الغرب بين الأبلسة والإبداع

24-02-2012

الغرب بين الأبلسة والإبداع

عندما شنّ نابوليون بونابرت حملته على مصر عام 1798، بهدف تطويق السلطنة العثمانية وتحويل البحر المتوسط إلى بحر فرنسي، تباينت ردود الأفعال المصرية على هذا الغزو. فمنهم من كان يطمح إلى السلطة ويراهن على أن نابوليون سيُخرج «الزير من البير» (كالشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ حسن البكري الذي عشق نابوليون ابنته)، ومنهم من كان ذا حسّ نقدي كالمؤرّخ عبد الرحمن الجبرتي الذي أعجب بالتقنيات الفرنسية ولكنه شجب السلوك الأخلاقي للفرنسيين والفرنسيات الذين حوّلوا حديقة الأزبكية «للمجون والخلاعة، وتلك هي طبيعة الفرنسيين»، ومنهم من رأى أن الفرنسيين ـ رغم احتلالهم العسكري المرفوض أصلاً ـ يحملون حضارة وعلوماً قد يفيد منها المصريون، ودعوا إلى أخذ المعرفة، ولو من غير المسلمين (الشيخ حسن العطّار، ومن ثم تلميذه رفاعة الطهطاوي).
ذكرت هذه الواقعة لأقول إن التمييز ضروري بين الغرب الغازي القادم إلى الشرق لنهب ثرواته وفرض هيمنته العسكرية والاقتصادية والسياسية، والغرب المتقدّم علمياً وفكرياً وفنياً، فأفصل بين نابوليون الغازي ونابوليون الذي استقدم معه مجموعة مهمة من العلماء المهمين كشامبوليون، الذين تركوا لنا موسوعة نفيسة عنوانها «وصف مصر»، والذي أيضاً أتى بأول مطبعة إلى مصر صارت نواة لمطبعة بولاق. القائد العسكري استنكر وجوده في ديار العرب، ولكنني لا أستطيع أن أضع العسكر والعلماء في سلة واحدة. ولا أستطيع أن أتبنّى، بالمقابل، ما قاله حسن حنفي في خاتمة كتابه «الاستغراب»: «يمكنني أن آخذ كل فلاسفة الغرب وأضمّهم في طابور عرض وأكون أنا قائدهم، أوجههم وأحرّكهم، وأستعرضهم في حركات وتشكيلات وتحيات كيفما أشاء، وطبقاً لإستراتيجيتي وخططي وأهدافي» (ص 787). الثقافة (الفلسفة في نصّه) ليست عرضاً عسكرياً لإبراز العضلات المفتولة التي تتطلع إلى السحق والمحق، والعنتريات، وما أكثرها في عالمنا، ليست دليل صحّة بل مرض: مرض من ينظر إلى الآخر إما قامعاً أو مقموعاً، إما جالداً أو مجلوداً، إما قاتلاً أو مقتولاً. الثقافة ليست حقداً على الآخر (الغرب هنا) وتربّصاً وإيقاعاً به. وما هذا الآخر بالضرورة هو الخصم والغريم والعدو الذي يجب عليّ أن أردّ له الصاع صاعين.
يقول الكثيرون إن الثقافة هي وطنية في المقام الأول. وكثيراً ما تأخذ كلمة «وطنية» معنى شوفينياً يستبعد الآخر وينبذه. الثقافة الحقيقية في نظري، أبعد من الحدود الجغرافية المصطنعة أصلاً التي رُسمت بمسطرة سايكس بيكو أو لورانس العرب؛ هي بالأحرى تجاوز للحدود وجوازات السفر، هي انفتاح على الآخر، رغم كل الحروب التي شُنت عبر التاريخ قديمه وحديثه، ورغم صولات الاستعمار القديم والحديث وجولاته.
في ديار العرب والمسلمين الآن تيار ينظر إلى الغرب كأنه مقطرة الكفر والزندقة والإباحية والفجور، وبما أن العالم العربي والإسلامي مقدّس، فإن الغرب مدنّس، وما «علينا» إلا أن نرى العري وبيوت البغاء على شواطئ المتوسط، ووصل بعضها «إلينا» عن طريق السياحة! ويشطح خيال بعض كبارنا كالشيخ رشيد رضا عندما يتكلم عن نساء الغرب «الكاسيات العاريات» اللواتي انتقل شرّهن وعشش في أبدان نساء الشرق المتغربنات. فالغرب، بهذا المعنى، فساد وإفساد، ولا ينجو منهما إلا من عاد إلى «الأصالة» وإلى أحضان السلف الصالح. وكل «دخيل» بالتالي مناقض «للأصيل» وصافي الدم والعرق.
الغرب لا يختزل كله في هذه النظرة السطحية إلى العلاقة بين الجنسين. وهذا ما عبّر عنه طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» عندما رأى أن الثقافة المصرية هي في المحصلة ثقافة متوسطية أخذت من الغرب وأخذ الغرب منها. صحيح أنها عربية، ولكنها ليست مرتبطة حكماً بالربع الخالي أو الحجاز.

ثورات فكرية

هناك ثورات فكرية أطلقها الغرب وتركت بصماتها على العالم أجمع، ومنها الثورة الألسنية التي درست اللغات من منظور علمي جديد، ومنها أيضاً الثورة الفرويدية أو العلمنفسية التي فتحت آفاقاً واسعة لفهم الإنسان ونزعاته وإحباطاته، ومنها بخاصة الثورة السيبرنتية التي غيّرت حياة ملايين عديدة من البشر في مجال المعلوماتية والاتصال. ويجب التنويه بالخلفية العلمية والفكرية والتنظيمية والمنطقية التي اختمرت فيها هذه الثورات قبل أن تخرج إلى العلن. الغرب ليس فقط كازينو «الطاحونة الحمراء» و«الليدو»، هو أيضاً الموسيقى والفن التشكيلي والسينما والمسرح والأدب والتكنولوجيا والتصنيع... الواسطي في العصر العباسي فنّان مهم ومبدع، ولكن قامته لا تلغي قامة بيكاسو وسلفادور دالي وماتيس وغوستاف كليمت... عندما أشاهد طابوراً طويلاً مصطفاً بالدور ليقطع تذكرة دخول إلى السينما لمشاهدة فيلم جديد في إحدى صالات باريس، وأقارن ذلك ببؤس السينما عندنا في هذا الزمن الرثّ، أقول لنفسي «ما أبعد الثرى عن الثريا»! عندما أقرأ لحسن حنفي أو لعبد الرحمن بدوي أو لصادق جلال العظم ،على اهميتهم وحداثويتهم، وأقارنهم بالتوسير وديريدا وغرامشي وهايدغر وهابرماس وبول ريكور، أجد أن الغرب الفلسفي متقدّم علينا بأشواط. وعندما أتوقف في النقد الأدبي عند كبار النقاد العرب، أرى أنهم أخذوا عن الجاحظ وابن قتيبة ولكنهم أخذوا بخاصة عن امبيرتو ايكو وميخائيل باختين وهان روبرت ياوس ورومان ياكوبسون ومدرسة فرانكفورت وجورج لوكاتش ولوسيان غولدمان... عندما أطرب لصوت أسمهان وعبد الوهاب الشاب وأم كلثوم وفيروز، لا أنسى أفضال موزارت وبيتهوفن وشوبان وفاغنر وسترافنسكي وألبنيز ورافيل... على الموسيقى العالمية.
هناك كتب صنعت حضارة القرن العشرين، ظهر معظمها في أوروبا والغرب، إن لم أقرأها وأستوعبها أكون متخلفاً عن ركب المدنية والثقافة. وطبعاً هذه الكتب لا تقزّم بالضرورة طه حسين وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني والطيّب صالح والياس خوري... ولكنني لا أستطيع أن أنظر إلى هؤلاء الكتّاب الكبار إلا من خلال رؤية شمولية تضعهم في إطار الثقافة العربية والغربية متحدتين وليستا منفصلتين.
صحيح أن الغرب الصناعي طوّر الأنانية والفردية، ولكنّ هاتين الثغرتين لا تلغيان الجوانب الإيجابية الكثيرة التي أطلقها الغرب في شتّى المجالات. صحيح أن الإنسان في الغرب يشعر أحياناً بالغربة والعزلة، في مجتمع استهلاكي طاحن، ولكن ألم نصبح نحن أيضاً في الشرق أناساً مستهلكين بامتياز؟ أنستطيع التخلي بسهولة عن الآلات الحديثة التي استوردناها من الغرب أو من الصين واليابان وكوريا؟
لكي نستطيع أن نتفوّق على الغرب يجب علينا أن نكون أكثر تنظيماً ومنطقاً وانضباطاً منه. يكفي أن نقارن حسّ المواطنة عندنا وعندهم، والعمق العلمي عندنا وعندهم، ومستوى مدارسنا وجامعاتنا مقابل مدارسهم وجامعاتهم ونزاهة قضائهم وقضائنا . ألا يحلم شبابنا بالسفر إلى الغرب ليحصلوا على أعلى شهاداته ويعودوا إلى ديارنا ليفخروا فيها، إنْ عادوا؟
إن أردنا الموضوعية، ما علينا إلا أن نقارن عدد مكتبات البيع أو المكتبات العمومية، وعدد المتاحف وصالات السينما والمسرح والأوبرا، عندنا وعندهم. ما علينا إلا أن نقارن عدد الكتب التي يقرأها العربي سنوياً بعدد الكتب التي يقرأها الغربي. وبعد ذلك يتنطع كثيرون بيننا بأبلسة الغرب ونبذه جملة وتفصيلاً واتهامه بالإباحية والفجور والكفر والمروق، ناسين أو متناسين أن مجتمعاتنا الطاهرة بعيدة كل البعد عن أخلاق الغربيين المنحطة وقيمهم الفاسدة وبؤس المصير!
بعيداً عن بني جلدي المبهورين بالغرب بعجره وبجره الذين ينصاعون لللموضات والتقتيعات الغربية على علاتهاً، وفي جو تأخذ فيه الهوية العربية هذا المنحى الإقصائي، أفضل التكلم حينئذ عن المواطن العالمي المنفتح على ثقافات كل الشعوب، والمتطلع إلى مستقبل العالم (ومستقبل العرب) لا من خلال الإلغاء والإقصاء، بل من خلال الاستفادة من القطوف والاستنارة بنباريس العالم.


جمال شحيد- (باحث سوري في المعهد الفرنسي للشرق الأدني)

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...