بين الحبوب والنار

أنهى الشاب جوان حياته بطلقة واحدة في رأسه وهو في فناء دارهم، كان يضحك ويمرح مع عائلته حتى ساعات الليل المتأخرة، ودون سابق إنذار وبدلاً أن يذهب لفراشه حفر قبره في تلك الليلة بيديه.
سبب انتحاره يأسه من واقعه الذي لا يتغير ومن الإحباط الذي كان يعيشه نتيجة سوء الحالة الاقتصادية، سبقه للانتحار بجرعة حبوب زائدة الشاب محمد بأسابيع، وقبله شخص آخر بشهر حيث علق مشنقته في سقيفة دارهم، وقبله أخرى بأشهر قليلة سيدة قتلت نفسها وهي في عقدها السادس و.. و.
قائمة المنتحرين في بلادنا تتزايد وتكاد تصل لأرقام خيالية خاصة خلال الأشهر القليلة الماضية، قد تختلف الأسباب وتختلف النهايات لكن النتيجة واحدة هو الموت انتحارا.
مما يطرح السؤال : لما كل هذا القتل الغريب للنفس الآدمية ؟ لماذا تزداد قائمة المتنافسين على هذا الموت الغريب خاصة في محافظة الحسكة بسورية، وكأنهم يتبارون من سيبدع في نهايته أكثر وأكثر ؟ هل انتحر جوان وأقرانه؟ أم تمَّ اغتيالهم في قارعة الطريق ، بطلَّقةٍ ، او بحَبلٍ مُعلق أو مجموعة حبوب؟

المسافة مابين الحبلِ والرقبة المُتَّدليةِ، وبين الزِنادِ والإصبع، بين علبة الحبوب وكاس يَدفعُ بالموت تٌختصر قصة الانتحار، في تلك المسافة والزمن المضغوط قصص ووجوه، ولكن الذي تم إبرازه هو شخص المُنتَّحِر وإبعادَ الآخرين عن فعل الجريمة في مسرح يعتبره البعض تراجيديا التاريخ وآخرون يعتبروها تَّهريج المُهرجين.
في لحظة الانتحار جمعٌ للمتناقضات وتساؤلات بلا حدود ، فهي الافتراق والالتقاء ، الجُبن و الشجاعة ، الحياة و نقيضها ، ومفارقات لا تنتهي، أغربها قصة الكاتب الأمريكي دايل كارينجي مؤلف كتاب ( دع القلق وابدأ الحياة ) الأشهر والأكثر مبيعاً وترجمة على الصعيد العالمي ، لم يَنجحُ من عَلَّمَ مئات الملايين من البشر فن الحياة أن يُبعدَ قلقه الشخصي وانتهى مُنتحراً بعد أن مارس فن الموت الاختياري ، ينافسه في المفارقة ارنست همنغواي كاتب رواية ( الشيخ والبحر) التي تُمثل ملحمة التحدي الإنساني ولكنه سقط أمام تحدي الحياة وانتهى منتحرا.

لو كان دافع الانتحار اقتصادياً كما فعل محمد في مدينة القامشلي حينما انتحر قبل ما يقارب الشهر من الآن لان والده لم يشتر له دراجة بخارية ، فكيف نفسر انتحار كريستينيا اوناسيس ابنة الملياردير اليوناني ووريثته الوحيدة، أو انتحار المطربة داليدا ومارلين مونرو والرسام فان كوخ والشاعر اللبناني خليل حاوي و أميمة عبد الوهاب التي انتحرت حينما سمعت بوفاة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ، قائمة المنتحرين مفتوحة وفي تزايد لذا فان منظمة الصحة العالمية جعلت من يوم 10 سبتمبر يوما عالميا لمكافحة الانتحار ، الأرقام مخيفة 3000 حالة انتحار في اليوم ومقابل كل حالة انتحار هناك 20 محاولة للانتحار.

ماهي دوافع الانتحار ؟ البعض منها متعلقة بالإنسان ذاته فحوالي 35% من الحالات ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب و الانفصام والإدمان، و65% يرجع إلى عوامل متعددة مثل التربية وثقافة المجتمع والمشاكل الأسرية أو العاطفية والفشل الدراسي والآلام والأمراض الجسمية أو تجنب العار أو الإيمان بفكرة أو مبدأ كالقيام بالعمليات الانتحارية .
غرابة الأرقام جزء من غرابة هذا العالم ، فهناك التفاصيل والآليات ، فمثلا عدد المنتحرين ثلاثة أضعاف القتلة ومحاولات الانتحار عند الذكور أكثر بين الإناث والانتحار الفعلي أكثر بين الذكور وأكثر وسائل الانتحار استخداما عند الإناث الأدوية والحرق والحبوب وعند الذكور الأسلحة النارية والشنق، وتقل نسبة الانتحار بين المتزوجين ومن لهم أطفال، وأعلى نسبة انتحار في العالم توجد في الصين والهند، كما ان خُمس المنتحرين يتركون رسائل وعلامات تشير إلى انتحارهم، والكثير منهم يُلَّمح أو يُعلِنَ عن انتحاره قبل فترة ، ويظهر إن للجو دوره ففي فصلي الخريف والربيع يزداد إقدام الشباب على الانتحار وهذا ما نلاحظه في مملكة السويد التي تسجل معدلات عالية من الانتحار ويفسرونه بالجو حيث الظلام والبرد الذي يلف السويد .

للانتحار أشكال واليات متعددة ، فهناك الانتحار الثنائي أي الرغبة في الموت مع شخص آخر حيث يقدم الشخصان معا على الانتحار وخاصة المحبوبين والدافع الأساسي للانتحار الثنائي هو الحب وهناك الانتحار الموازن و هدفه الأساسي إراحة الذات من مرض ما لا شفاء يرجى معه, ومثل هذا النوع من الانتحار يتقبله المجتمع إلى حد ما ، أما الانتحار الإيثاري فهو إقدام المنتحر على قتل زوجته وأطفاله أو عدد من زملاءه في المدرسة أو المعسكر أو الوظيفة ثم يقدم على الانتحار وهناك الانتحار اللاهوتي حيث تنتحر مجموعات كاملة مع الزعيم الروحي كما حدث قبل سنوات في أميركا والانتحار الطبيعي كما نشهده في انتحار الحيتان الجماعي

تتعدد تفسيرات الانتحار فيعتبره فرويد عدواناً تجاه الداخل و المدرسة المعرفية تفسره بأنه رؤيا النفق أو التفكير الغير المرن بمواجهة حياة مريعة وآخرون يعتقدون بان الانتحار هو تعبير عن البكاء الرمزي أو للفت الانتباه ، أما عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم فقد فسره بتكسر الروابط الاجتماعية والانعزال أما إريك فروم فأرجعه إلى الصراع بين الداخل والخارج في حين يعتبره علم النفس والطب النفسي عدواناً مُوجهاً نحو ألذات ، لأن الشخص لا يستطيع لسبب ما أن يوجه عدوانيته باتجاه المجتمع أو باتجاه شخص آخر و يدلي علماء الهندسة الوراثية بدلوهم فيفسرونه بنقص السيروتونينفي في الجسم .

اغلب علماء النفس يركزون على الأبعاد الثلاثة للانتحار (1- الرغبة في القتل 2- الرغبة في الموت 3- الرغبة في أن يتم قتله) ولكنهم لم يشيروا إلى الانتحار الداخلي ( الانتحار البطيء ) حيث يفقد الإنسان الإحساس بالفرح والحزن وتموت فيه الأحلام ويجعل من القلب جهازاً للضخ ، في هذا النوع لا يمكن فيه الإحصاء فهناك الملايين الذين قرروا أن ينتحروا وهم واقفين وجعلوا من الحياة مهنة أو لعبة أشبه بلعبة الكريات الزجاجية.
أما البُعد الرابع للانتحار والذي لم يشر إليه علماء النفس والمجتمع فهي رسالة الفرد وخاتمة صفحاته التي لا تختتم لأنها موجهة بأسلوب خارج المنطق لتبقى في الذاكرة الفردية والجمعية، البعد الرابع هو الصوت بعد قمعه والحلم بعد اغتياله والرغبة المعلبة في تابوات المجتمع واللاهوت.

هل فقدت الإحساس بالحياة وأصبحت في مدى اللامرئي لسلطة الانتحار الداخلي ؟ صاحب كتاب دع القلق وأبدا الحياة انتحر والديانات حرمت الانتحار ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ، قد تموت الأحلام بحراب الحياة و الزرع بفعل الجفاف وتصبح الخزينة خاوية بتجارة خاسرة، قد تتخلى عنك الحبيبة أو يرحل الحبيب، قد تفقد الأمل بتغيير هذا العالم ... قد تشعر بان الجميع مسئولون عن قرارك، ولكن قبل أن تقدم تذكر انك جزء من هذا الجميع وإن الحياة تستحق أن نعيشها بكل تفاصيلها مهما قست علينا الأيام والظروف ومهما كانت حياتنا استثنائية بمرارتها ، فهل فكرت بان إنسانا آخرا قد يسبقك بإنهاء حياته ويعتبرك ضمن هذا الجمع... انطلق بحملة قوية حاملا ذاتك وعبقك الإنساني صوبه قبل أن ينتحر وقل له إن الانتحار هو الجحيم وإنها الخطيئة الكبرى والجبن بعينه إن هربنا من الحياة نحو العدم، فلا مستحيل في الحياة، وثق تماما أن قرارك سيكون مؤثرا وستنقذ حياة الكثيرين الذين يعدّون أنفسهم ليكونوا مشروع انتحار قادم .

لافا خالد

المصدر: الجزيرة توك