ريف حمص الشمالي: مدنيون تحت النار... و«عايشين»
تمثّل مقبرة قرية جبورين تعلّق الأحياء بالأموات، إذ لا فرق في توقيت زيارة المقابر بين صباح أو مساء. عند دخول القرية تلفتك أرملة يافعة انتهت من وضع الريحان على قبر زوجها الشهيد، ومع الخروج تستوقفك دموع أم ثكلى خرجت للتو من زيارة قبر ابنها. المقبرة الواقعة في محاذاة تل جبورين تتوسط القرية، وتختصر القبور الحديثة المزينة بالورود والصور كل أحزانها. يبلغ عدد سكان جبورين 2000 نسمة، بينهم 90 شهيداً. نزح نحو نصف سكان القرية في اتجاه قرية تسنين المجاورة وحي جب الجندلي وسط مدينة حمص. بعد اجتياح مسلحي «جبهة النصرة» لقرية أم شرشوح شمال جبورين في ريف حمص، والسيطرة عليها.
على الطريق الوعر نحو جبورين مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة في هذه المنطقة ذات الطبيعة الصحراوية، تتخللها بعض حقول القمح. أبقار وأغنام ودواجن تسرح في الأراضي المترامية، غافلة عمّا يجري حولها من حروب. يشير المرافق إلى يمين الطريق نحو منطقة تدعى «المشاريع»، يفصلها عن الطريق ساتر ترابي حديث الإنشاء. «المشاريع» عبارة عن بضعة منازل بالقرب من خزّان مياه، تسلل إليها مسلحون وشكّلوا خرقاً أمنياً تحوّل إلى بؤرة انطلاق لعملياتهم. «وجود خفيف للمسلحين في المشاريع، باعتبارها مفتوحة على قرية الدار الكبيرة التي تقع إلى الجنوب منها» يقول المرافق، آملاً بمصالحة يُحكى عنها تشمل الدار الكبيرة القريبة من المنطقة.
فلاحات يتحدّين الحرب
كثير من مظاهر تحدّي الموت يستوقف المرء على مشارف جبورين. فلاحتان تواجهان حدود قرية أم شرشوح المدمرة بالعمل في الأرض. عبير، الأخت الكبرى، في عائلة نزحت نحو تسنين المجاورة، هرباً من الموت في منزل أصبح نقطة تماس. تشير إلى بيت عائلتها الذي تبدو آثار القصف واضحة عليه، بُعيد سقوط أم شرشوح. هجرت العائلة المنزل إلى تسنين الأبعد عن الخطر، إلا أن الهجرة غير مكتملة. تأتي الفتاة وشقيقتها كل أسبوع مرات عدة، لقطف الخضر واليانسون لصنع العرق، ولجلب علف للحيوانات. تعرف في أي الأوقات يشتد نشاط القنص، فتتشجع خلال ساعات الهدوء على المضي نحو العمل.لا تبدو المعركة سهلة بعد فشل محاولات الجيش لاستعادة تل «أبو السلاسل»
بيوت القرية متناثرة بعشوائية، وجدران منازلها اسمنتية كمعظم منازل الريف الشمالي الفقير. بعض المنازل القديمة تبدو مميزة بحجارتها السوداء. عند مدخل كل بيت عبّارة تغذّيه بحصته من المياه، فيما تغطي الدشم المنازل الخالية التي يستخدمها عناصر لجان الدفاع عن القرية لمواجهة أي اعتداء.
«الحرب طلعت براسنا»
تجلس أم خليل على قارعة الطريق وملامح الحزن والعجز تكسو وجهها. تحتاج إلى الحديث مع «الغرباء» لتشكو هموماً باتت مملّة بالنسبة إلى جيرانها الذين سئموا أخبار القناص والقذائف. تشير إلى منزلها المواجه لقرية أم شرشوح، تشرح كيف استحالت أيام القرية موتاً يومياً. «عايشين تحت النار. ما منعرف من وين الموت بيجينا. كل الحرب طلعت براسنا». ماذا عن الهموم الأخرى؟ سؤال يثير سخريتها، فتجيب: «شو بدك أكبر من هيك هموم؟ ضل فيه شي ينحكى عنو؟». تبدو أم خليل أكثر أهالي جبورين حظاً، إذ لا شهيد بين أبنائها.
غير أن سائر الأهالي، كأم خليل، يختمون حديثهم بالقول: «الله يحمي هالشباب». ويبادلهم جنود الجيش الود، إذ يقول أحدهم: «منرفع راسنا ومنفتخر إنو وجودنا بالضيعة سمح لأهاليها يمارسوا أعمالهم بالزراعة والفلاحة وحسّوا ببعض الأمان». ويردد جندي آخر برضى لا يخلو من الاستغراب: «على أول خطوط النار عايشين معنا. عم يتعرضوا للي عم نتعرضلوا وعم يشتغلوا وعايشين!».
فتّش عن مسلحي حمص القديمة
سنة ونصف سنة عانت خلالها قرية أم شرشوح ذات الغالبية المسيحية من هجمات المسلحين، باعتبارها خط تماس مع محيط متمرد يتألف من قرى تلبيسة وعز الدين والرستن والغنطو والحولة والدار الكبيرة. ومع خروج 2300 مسلح مدرب من حمص القديمة باتجاه القرى المذكورة ازداد الضغط على أم شرشوح، ما أدى إلى تهجير أهلها. مخطط الدفعة الجديدة من المسلحين بدا متمثلاً بوصل الريف الشمالي وتوحيد جبهة القرى المتمردة ضد الجيش، بهدف تنظيم القتال فيها على نمط معارك حمص القديمة، باعتبار مسلحيها الأكثر خبرة وتدريباً على حرب المدن بعد قتالهم ضمن أقسى ظروف الجوع والحصار أكثر من سنتين. اقتصرت هجمات المسلحين في أم شرشوح على غزوات يصفها جنود الجيش بالعشوائية. ولكن سرعان ما نظّم المسلحون بالاشتراك مع وافدي حمص القديمة معركة أسقطت القرية سريعاً وأوقعت 60 شهيداً من الجيش و«الدفاع الوطني»، ما جعل قريتي جبورين وكفرنان تحت التهديد المباشر.
تظاهرة في شارع الستين وسط حمص مؤلفة من نساء جبورين النازحات إلى المدينة ألّبت مواجع الحمصيين. التظاهرة التي قطعت الشارع الحيوي اعتراضاً على أحداث القرية الدامية، الخالية من أبسط الخدمات ضمن أسوأ أساليب فقر العيش، رفعت شعار «عدم ترك جبورين وحدها». وبتوجيه رسمي خرج محافظ حمص طلال البرازي للقاء الأهالي ورجال الدين، بالتزامن مع محاولات الجيش السيطرة على التلال المحيطة بالقرية، لتأمين أطرافها الملاصقة لأم شرشوح. لا تبدو المعركة سهلة، بعد فشل محاولات الجيش لاستعادة تل «أبو السلاسل» الواقع على مشارف أم شرشوح. محاور تمركز الجيش تنتشر على طول حدود جبورين مع قرية أم شرشوح، إلا أن صوت جندي يصيح معلناً الانسحاب من نقطة متقدمة على حاجز الغربال، يوحي بأن زيارة القرية المنكوبة ليست نزهة. تستنفر قوات الجيش لسد الثغرة الحاصلة، بالتزامن مع سقوط حقل الشاعر للغاز الطبيعي في الريف الشرقي. أوامر عسكرية بنقل عناصر من الجيش من جبهة جبورين للانضمام إلى القوات المتجهة إلى تحرير الحقل المشتعل، في الوقت الذي تصل فيه قوات أُخرى إلى جبورين لتحل محل العناصر المغادرة، خوفاً من استغلال الوضع وخرق جبهة الريف الشمالي. أحداث توضح عدم اطمئنان قيادة الجيش وعناصره، في الوقت الحاضر، إلى أي من جبهات حمص المفتوحة شرقاً وشمالاً، ما يشي بأن مهمتهم أصعب من أي مهمة في مدينة أُخرى.
رجال المنازل... أطفالها
يمشي حيدر الصغير على طرف قرية أكراد الداسنية في الريف الشمالي محتمياً بصف من الأشجار للهرب من حر الشمس. كان على أمه أن تدرّبه على خط سير متقن يقيه طلقاتِ القناص في قرية أم شرشوح المقابلة، قبل تعليم الطفل ذي الأربعة أعوام تفادي المرور أمام السيارات العابرة. يشرف تل «أبو السلاسل» على القرية الفقيرة، فيقلب أيام سكانها جحيماً، إذ إن عجز الجيش عن السيطرة عليه جعله مركزاً لمسلحي «النصرة». تمتد قرية كفرنان حتى آخر الخط الدفاعي للقرى «الموالية»، قبل الوصول إلى سكة القطار الفاصلة عن تجمع القرى المتمردة الممثلة بكيسين وبرج قاعي والحولة، وتشرف على خط الإمداد الواصل حتى قرية حربنفسه. يمكن، في معظم القرى المذكورة، ملاحظة كيف يستمد السكان قوتهم من شهدائهم. وكأن صورة رجل ما، بوقفته الشجاعة وعتاده الكامل، تكفل نوعاً من التعويض والحماية لعائلة بلا حماية أو معيل. الأطفال في معظم القرى يمارسون مهمات الرجال، فمعظمهم يرعى الأغنام أو يقود دراجات نارية بغرض جلب حاجيات عائلاتهم وتسهيل تنقلاتهم. ومن الطبيعي رؤية طفل يجرّ جرة غاز أو يحمل أغراض المنزل الثقيلة. يمكن رؤية إحدى النساء أيضاً تحمل جرّة غاز منزلية، في ظل القناعة الكاملة لدى الجميع بأن لدى الرجال مهمات أجدى نفعاً أمام الخطر الذي يتهدد قراهم.
«تسنين»... أين التركمان؟
آثار الخراب في قرية تسنين المجاورة تفوق القرى الأُخرى على طول شريط القرى الدفاعي. القرية الصغيرة التي مثّلت في السابق نموذجاً لتعايش تركمان سوريا ضمن النسيج الوطني، تغيرت معالمها. عائلتان تركمانيتان تعيشان في القرية التي تورط بعض أبنائها بعلاقات مع المسلحين. يقول خالد من أهالي تسنين: «تورط عدد من أقاربي بإعطاء إحداثيات استُخدمت لتصويب القذائف والصواريخ من الشمال نحو بعض بيوت القرية، وتم كشفهم».
هجرت عائلات تركمانية القرية إلى وسط حمص وقرى مجاورة أُخرى، حسب خالد، وذلك بسبب حراجة مواقفها بعدما سبّب بعض أبنائها الأذى لجيران العمر. لم ينزح خالد من منزله، وبقي رغم كل الهواجس التي نقلها إليه أقاربه حول الانتقام والاعتقال. يقول واثقاً: «أنا ابن هذه الأرض مثل جميع أبناء القرية، ولم أفعل ما يلغي ذلك، فإلى أين أترك منزلي وأمضي؟». آثار القذائف والصواريخ تبدو قاسية ضمن القرية التي تعج بنازحي جبورين القريبة.
مرح ماشي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد