر...».
ماجد السامرائي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد