تاريخ الصراع بين الإصلاحين والمحافظين في بلاد الشام
إذا أردنا العودة الى التاريخ الحديث للصراع بين «الإصلاحيين» وبين «المحافظين» في بلاد الشام لطالعتنا حادثة ذات دلالة تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية بالوقت نفسه، عنيت حادثة المجتهدين عام 1905، حيث اتفق عدد من علماء دمشق عام 1905، وهم الشيخ عبدالرزاق البيطار، والشيخ سليم سمارة، والشيخ بدر الدين المغربي، والشيخ توفيق أفندي الأيوبي، والشيخ أمين السفرجلاني، والشيخ سعيد الفرا، والشيخ مصطفى الحلاق، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ أحمد الحسني، وجميعهم ينتمون الى ما يعرف بطبقة علماء الدين في بلاد الشام في تلك الفترة. فقد قرر هؤلاء عقد حلقة مذاكرة للمدارسة والعلم، فانتهت بهم وشاية الى تقديمهم للمحاكمة، وعقد المفتي من أجلهم مجلساً خاصاً في المحكمة الشرعية لمحاكمتهم.
وقد كانت التهم الموجهة اليهم تتعلق:
- ذم ترك العمائم.
- تحريم الدخان.
- أن الخلافة صارت ملكاً عضوضاً.
- أن «الجماعة» عدّوا أنفسهم مجتهدين، وأنهم يجتمعون على قراءة الحديث، ويطلبون الدليل على أقوال الفقهاء.
وكما يلحظ القاسمي نفسه الذي أرخ للحادثة ببراعة، فإن أخطر هذه التهم هو ما قيل حول أن الخلافة صارت ملكاً عضوضاً.
يستعرض القاسمي بعضاً من جوانب التحقيقات التي تكشف لنا بعضاً من «الحساسيات الرسمية» خلف هذه المحاكمة التاريخية، غذ يروي على لسان المفتي قوله: «مالكم ولقراءة الحديث؟ يلزم قراءة الكتب الفقهية، والحجر على قراءة الكتب الحديثية والتفسيرية».
بيد أن القاضي لم يجد في التحقيقات ما يستوجب الإدانة، بل عن الوالي كان قد ظن أن في الجمع سراً سياسياً فلما تحقق من أن الجمع لا يعدوا سوى أن يكون تجمعاً علمياً فإنه أقر صرفهم قائلاً: «إن فكرهم من أحوال السياسة خال، ولا خطر لهم شيء من شأنها على بال».
تظهر هذه الحادثة الصراع الخفي والمبكر على السلطة الرمزية التي يتمتع بها علماء الدين في المجتمعات الإسلامية، لدرجة أن السلطة السياسية لم تجد حرجاً في التحقيق مع علماء بارزين يحظون باحترام لافت داخل هذه المجتمعات.
وفي الوقت نفسه تظهر هذه الحادثة أيضاً الجدال التاريخي حول معنى التجديد، وكيف أن السلطة السياسية ذاتها ترغب في التدخل في هذا المعنى لأنه يعنيها، وخصوصاً عندما يمس هذا الاجتهاد شرعية السلطة السياسية ذاتها، فالإصلاح الديني اذاً مرتبط وجودياً بإعادة الاعتبار لمفاهيم دينية – سياسية من مثل الشورى وطاعة الحاكم وشرعية الخروج على الحاكم الى غير ذلك...
لكن هذا الربط بين المشروعين الإصلاحيين الديني والسياسي أشبه بالعملية الترابطية، بل إن الكثير من المثقفين والمتابعين الغربيين أصبح لا يرى امكانيةً للإصلاح الديني من دون عملية اصلاح سياسي شامل، وعلى حد تعبير فيليب بورينغ فإن المحافظة السياسية هي السبب الأبرز في تعويق التطوير أكثر من الدين، فالإسلام في حاجة اليوم الى ثورة فكرية عمادها السياسة.
لكن ما يجري تناسيه أن الإصلاح السياسي أسهل من الإصلاح الديني، اذ هو يتناول ضرورات راهنة ويمتلك قنوات معروفة، أما الإصلاح الديني فإنه يعني رؤية مختلفة للعالم ويتطلب اعادة قراءة النص الديني، والتجربة التاريخية للمسلمين، ولذلك فقد يسبق الإصلاح السياسي ويساعد على ولادة الإصلاح الديني وقد تكون العملية العكسية صحيحة أيضاً، بمعنى أن إصلاح دور الدين في المجتمعات العربية ربما يساعد على تنظيم العملية السياسية وفق أسس سلمية وقانونية أفضل، لكن لن يحسم الإصلاح الديني والسياسي في شكل أكيد الإصلاح الديني، ذلك أن مساره صعب ومعقد ويحتاج الى أجيال متتابعة، واذا استخدمنا مصطلحات المؤرخ الفرنسي الشهير فرنارد بروديل لقلنا إن الإصلاح السياسي يدخل ضمن زمن التاريخ القصير، أما الإصلاح الديني فهو أقرب الى تاريخ الحقبات أو التاريخ الطويل، فهو عملية تربوية وثقافية متكاملة تنشأ الأجيال خلالها على مفاهيم جديدة وتبنى العلاقات بين الأفراد أيضاً وفقاً لأسس جديدة. فالدين لا يتدخل فقط في علاقة الفرد بربه وانما ينسج المنظور الذي يرى الفرد من خلاله ذاته وغيره وعالمه.
ومن هنا يأتي الرهان على أن انجاز الاصلاح الديني من شأنه أن يعيد تنضيد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وفق علاقة تبادلية تسهم بلا شك في اعلاء قيمة الانسان وشأنه، وهو الأمل الذي تطمح الى تحقيقه جميع الحضارات والثقافات وعلى رأسها الحضارة الإسلامية. وهذا لن يتم إلا بنمط من إعادة تأسيس السلطة الرمزية لعلماء الدين على أساس الاستقلالية عن السلطة السياسية، ذلك أن انهيار السلطة المعنوية الدينية مكّن السلطة الرسمية من السيطرة على التراث الديني واستخدامه لتبرير سياساتها، وطمأنتها على عدم امكانية نشوء سلطة معنوية أو اجتماعية موازية أو مقابلة تخفف من استبدادية حكمها، ولما فقد الإرث الديني سلطته ومكانته الرمزية فقد حول الى مادة أولية تحاول كل سلطة اعادة تركيبها بما ترغب وبما يثبت شرعية حكمها، ولذلك تحتاج السلطة الدينية الى اثبات صدقيتها عبر استقلالها السياسي وتأكيد شرعيتها من ذاتها لا من دلالة المنطق السياسي، وهذا يتطلب اعادة بناء التراث الفقهي على أسس ديموقراطية تتيح لسلطةٍ لم تكن يوماً روحية أو لاهوتية أن تحتفظ بإرثها الرمزي بصفتها سلطة معنوية وعلمية لا تجير لحساب الموقف السياسي المتغير بقدر ما تبنى بناءً على مصالح المجتمع الحقيقية.
رضوان زيادة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد