رائحة الحرب تنبعث من تراب الجولان المحتل (1)
رائحـــة حـــرب تنبعـــث من التـــراب... واستعـــدادات عسكريّـــة غيـــر مرئيّـــة
بين مستوطنة كريات شمونة والجولان السوري المحتل، طريق مفروشة بالالتفافات الخطيرة، يخفّف حدتها هواء بارد يلفح الوجوه، وإطلالتها على سهول خضراء ومواقع تستأهل نظرات خاطفة إلى طرفي الطريق المتعرجة.
لكنَّ هذا الجمال لا يكتمل، وغالباً ما تكون حقيقته أشدَّ من التأمل؛ فجمالها النادر لا يكفي لأن يكسر الجمود المشحون لتلك المنطقة الجبلية. ويبدو جلياً أن الحرب، سواء كانت مستقبلية أو ماضية، راسخة في ترابها، تظهر في مستوطنات لا تنتهي على جانبي الطريق ولافتات صفراء معلقة على أسلاك شوكية مهترئة كتب عليها «خطر... أمامك حقل ألغام».
لا يمكن مشاهدة الفرق العسكرية الإسرائيلية تستعد لحربٍ مرتقبة؛ فحسب ما تشير إليه الصحف الإسرائيلية، يشهد الجولان المحتل حركة عسكرية واسعة، لكن لا أحد من الصحافيين يستطيع دخول «مناطق الاستعدادت». لا أحد يعرف مكان المناورات أصلاً. هي مناطق عسكرية مغلقة، وبطبيعة الحال، لا يلمح الزائر العادي مناورات عسكرية وما شابه. قد يكون الاستعداد موجوداً، لكنه في عداد المجهول لا يلاحظ من مرورٍ عابر.
المنطقة، منذ عام 1967، محكومة لحرب اندلعت مرتين، وقد تأتي ثالثة ذات يوم، وكل ما يمكن قوله أن الجولان مساحة شاسعة تنتظر الحسم، لا يهم بأي طريقة.
من يحدق في سماء المرتفعات الخلابة، قد يلمح نقاطاً عسكرية تشوّه المدى الأزرق. نقاط وقواعد ليست حديثة، باتت جزءاً من المشهد «الجولاني». تكسر صفاء المتأمّل وتعيده بسرعة إلى حقيقة أن «كل هذا الفضاء محتل». فبحسب مؤسسة الدراسات والإعلام في الجولان، نصبت إسرائيل ما لا يقلّ عن 60 نقطة عسكرية على امتداد المنطقة المحتلة، بعضها يقع أيضاً على مقربة من البيوت السكنية.
الجولان السوري حال محتلة مألوفة في السجل الإسرائيلي. السياسة التي اتبعتها المؤسسة الإسرائيلية تاريخياً هي نفسها. أنقاض لقرى عربية لا تزال بعض حجارتها شاهدة. بنى عليها الإسرائيليون منذ احتلال الجولان المستوطنات اليهودية. حتى طريقة بناء المستوطنات مألوفة. أقل عدد من اليهود على أوسع مساحة، وهي عكس السياسة المتبعة مع العرب؛ أكثر عدد من العرب على أقلّ مساحة.
ويسكن في الجولان اليوم، بحسب المعطيات الرسمية الإسرائيلية، 14 ألف مستوطن، بينهم من سُجل فقط على الورق بهدف الحصول على تعويضات، يقطنون 33 مستوطنة، كلها بنيت على أنقاض قرى سورية، وتستولي على خيرات الجولان المائية ومسطحات البناء الشاسعة وإمكانات الزراعة، في مقابل إهمال مدقع للسوريين الذين يسكنون هناك.
في عام 1967، احتل الجيش الإسرائيلي مساحة 1250 كيلومتراً مربعاً، تضم 137 قرية سورية. واستعاد السوريون منها 50 كيلومتراً في عام 1973.
أثناء الاحتلال، شرّدت إسرائيل أهالي القرى وهدمتها. لم يبق منها سوى حجارة. لم يبق إلا ستة آلاف سوري يسكنون في ست قرى: مجدل شمس وبقعاتا وعين قنية ومسعدة والغجر وسحيتا. في نهاية عام 1971، حوّلت السلطات الإسرائيلية قرية سحيتا إلى مركز عسكري، وأجبرت أهلها على المغادرة إلى قرية مسعدة المجاورة.
عدد سكان الجولان اليوم يقارب 19 ألفاً، عشرة آلاف منهم يقطنون القرية المحتلة الأكبر، مجدل شمس.
- مجدل شمس قرية جميلة، وناسها طيبون. «شماليون» بطلّتهم. بالنسبة إلى الفلسطينيين في الداخل والضفة، هم رائحة من أرض الشام الكبرى. هم التواصل مع شيء يصعب التواصل معه عنوة. سياسياً، يعيش الجولانيون والفلسطينيون حالاً من الاحتلال. لكل حال أبعادها. هناك، على تلك المرتفعات الشامخة، يأخذ الاحتلال شكلاً آخر، مغايراً، وتفاصيل أخرى لا تلغي مأساويته.
الصيف في هذه القرية ينتهي قبل موعده، والصباح صافٍ. هدوء يكسره ضجيج بعض المركبات المتجولة.
لا تختلف مجدل شمس بمبناها عن القرى العربية الأخرى في فلسطين التاريخية؛ بناء ليس منتظماً، اكتظاظ سكاني وحال تجارية تتكل في كثير من الأحيان على القادمين من خارجها.
قد يلمح المار في شوارعها بعض التجمعات القليلة، إلى حين الوصول إلى مركزها. ساحة إسفلتية واسعة، يتوسطها نصب تذكاري لقائد الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، سلطان باشا الأطرش. تمثال يعيد الوطنيين العرب إلى أمجاد من الماضي، وعلامة انتصار لا تزال ذات صلة في زمن البحث عن انتصارات.
التمثال رمز اعتزاز للسكان. من حوله محال تجارية وتجمعات لقهوة صباحية. التمثال ثوري. يرفع فيه سلطان باشا الأطرش سيفه عالياً، ومن حوله مقاومون، يحفظون من ورائهم أطفالاً صغاراً، هم الجيل القادم من الجولانيين.
قضايا الجولان كثيرة، يتجلى جزء منها في مجدل شمس. الاحتلال هو نفسه في الضفة الغربية وفلسطين التاريخية. الأساليب السلطوية تسعى إلى الهدف نفسه. وإذا كان جدار الفصل يحد من سير الفلسطينيين في الضفة المحتلة، فإن حقول الألغام تحد السوري القاطن على الأرض المحتلة من التوسع. ولا يخلو الأمر من بيوت صارت ساحتها حقول ألغام، تعيش تهديداً جاثماً في كل لحظة.
«الألغام مزروعة تحت شباك البيت»، تقول ربة أحد البيوت المحاذية للشريط الشائك، مشيرة إلى تلك اللافتة الصفراء التي تنذر العابرين. إلى جانب السيدة وقفت طفلة صغيرة لا تفهم الحديث الدائر، إلا أنه بعد عام أو اثنين، سيكون حقل الألغام جزءاً من طفولتها.
هذه الحقول نهج إسرائيلي متبع. وإذا كانت النبتة حياة تنغرس في الأرض وتكبر وتثمر خيراً، فإنَّ الألغام دمار ينغرس هو أيضاً ويكبر وينبت دماً. هي سياسة إسرائيلية متّبعة في كل مكان وطئت فيه قدم جيش الاحتلال؛ في الجليل والجولان والجنوب اللبناني. هي سياسة لتعزيز الهيمنة ووسيلة لا يتركها الإسرائيليون. فقد زرعت إسرائيل ما يقارب 76 حقل ألغام في الجولان السوري المحتل. عندما يأتي الشتاء، تنجرف بعض تلك الأجسام القابلة للانفجار إلى مقربة من البيوت.
تشير المعطيات المأساوية إلى استشهاد أكثر من 20 شخصاً وجرح العشرات منذ حرب حزيران 1967. والحل لا يزال بعيداً بعد أربعين عاماً من الاحتلال.
- الناس في مجدل شمس كرماء، يحبون القادم من البعيد أن يشاركهم الحديث. الحرب المتوقعة أو غير المتوقعة لا تقع في صلب الموضوع في تلك التجمعات الصباحية على مقربة من سلطان باشا الأطرش، لكنها في الأفق دائماً. كيف لا تكون في الأفق، وتلك المنطقة هي لب الصراع، هي المتنازع عليها. هناك من يتوقع حرباً، وهناك من لا يتوقعها. لكن الرأيين يتفقان على أن الصورة ليست واضحة، ضبابية إلى أبعد الحدود، مثل كل شيء يميز هذه القضية، وخصوصاً في ظل التطورات الأخيرة.
سلمان فخر الدين، من سكان مجدل شمس، يعرف كل شيء عن الجولان. تراه يتجول في القرية والجولان كله، حافظاً كل شيءٍ عن ظهر قلب. لا يتلعثم برقم أو معطى. كل شيء في ذهنه. كتب الكثير عن الجولان وقضيته، وحين تفتح سيرة الحرب المرتقبة، يقول إنه «لا يتوقّع حرباً بين الطرفين (الإسرائيلي والسوري) ولا يراها في هذه الآونة تحديداً»، موضحاً أن «الطرفين ليسا معنيين بمثل هذه الحرب اليوم».
الحديث عن الحرب المرتقبة يستقطب شاباً آخر يقول إنَّ إسرائيل «لن تسكت على الهزيمة التي منيت بها في حرب لبنان وتريد تعويض خسارتها هنا مع سوريا»، مشيراً إلى أنَّ الناس في الجولان «بانتظار الحرب المقبلة، حرب لا محالة منها». وشدّد على أن «من يعتقد أن إسرائيل ستسلّم الجولان باتفاق سلام فقد أخطأ».
النقاش في الحرب لا يحتدم، لا يمكن النقاش في شيء مجهول. لكنه موضوع يستدعي التساؤل. وقد يبدو سؤال «هل تريد العودة إلى سوريا أم لا؟» سخيفًا في خضم هذه الحال الاحتلالية. قد يكون هناك نقاش في السؤال، تتداخل فيه سياسات هنا وهناك، لكن القضية بمجملها محسومة. «نحن سوريون، ونريد العودة إلى سوريا»، يقول صاحب محل تجاري لا يرغب بأن يفصح عن اسمه. وفي نهاية الحديث يقول مبتسماً: «سنرجع يوماً».
على مقربة من تمثال سلطان باشا الأطرش، يقف شيخ كهل من سكان قرية مجدل شمس. يعتمر حطة بيضاء على رأسه. تجاوز السبعين. كان يتحدّث عن الجولان مبتسماً، فهو «شاهد على العصر». عندما وصل في حديثه إلى حرب حزيران عام 1967، انهمرت من عينه دمعة لا إرادية. قال: «شعور صعب لا يمكن وصفه». لكنّ الدمعة فعلت.
أبو مجيد، مثل الكثيرين من أهالي الجولان، يشددون دائماً على العودة إلى الديار وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي: «نعيش في ظل احتلال، وحتماً سنعود. نحن سوريون نحب سوريا، هذا موضوع لا نقاش فيه».
وحين تفتح موضوعات سياسية عن صعوبة الحل وأن القضية تحتاج إلى الكثير من الصبر والمعاناة، يقول أبو مجيد: «إنها ليست مشكلة، فنحن أدمنا الصبر».
الحديث عن الماضي، في هذه الآونة تحديداً، يفتح جروحاً مزمنة. ما مرّ به الجولان من عمليات تهجير و«مسح للهوية»، ليس أمراً سهلاً. وحين تنهمر دمعة من شيخ كهل، ففي معناها غربة واستيلاء ووطن، وربما اشتياق لصديق أو شقيق تُرك وراء الحدود. دمعة تتجاوز كل الشعارات.
من السهل تشبيه حال الفلسطينيين على شقي الخط الأخضر، بحال سكان الجولان المحتل، من حيث الممارسات الإسرائيلية الممنهجة ما بعد الاحتلال. المناهج التعليمية لدى فلسطينيي 48 وفي الجولان السوري المحتل، تتجاهل التاريخين السوري والفلسطيني إلى حين يتحوّل الحفاظ على الذاكرة مهمة صعبة تصل حد الشقاء.
يقول أبو مجيد: «الذاكرة مهمة، ليس فقط لمجرد وجودها. على الأجيال أن تعرف ما حل هنا، عليهم أن يعرفوا ماضيهم، كي يسيروا إلى الأمام».
فراس الخطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد