الحوار بين الأديان والدولة كمشروع جامع
يصر على ان الصيغة اللبنانية تسوويّة. ليس ذلك في منطقه بالقدر المشؤوم، بل بالنموذجية الفريدة. لا يكلّ يدعو الى توسّل الحوار نهج ممارسة وفكر، لا شعارات مفرغة الا من طنين الصنوج غير المحبّة. القاضي عباس الحلبي ذاكرة تاريخية في الحوارات الوطنية، ومثال في مبادرات تأوين هذه الحوارات بمعنى تلازمها وماجريات الاحداث، أتسالميّة أتت ام متوترة. فتراه يقتحمها محرّرا من تبعات الغلو والتطرف، ودافعا باتجاه استثمارها افعالا قادرة على صناعة التاريخ اكثر منه انفعالات تنزلق الى التدمير. الانسان عند الحلبي مواطن كونيّ تحفر فيه الاديان نبلاً، وكرامة وجوديّة، من حيث اختزانه، على حصرية الدين الذي اليه ينتمي، قبْساً الهيا ما في توحيد صوفي حكمي لا امكان لاختزاله.
واللبناني عنده مزيج حضاري من المسيحية والاسلام، تقوم مواطنته في فرادة التسليم بدعوة رسالية يحياها ويحكيها لكل العالم، بقناعة لا بماكياجات مؤقتة. وهنا بالذات تكمن مأزقيّة طرح الحلبي، اذ ها هي الصيغة التسووية تثبت انها، الى فسيفسائيتها المستقطَبة أجزاءها مكوّنة رؤية في تناغم الاختلافات، تبقى مقلع تنافر الاجزاء عينها بفعل نتوءات من صميمها، يمسك بها قُصَّرٌ من اهل البيت، واعداء واصدقاء، يروّسونها لتمسي مسامير جارحة. جروح التنافر قتّالة. تناغم الاختلافات، على ان تستمر الاختلافات مشتل غنى، بنّاء فهل من يسمع؟
رغم هذه المأزقية يواكب الحلبي محاولات الانقاذ، بل يصنعها بالفكر النيّر، والتواصل المعتدل المنحاز الى نقدية تفكيكية، ولو انك تشعره مرتبطاً بالمُثُل فتراه لا يكف عن التأكيد على أن "الصيغة اللبنانية تقوم على اساس مفهوم التسوية (...). (...) وان كل صيغة لا تأخذ مصالح الطوائف، مصيرها الزوال، وتؤسس لأزمات سياسية، سرعان ما تعيد ابراز معالم التمذهب والطائفية، فالى دورات العنف التي تؤدي الى الفرقة والانقسام (...) وضمن النطاق نفسه ان كل حل يراعي مصلحة فريق واحد فردي، او اكثر، على اساس الثنائية او الثلاثية، ولا يراعي مصلحة مجموع الطوائف، مصيره الفشل حتى لو استقوى البعض في لحظة تاريخية معينة بقوى الخارج، ايا كان هذا الخارج. من هنا اهمية مشروع الدولة الذي يستوعب في فيئه الجميع(...)" (ص14).
- ولما كانت الدولة المشروع الجامع والسانحة الوحيدة لتهدئة روع الخائفين من انفراط العقد الاجتماعي اللبناني الهش من ناحية، وحاضنة طموحات المواطنين اكثر منه الايديولوجيين، يتوجه الحلبي الى الشباب باعتراف خطير، فيكتب بجرأة الحكيم المستشرف، ويسأل من ثم باستفزاز الباحث عن خلاصية ما: "انتم جيل يدفع ثمن ما حصل مرتين. الاولى لأنكم نشأتم في مرحلة من الفساد المستشري والثراء الفاحش، والحكم المتردي، والمشاكل المستعصية التي لم تجد حلا، لأن لا احد يسعى الى الحل. والثانية لأن فرص العمل امامكم موصدة، وكل شيء يدعوكم الى الهجرة او الانكفاء. وازاء هذا الواقع هل تبقون مختلفين، وهل لكم مصلحة في الخلاف؟". ربّ سائل عالم حق العلم بالجواب، اذ بلغت المشادّات التكتيّة بالمعنى السياسوي حد توجيه السهام الى الميثاقية، بحيث بتنا احوج الى التساؤل عن مدى امكان تحصين الوطن من خطر الساحة، لتبقى لنا معنى الوطن اكثر منه الرقعة الجغرافية الكارثية حتما؟
وندفع الثمن في الشرق والغرب مرتين دموية أﭙوكاليبتيتين، ان نهجنا الالغائية بدل الانثقاف، والاصولية بدل التأصيل، من خلال تلاق موضوعي صدامي بين شذوذين عن المسيحية والاسلام يطل عليهما الحلبي مدونا: "لعل البارز في تنامي النزعة الاصولية المسيحية انها تريد من تغذية الاصولية الاسلامية في مشرقنا ومغربنا التي قامت اساسا لمواجهة الاصولية اليهودية، وحوّلت منطقتنا من مساحة حرية، وتسامح، وعيش مشترك، الى بؤرة توتر وارتكاب مجازر، وطغيان فئات على فئات (...)" (ص34).
- ولا يغفل الحلبي مقاربة مشروع الدولة من زاوية حساسة امست منذ ما بعد اندحار العدو الاسرائيلي عن لبنان عام 2000 بفعل انتصار اللبنانيين على صلفه وهمجيته بوحدتهم والمقاومة، عنينا زاوية مشروع الدولة ومشروع "حزب الله"، فيعلن جهارا: "ان لبنان يحتاج الى مرحلة نقاهة لكي يستطيع الاستمرار، ووقف هجرة اللبنانيين الى الخارج، ولأن المقاومة تستمر شرط ان لا تتعارض مع سلامة لبنان. وهنا اعود الى فكر الامام موسى الصدر الذي يعطي مرحلة الحياة الاولوية على مرحلة الموت. تكفيني الاشارة في هذا السياق الى نجاح الامام في جعل الشيعة متوازنين في شيعتهم، واسلاميتهم، وعروبتهم ولبنانيتهم"(54).
وفي هذا الاعلان حيّز نقاشي واسع بين مفهوم الامة، ومفهوم الوطن، فهل تنتصر طروحات المناضلين للبنان للصيغة والميثاق ذات السيادة الناجزة والحياد الايجابي، ام تنخرها تألّهية قوامها قبضات مرفوعة وحناجر مدوية؟
- وثيقة الوفاق الوطني المكنّاة باتفاق الطائف يجدها الحلبي مهددة من ثلاثة ظواهر سلبية يحددها الحلبي بـ"ذكرى 13 نيسان، وموضوع الزواج المدني، ومكبرات الصوت في الوسط التجاري". فيرى أن ما استطاع اللبنانيون الى اليوم تقويم تجربة الحرب المقيت كما يجب، ورفضوا تحرير الفرد من قيده الطائفي في الزواج المدني، وانساقوا الى مظهرية التدين بدل وعي حقيقة الايمان. هذه كلها تقوّض لبنان – الرسالة، اضف اليها الارتهان لسياسة المحاور، وتنتهي اسطورة حقيقية، فهل من يعي ام...؟
(•) عباس الحلبي – الحوار بين الأديان، الحالة العربية والنموذج اللبناني – دار المشرق – 2007.
زياد الصائغ
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد