الطريق إلى مكة
أول ذكر لمكة المكرمة في التاريخ كان في القرن الثامن عشر قبل الميلاد حين وصل إليها نبي الله إبراهيم قادماً من فلسطين
وترك بها امرأته هاجر ووحيده إسماعيل, وهناك قال إبراهيم في ضراعة: ربنا إنني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
ومع أن مواجع الحج كثيرة, ولدي قضايا كثيرة حول الحج أود الكتابة فيها وليس أقلها هذا (الفلتان) الذي نشاهده كل يوم على مستوى تأشيرات الحج وهذه (الدويخة) التي صارت من لوازم الحج هذه الأيام بين الداخلية والأوقاف والسفارة والقنصلية والصحة وشركات الطيران ويخلق ما لا تعلمون!! خاصة أن نحو خمسة آلاف جواز حج عاد أصحابها بالخيبة وتولوا وأعينهم تفيض من الدمع, وأحصروا عن البيت الحرام بعد رحلة عناء وتوسل يقتل الأشواق ويخمد الأذواق, وهي مواجع تفسد وللأسف ذلك الصفاء الذي ينشده كل من يكتب في الحج الأعظم خاصة في هذه الأيام التي تشتد فيها الأشواق والأذواق مع وداع محفل الحج الضارع بالتلبية إلى الأرض المقدسة التي حج إليها إبراهيم عليه سلام الله.
وبالمناسبة فإن علينا أن نناقش الأسطورة القائلة بأن إبراهيم ترك زوجته وولديه في أرض الحجاز تلبية لرغبة سارة التي غارت من ضرتها هاجر, ووفق الأساطير التي نرويها فإن إبراهيم أقدم على (لحش) امرأته وولده الوحيد إسماعيل في الصحراء بعد أن هددته سارة بفراقه إن هو لم يقم بذلك, وهكذا فقد قام بكل قسوة بمخادعة هاجر وإسماعيل والرحيل بهما نحو ألف وخمسمائة كيلومتر!! ثم تركهما في تلك الصحراء الحارقة بلا ماء ولا غذاء, وهو عمل لا يصدر من (البلطجية) فكيف يصدر من خليل الرحمن؟
ولا شك أن هذه الأسطورة بهذا الشكل هي من أثر الإسرائيليات في كتب التفسير وهي تتناسب مع التشفي الذي يريده اليهود عقاباً على إقدام إبراهيم على الاقتران بامرأة من غير الشعب المختار!!, بله اتهامه بالزنا بها, وهي جريمة لا يمكن أن يتطهر منها إلا بهذه القسوة!!
ومع أننا لا نعلم على وجه اليقين كيف قرر إبراهيم أن يزرع نسله في أرض مكة ولم تركهم فيها فرادى ولكن بحسبنا أن نقرأ في القرآن الكريم أن ذلك كان إرادة إلهية حكيمة أراد فيها أن يبدأ مشوار الرسالة الخاتمة وأن يشرق بالنور في جزيرة العرب, وقد عبر إبراهيم عن هذا بقوله: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة.
ومع أنني لا أطيل في العادة في تأويل رواية التاريخ, ولكن الحدث هنا موصول بالحاضر ورواية ترك إبراهيم لامرأته وولده تعتبر أصلاً في التراث اليهودي لبيان منزلة الشعب المختار وعاقبة من يسوي بين المرأة من بني إسرائيل والمرأة من الغوييم!! فقد كانت سارة إسرائيلية صريحة وكانت هاجر من الغوييم (الأمم الأخرى) وبالطبع ليس لدى التوراة مانع من تعدد الزوجات ولكن بشرط أن لاتهان نساء بني إسرائيل فتجمع بينها وبين امرأة من الغوييم في بيت واحد!! فاقتراف مثل هذه الجريمة يتطلب تطهيراً صارماً على نحو الأسطورة التي ترويها لنا جداتنا وأمهاتنا عن هاجر من دون أن ننتبه إلى شيء من ذلك.
قد يبدو ذلك فذلكة في التاريخ وربما تحميل الأمر ما لا يحتمل, وربما رأى فيه البعض مناقشة لأسطورة من الوهم بحجج من الواقع, ولكن كاتب هذه السطور بعتقد بأن الخرافة وذيولها لا تزال حتى اليوم تحكم قدراً غير قليل من ثقافة الأمريكي التائه, وفي قفا دماغه برحة واسعة للأسطورة هي وحدها التي تفسر لك إقدام بوش على ارتكاب حروبه الحمقاء وفق ما عبر عنه مراراً بأن الرب يأتيه إلى البيت الأبيض ويأمره بإعلان هذه الحروب.
قبل سنوات كنت مع الصديق العزيز اسماعيل ياسين في مكتبة أورلاندو بالولايات المتحدة وحين جلس إلى طاولتنا شاب أمريكي متدين بدأت للتو فتح حوار معه حول قضايا في الدين والتراث, ولم يكن لدي هدف إلا تقوية لغتي الإنكليزية, ومحاولة الاقتراب من الذهن الأمريكي, وأخذنا الحديث إلى تصريحات عوفاديا يوسف العنصرية التي يقول فيها إن العرب أفاع سامة يجب التخلص منها وإن الرب نادم على خلقه للعرب, وكنت لا أشك أن محاوري بحكم كونه أمريكياً متحضراً سيصاب بالذهول حين يسمع تصريحات عوفاديا الشوفينية الشوزفرانية الناعقة خارج التاريخ والحضارة, ولكن محاوري قال بهدوء ,أنا لم أسمع تصريحات عوفاديا ولكن أعتقد أنه قال الحقيقة!! فالرب عاقب إبراهيم على الزنا الذي ارتكبه وأمره أن يتخلص منه في صحراء فاران (جبال الحجاز) ولا يمكن أن تكون بنت الرب مع بنات الغوييم!! وهكذا فإن التفسير التلمودي لما أقدم عليه إبراهيم لا يصح أن يكون إلا زنا!! على الرغم من أن اليهودية لا تحرم التعدد ولا تجرمه, ولكن إقدام إبراهيم على الاقتران ببنت غير يهودية لا بد أن يضعه في خانة الزناة على الرغم من منزلته العظيمة في الأديان حتى في اليهودية!
(بنت الست وبنت الجارية) ليست مجرد أمثال يسردها ياسر العظمة في حكاياه ومراياه, ولا هي تقليعة من خوالي الأيام الشامية إنها في العمق جزء ركين من تكوين العقل الأمريكي المؤيد لإسرائيل بالمنطق إياه, وأرجو أن لا يتهمني القارئ بالتسطيح والتبسيط فالمسألة أكبر من هذا بكثير, إنها في العمق إحدى أهم الدوافع في الانحياز الأمريكي لإسرائيل, ومع أننا تعودنا أن نشير إلى الأسباب السياسية والاقتصادية في دوافع الحروب الأمريكية على أراضينا ولكن بدون هذه المبررات كيف يمكن تفسير السلوك الأمريكي المنحاز ضد فلسطين؟
عادة ما يقوم حكام من العالم الثالث بتهريب ملايين الدولارات من حدود بلادهم ويحطون في العواصم الكبرى في العالم بأرصدتهم السرية والعلنية وهي مسائل لا تثير اهتمام الرقيب الأمريكي (المهتم) بنشر العدالة والديمقراطية والقضاء على الفساد, وهو هنا يصرح بعدم جواز التدخل في الشأن الداخلي ولكن أمريكا تتدخل بكل سطوتها وعنفوانها لمنع اسماعيل هنية من إدخال المال إلى شعب فلسطين ويتم حجزه على الحدود لمدة ثماني ساعات, ولا يسمح له بالدخول إلا بعد أن يتم تجريده من الأموال التي كان يحملها على كتفيه من أجل دفع رواتب موظفي فلسطين!! وبعد دخوله حاسراً حافياً كانت رصاصات الغدر تنتظره وتنتظر نجله وسائقه ومرافقيه!!
إن جمعيات رعاية أسر المسجونين موجودة في كل العالم, والجمعية الإسرائيلية العاملة في هذا الحقل تتلقى معونات مباشرة من البيت الأبيض رحمة بزوجة المجرم وأطفاله الذين لا ذنب لهم وإن كان أبوهم من المجرمين, ولكن أسر المجاهدين الفلسطينيين تدمر فوق رؤوس أمهاتهم وآبائهم, ويعتبر إعادة إعمارها عملاً عدوانياً مباشراً يرتبط بالإرهاب!!
كيف يمكن تفسير هذا كله؟
من وجهة نظري فإن أقرب طريقة ليفهم العالم سبب الدلال الأمريكي لإسرائيل وظلمها المباشر للفلسطينيين, هو أن يتذكر العقيدة الصهيونية التي يتبناها اليمين الأمريكي اليوم (أبناء الست وأبناء الجارية)!!
د. محمد حبش
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد