القتل بضمير مرتاح
في «إنساني، كثير الإنسانية» لاحظ فريدريش نيتشه بقلق شديد: «أن من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش». لماذا العدو؟ ما الدور الاجتماعي والسياسي الذي يؤديه في المجتمعات المعاصرة؟ هل يجب على الهوية أن تُبنى ضد «الآخر»؟ يقدم الباحث والأكاديمي الفرنسي بيار كونيسا في «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح» (ترجمة: نبيل عجان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، الطبعة الأولى، 2015) تحليلاً وافياً حول بناء العدو وطرائق تفكيكه، متناولاً أبرز النظريات التي حاولت الإجابة عن سؤال إشكالي: «هل وجود العدو ضرورة؟».
درس كونيسا نظريات علماء السياسة والاجتماع، والحقوقيين، والاستراتيجيين لأجل تحديد المنهجيات التقليدية المؤسسة لـ «صنع العدو». يُعَد «اللفياثان» الذي وضعه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز من الكتب المؤثرة في نظريات فلسفة الدولة، والأهم فيه اجتراحه مقولة «حرب الجميع ضد الجميع»، إذ يرفض النظرية الأرسطية التي تقول إن الإنسان كائن سياسي؛ فالإنسان قد يكون اجتماعياً قسراً، وليس بطبعه. والحال يبدو أن صنع العدو بنيوياً. يشكّل كتاب هوبز الأساس النظري الذي يجعل من الحرب النظام الطبيعي للمجتمع البشري، وقد انتقده كثيرون بينهم جان جاك روسو في مؤلفه «حالة حرب»؛ فالناس ـ عنده - «لا يكونون أعداء إلاّ في الوضع الظرفي للحروب بين الدول التي يشاركون فيه جنوداً وليس في الحالة البدائية». تطرّق المؤلف إلى خلاصات الفكر العسكري بينهم: جاك أنطوان هيبوليت دو غيبير، وكلاوزفيتز، وأنطوان هنري جوميني.
يعتبر غاستون بوتول مؤسس «علم الحرب» من أهم المفكرين الذين عملوا على تجاوز الأسباب السياسية المباشرة الخاصة بكل نزاع، فقدّم مقاربة متعدّدة المجالات للظاهرة في كتابه «بحث في علم الحرب»، ملاحظاً أن ما يحشد ويعبئ للنزاع ليس الدول أو الأفراد بل القناعات والمعتقدات. ظهر العدو في الفكر الماركسي لدى إنغلز ولينين بوصفه «عدواً برجوازياً» أي «عدو الطبقة». وعلى المقلب الآخر اكتفى مفكرو الاستراتيجيا العسكرية باستعادة العبارة الشهيرة للجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كلاوزفيتز: «الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى»، فلم يهتموا بالملامح البنيوية والاستراتيجية للعدو، على ما يخلص المؤلف.
شكلت المدرسة الألمانية ـ الأميركية التي أسس لها كارل شميت وليو شتراوس منطلق نظريتين: تحديد العدو بالنسبة إلى السياسي؛ وإحياء مقولات الحق الطبيعي والحرب العادلة. أفاد المحافظون الجدد من نظريات شترواس وجعلوا منها مبرراً سياسياً وأخلاقياً لمفهوم «الحرب الاستباقية»، ما قادهم إلى وضع كتابهم «مشروع لقرن أميركي جديد» (1997) الذي تبنى «المبدأ المزدوج القائل بأن ما هو صالح لأميركا فهو صالح للعالم أيضاً، وعليه يجب منع ظهور الخصم المتعادل».
لا ترتبط مناهج «بناء العدو» بالأطر السياسية والعسكرية فحسب، ثمة عدو ماثل على مستوى صراع الهويات والأيديولوجيات والأديان. تكتسب العداوة كـ «هوية آخرية» حيزاً مهماً لدى المنظرين في علم الاجتماع والثقافة والأنثروبولوجيا، فيتمّ تبرير «العنف المقدّس» ضد الآخر حفاظاً على وحدة الجماعة أو الهوية القومية. العدوّ يتمّ بناؤه للحدّ من مخاوف الجماعة/ الأمة، فيغدو «ذاتاً شيطانية» على مذبح التضحيات بالحروب والاقتتال. وعلى غرار «محدّدي الهوية» حدّد الاستراتيجيون (مراكز التفكير الاستراتيجي، أجهزة الاستخبارات، الاستراتيجيون غير الرسميين) أعداءهم. وتعد مراكز الدراسات الاستراتيجية والدولية ـ لا سيما في الولايات المتحدة ـ من بين أهم المؤسسات في سوق الأفكار، ونشطت إبان الحرب الباردة تاركة تأثيراً في توجّهات السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنظومة الشيوعية. لم يكبح انهيار الاتحاد السوفياتي جماح المزاج السياسي الأميركي في ضرورة ابتكار العدو، فتولد عن ذلك أعداء جدد وضعوا تحت عناوين «صراع الحضارات»، «الخطر الإسلامي الأخضر»، الأنظمة التسلطية» و «الخطر الأصفر».
يحلِّل صاحب «آليات الفوضى» أنماط العدو مصنفاً إياها ضمن ستة أنواع: «العدو القريب: نزاعات الحدود»، «العدو الحميم: الحروب الأهلية»، «العدو الخفي: نظرية المؤامرة»، «العدو المطلق: الحرب الكونية على الشر»، «العدو المتصوَّر»، و «العدو الإعلامي». يناقش «فكرة الوحدة الإثنية» المتولدة من النزاعات الحدودية؛ الحالة الأكثر تقليدية وانتشاراً في نمط «العدو القريب». ويرى أن الحرب الأهلية تمثل «تطهيراً فصامياً» عبر توكيدها هوية إقصائية لجزء من الجسم الاجتماعي ضد أي جزء آخر، والهدف هو إقصاؤه جغرافياً أو جسدياً». وفي ملاحظة دالة، يلفت إلى أن العلامات الهوياتية الفارقة في الحروب الأهلية هي: العائلات والمثقفون والمؤسسات الدينية أكثر من الجيوش والاستراتيجيين.
لم تكن السلطات الدينية بمنأى عن تفتيت المجتمع من خلال دورها كمحدّدات للهوية. ففي إسبانيا ـ كما يوضح المؤلف ـ شرعنت الرسالة الرعوية لأسقف سالامانكا في 30 أيلول 1936 مصطلح «الحملة الصليبية» الذي استعمله فرانكو، ثم أضافت السلطات الكنسية الكاثوليكية طبقة في رسالتها الموجّهة إلى العالم الكاثوليكي، متهمة الجمهوريين بـ «المساس بحق الله». طبعاً ليست الحالة الإسبانية حالة متفردة، ففي الحروب الأهلية/ الحميمة، شرقاً وغرباً، يلعب الديني دوراً خطراً باستحضار المقدس/ الإلهي في الصراع الداخلي الدامي؛ وللتاريخ شواهد كثيرة. وعلى وقع «عبادة العنف الأهلي» ترتكب المجازر ومذابح التطهير العرقي وعمليات الاغتصاب وقتل الأطفال والتدمير الممنهج تجاه العدو الحميم: «الأنا الآخر المقتول».
يكشف تاريخنا الحديث والمعاصر عن تراكمات هائلة من التهميش السياسي والقمع والاستئصال. وقد عرفت البشرية أبشع أنواع الحروب المستترة تحت جلباب الهويات المتنازعة، لا سيما في الدول المتعدّدة دينياً وعرقياً وإثنياً. يراهن المهزومون والمنتصرون في آن على العدو الخفي، بحيث تدشن نظرية المؤامرة لخطاب الفشل السياسي، وتبقى أحد مفاتيح تفسير العالم وصناعة العدو الذي يتجسد في الآخر المحلي أو العالمي، مستمدة نجاعتها من هذيان «الراديكاليات الدينية الحالية التي تُعيد كتابة التاريخ كمؤامرة كُشفت أخيراً».
في العدو المطلق أو الحرب الكونية على الشر، وإثر موت الأيديولوجيات الشمولية العلمانية مع نهاية الشيوعية، تأخذ الحرب شكل النزاع الديني. ومن خلال التأسيس لـ «لاهوت العنف» ازدهرت الأيديولوجيات الدينية الخلاصية، «فأصبح الدين في عدد كبير من الأمكنة في العالم مبدأ استبدالياً للسياسة». وتموضعت الأصوليات الدينية المتطرفة (الإسلامية والمسيحية واليهودية) مع نهاية الحرب الباردة، واتخذت مساراً تصاعدياً فدخل العالم في جحيم الثنائيات: الإسلام والغرب، الإسلاموية العالمية الثورية والإنجيلية الجديدة، الخير والشر، الراديكالية اليهودية والراديكالية الإسلاموية.
أضفى تقديس القومية الأميركية في طابعه التبشيري قوة على «العدو المتصوّر»، خصوصاً في فترة رئاسة جورج بوش الإبن. كرّست الكتب التي وضعها صموئيل هنتنغتون وفرنسيس فوكوياما وجوزيف ناي جونيور وبول كينيدي وزبيغنيو بريجنسكي وتوماس بارنيت، «الرؤية النزاعية للعالم» ـ كما يجترح المؤلف. هذا المنحى التبشيري الخلاصي في السياسة الخارجية الأميركية انصبّ على أعداء غير مرئيين: الإرهاب، كما أنه اتجه إلى منع بروز أي منافس له: روسيا والصين. يخلص كونيسا إلى أن العدو الإعلامي يشكل الحالة الأحدث في الفراغ الأيديولوجي والاستراتيجي لما بعد الحرب الباردة، والتي يجتاحها الإعلام؛ إذ تتفوّق الصورة على النص. ولا يتحدّد هذا التهديد غير الاستراتيجي عبر المؤسسات الاستراتيجية، بل يتحدد بصورة أساس عبر مثقفين إعلاميين أو «مثقفو الإعلام» الذين يأخذون أدوارهم في الأزمات.
هل من سبيل لتفكيك العدو؟ يضعنا صاحب «دليل الجنة» أمام مجموعة من الطرائق: الاعتراف بالمسؤولية، التكفير عن الذنب، المصالحة، الاعتذارات، الخروج من الخلافات الحدودية، الخروج من الحروب الأهلية: النسيان، الصفح، والعدالة الوطنية والدولية.
يطرح الكتاب تساؤلات تتخذ مساراً متناقضاً: هل بإمكان الدول والجماعات العيش من دون عدو؟ إلى أي مدى تؤدي سياسات الصفح والعدالة الدولية إلى إرساء عالمٍ أكثر أمناً؟ هل العنف الذي نعاصره آيل إلى التضخم في موازاة انتشار الفقر والفروقات الطبقية وتنامي الإرهاب وانتشار العنصرية؟ ترجح التحليلات الأكثر إيجابية دخول العالم في حقبة من الفوضى والمخاطر والاضطرابات، افتتحها القرن الــــحالي بالحرب على الإرهـــاب واختفاء بعض الدول في الشرق الأوسط وتحديات الأمن والاستقرار الدوليين.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد