تيبو كوفان: أترك التقنية..على باب المسرح
يجمع عازف الغيتار الفرنسي تيبو كوفان ذخيرة لا يستهان بها في مسيرة فنية، لا تزال قصيرة. يخطر اسم هذا العازف في جولته الموسيقية في الشرق الاوسط، وآخر محطاتها كانت سورية قادماً من لبنان.
من ينظر إلى سيرته، يستغرب من أين لهذا الشاب، الذي لم يتجاوز عمره الـ 24 سنة، بالوقت الكافي ليحوز 13 جائزة عالمية كبرى كعازف غيتار، وان يقيم اكثر من 500 حفلة في قارات العالم؟ كأنه يقضي وقته تحضيراً وتبارياً في المنافسات، ويعود بعد سنة لينال جائزة كبرى في مسابقة نال فيها سابقاً مركزاً ثانياً أو ثالثاً.
يحمل كوفان هذه الذخيرة من الأرقام المبهرة، ويضعها في رسم جمهور يحل ضيفاً عليه في الشرق الاوسط. ثلاث حفلات يقيمها في سورية، أولها كانت قبل يومين في المركز الثقافي الفرنسي، وتليها حفلتان في حلب واللاذقية. لكن بريق الأرقام يتوقف عندما تومض إضاءات الحفلة. جلس كوفمان منفرداً ليقابل جمهور دمشق. هو وغيتاره فقط. بابتسامة مرحة وحيوية، وبهندام بسيط من وحي لباس يومي لشاب معاصر، استهل عزفه بكلمات ودية عن زيارته لبلد جديد عليه، كأن يعبر عن امتنانه لساعات قضاها في أزقة دمشق القديمة.
اختار العازف الشاب ان يبدأ برنامج الحفلة بأداء سوناتاتين لدمينغو سكارلاتي من اجواء الباروك، تستوحي رقصاته ذات الايقاعات الممطوطة واللحن البسيط. وفي الفقرة التالية، اراد كسر هذه الحالة تماماً، فقدم ثلاث مقطوعات للجاز! وصاحب هذا الانتقال الحاد، تغير في تقنيات العزف وأسلوبه. في احدى هذه القطع (ليلة في تونس لجيلسبيه)، ركز كوفان على مصاحبة ايقاعية لتدعيم أجواء الجاز. مصاحبة تولتها يده اليمنى التي صارت تنقر على جسم الغيتار وحوافه لتوليد إيقاعات مختلفة. ولعل اللمسة الأكثر لفتاً للانتباه، كانت في تلك النغمة الصامتة التي انهى بها القطعة، ضارباً بأصابعه في الهواء وكأنه وتر «الصمت».
ومن أجواء الباروك مروراً بوقفة متألقة وبارعة في أجواء الجاز، انتقل كوفان الى المناخ الذي يشكل ولعه الشخصي: التأليف المعاصر، أو ما بعد الحداثوي كما يقول في حديثه الى «الحياة» : «النوع الموسيقي الأكثر جذباً لي هو ما يقدمه الملحنون الشباب الذين تأسسوا على الكلاسيكيات، ولكنهم يلحنون من الهام أزمنة مختلفة وأنواع موسيقية متنوعة، فهذه المؤلفات فيها الإبداع والأصالة كما انها مبتكرة».
ومن هؤلاء المؤلفين الذين يهواهم العازف الشاب، والده فيليب كوفان، وهو مؤلف وعازف غيتار، وقدم له في الحفلة تلك المقطوعة التي كان كتبها له بعنوان «روك تيبو كوفان». مقطوعة تضجّ بالحيوية، والإيقاعات السريعة، خلافاً لبقية المقطوعات التي قدمها، وأعطت كوفان الشاب مساحة واسعة لاستعراض مهاراته في العزف، وتقنياته المبتكرة.
وختم كوفان بالمقطوعة التي طالما رافقته في حفلاته («كيونبابا» أو «الراعي»)، لمؤلف أثير لديه هو كارلو دومنيكوني (نشأ في اسطنبول ويقيم في المانيا). تلك المقطوعة التي تتمتع بحسية عالية، وتحفل بدراما تصوغها حالات عزف متفاوتة، لعبها كوفان بملامح تقدّم معزوفة موازية لتلك المسموعة. كانت تعابير وجهه كأنها تعتصر اللحن، فتجاوب النغم، بين استرخائه واشتداده، ناقلة «توحّداً» لافتاً بين العازف وآلته. هذا الاندماج كان لصيقاً بكل المعزوفات التي قدمت، ولم يكن العازف يعطي بالاً أو انتباهاً للحضور حتى يتهافت صدى آخر نغم في القطعة التي يعزفها. كان كمن يسافر بعيداً الى عالم آخر، ويكون التصفيق محطة توقف. لا يعني ذلك ان الجمهور حفل بحرارة لما قدمه العازف. ثمة مقطوعات قليلة خلّفت تصفيقاً حاراً. ولم يطلق الجمهور ذلك التصفيق الذي يصر على المزيد، بعد آخر مقطوعة قدمها كوفان. ومع ان العازف عاد ليقدم مقطوعة أخيرة إضافية، إلا ان ذلك جاء وبعض الجمهور صار خارج القاعة. حالة محيرة، مع الانتباه الى تألق مسيرة هذا العازف، بالإضافة الى الاهتمام اللافت بالغيتار كواحدة من الآلات الواسعة الانتشار بين الشباب. ربما يأتي ذلك من خيارات كوفان، وتركيزه على تقديم مقطوعات «تستعرض» إمكاناته وآلالته. مقطوعات فيها جانب فني عالٍ، وتفرد لتقنيات غنية.
وعلى رغم ذلك، لا يرى كوفان ان مواظبته على المشاركة في المسابقات، جعلت عزفه مشدوداً للناحية التقنية أكثر من اللقاءات مع الجمهور التي تفترض تفاعلاً مختلفاً، ويقول موضحاً : «تركيزي على الناحية التقنية يكون مكثفاً ومطولاً لكن كل ذلك قبل الحفلة، إذ أنسى كل ما يتعلق بالتقنية وأترك المجال لإحساس اللحظة، داعياً الجمهور ليغادر معي العالم الواقعي».
مغادرة العالم الواقعي شرط ضروري يراه كوفان ليتحقق السفر الذي يريد لكل حفلة يقدمها ان تكونه. انه سفر «في الأزمنة وعبر القارات»، كما يقول، والى جواره غيتار تملأ غطاءه لصاقات مطارات كثيرة مر بها.
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد