الحلبي يكتب عن سنية صالح و يتساءل عن السيد الزرنيخي
ولدت سنية صالح شعرياً في مطالع ستينيات القرن العشرين, وولدت قصصياً في مطالع ثمانيناته, وانتقلت إلى رحمة ربها منتصف تلك الثمانينات, فغيب الثرى جسدها المرهق,وأبقى حزنها المرهف, وانتهت مع الجسد الغائب خمسون سنة من الصمت الراهب, هن جماع حياتها, منذ صرخة الولادة حتى شهقة الوفاة.
أتيح لسنية أن تشهد ثلاث مجموعات شهرية منشورة لها, هي على التوالي: الزمان الضيق (1963), حبر الإعدام (1970), قصائد (1980); ومجموعة قصصية واحدة هي: الغبار (1982). وبعد رحيلها بثلاث سنوات صدرت مجموعتها الشعرية الرابعة بعنوان: ذكر الورد (1988), وحين أصدرت وزارة الثقافة السورية- مشكورة- الأعمال الكاملة لشاعرتنا وأديبتنا هذه ضمنتها قصائد غير منشورة, وقصصاً غير منشورة هي الأخرى, إضافة إلى كتابات نقدية, وحوارات صحفية, وبعض الزاويا الإذاعية.اللافت أن سنية, منذ خطوتها الشعرية الأولى أطلت على المشهد الشعري العربي المعاصر من علٍ, فقد حازت الجائزة الأولى عن نص شعري لها, عبر مسابقة تألفت لجنة تحكيمها من أعلام لمّا تزل أسماؤهم ماثلة في ديوان الشعر العربي, ولمّا يزالوا يشغلون حيزاً واسعاً من الساح الثقافية في الوطن العربي.
اللافت أيضاً أن إطلالتها الواثقة تلك, ازدادت وثوقاً ورسوخا; وإذن فلم غفل عنها النقد حتى في شقه الصحفي?
عن زوجها محمد الماغوط أصيبت صفحات الكتب وأعمدة الصحف والمحطات الإذاعية والأقنية الفضائية والمراكز الثقافية بالتخمة, وأصيب الوزراء والمتتابعون على كل من الثقافة والإعلام بانقراص الفقرات لكثرة ما حجوا إليه, ولم نر أو نسمع من يذكر منهم اسم سنية صالح!! فهل سرق اسم الماغوط وهج سنية, وهي الوهاجة حقاً ودونما إدعاء ?! أم أن تلك الصفحات والأعمدة والمحطات والأقنية والمراكز, وأولئك الوزراء- ونحن معهم- نبصر بعين واحدة, ونسمع بأذن واحدة, ونعقل بفعل الضجيج والهيجانات, لا عبر العقل?!
ثم هل لهذا السبب تفشت جوانب من الحزن في شعر سنية عنوة, وأعرضت عن البوح بجوانب خاصة جداً, أشد وأطغى?..
هذا الحزن المرهف, هو أيضاً حزن مقدس. رهافته وقدسيته كامنتان في كتمانه, هذا ما نستخلصه, نحن, من موقف صاحبته منه. تقول سنية على استحياء يفيض شموخاً:
(عليّ أن أغلق فمي جيداً, لأنني إذا فتحته لن تنطلق منه إلا الأحزان والمآسي). / الأعمال الكاملة ص 471/.
هذا صحيح, وصحيح جداً. تضاعيف نصوصها تنبىء به, شعراً ونثراً, قصيدة وقصة, والأغرب, بل الأعجب, أنها ستضعنا في عمق صورة أراها يتيمة, من حيث أنها غير مسبوقة, في حدود ما أمكنني الإطلاع عليه من ديوان الشعر العربي, تراثاً ومعاصرة; صورة أفرزتها شاعرية وقادة عبر معاناة عميقة الغور حتى اللاقرار, ولونتها خصوصية العاشقة المضحية والمصدومة, من ثم, بواقع مرير, قوامه الجحود والنكران والإلغاء.
تهمس في (مقتطفات من أوراق مبعثرة) همساً مترفعاً عن الشكوى: (من يتذكر من? طوفان من النسسيان; وأنا أتأبط قشتي أرفعها كالراية. حقاً لا تحمل قطعة قماش ولكنها سارية لكل الرايات; حاملة جميع الأعلام الصديقة والعدوة.
من وجودك فيَّ أكتسب شرعيتي وأقول هذا اليوم سيأتي, وكأنك ستقيم من أنقاضي قصوراً./ أحلم بالمعجزات وأنا غارقة في العجز حتى أذني).
من هذا النسيان, ربما, وهذه القشة التي يتعلق بها الغريق كما يقال, وضعتنا سنية في عمق الصورة التي رأيتها يتيمة, والتي رسمتها بقولها:
(أما أنا
فسأحجز بويضات الإنجاب
في رحمي
لتعيش هكذا, عذراء
من أجل ألا يحشر الربيع بين الرصاص). /ص280/.
هذا الحجر يجيء هنا لغوياً بمعنى الاحتجاز, فيتحول في هذه الصورة الأخاذة من الوظيفة اللا إرادية إلى القسر الإرادي, وبهذا التحول المسبوك فنيا, تخرج اللغة من سياقها النثري إلى كيانها الشعري. واللغة الشعرية- حسبما تراها سنية فيما قدمته لديوانها (ذكر الورد)- أصعب اللغات, لأنها ليست مما يمكن تعلمه واتقانه إتقانا علمياً أو عملياً, وعلى الرغم من ضرورة المعرفة والتعلم لتعهد ذلك الحافز الغامض, حسب تعبيرها, فإن سر اللغة الشعرية يبقى دائماً خارج دائرة التعلم. والحسّ الشعري, كما تراه, حسٌّ خاص يقوم على خرق ما تم اكتسابه وتعلمه خرقاً يعيد اللغة لمهارتها. وهذا الخرق هو الذي دفع بالشعراء إلى البحث عن الانحياز والانحراف اللغوي والتجاوز. وهذا ما جعل التجديد القانون الضروري للإبداع, حسب وصفها.
خالدة صالح (شقيقة سنية), الناقدة المرموقة والمعروفة باسم (خالدة سعيد) تعلن لنا قولها:
(.. لم تكن حياتها معاً- تعني سنية والماغوط- شعرية دائماً على الرغم من التواطؤ الشعري الذي استمر بينهما. في هذا المناخ جاءت ابنتاهما شام وسلافة كأنهما من سماء حلم أسطوري. ونراهما تحضران في شعر سنية حضوراً عجائبياً سحرياً..) /ص 8/
أما سنية فتقول:
(لقد أحببت محمد الماغوط بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له. لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلا الشعر.) /ص 486/
أما نحن فلنا أن نسأل: هل يعني هذا أن الأمر تغير لديها حين أمسى الماغوط يملك الحظوة وروافدها ولا يملك الشعر بدليل أنه منذ سنوات, ولا سيما السنوات العشر الأخيرة منها, صار يكتب أي كلام, حتى لقد احتج محبوه على ما يكتب?
فيما سبق أعلنت سنية أنها ستحجز بويضات الإنجاب, والسبب في ذلك واضح: لكيلا يحشر الربيع مع الرصاص. ولكن ما المسبِّب?!
سؤال يبدو كالكرة في مرمى المدافعين, والإجابة عنه شتى; هل كان ذلك بتقصير من الدفاع, أم بتقصير من حارس المرمى, أم كان بتهاون من المدرب, أم لاستهانة الفريق المدافع بقدرات الخصم المهاجم?
نقاد المباريات الرياضية سيتوصلون إلى الجواب الأقرب للصحة, فهل يتوصل نقاد الأدب في كل من صعيديهما الأكاديمي والصحفي إلى جواب ممكن عن هذا السؤال?.. ربما.. بيد أن سنية ستختصر الطريق; ستعلق في المنعطف منه لافتة كبيرة, تحمل هذه الكلمات:
إنك من الزرنيخ يا سيدي,
أفتحُ فمي كلّ صباح وأبتلع جزءاً منك
ولم تنته.
قلتُ سيأتي يوم أتوحّشُ فيه
وأفترسك.
(..الخ ص 239- 240)
فمن هو هذا السيد الزرنيخي الذي شكلت تفاعلاته الكيميائية بخاراً أسود كثيفاً, حجب رؤيتنا البصرية والقلبية عن شاعرة مبدعة وأديبة كبيرة, اسمها سنية صالح?
الجواب: لست أدري... فهل تدرون أنتم?
حسناً: فلتكن سنية ضيفتنا, ولنتحاور في عطائها الشعري والسردي إنصافاً لها, وتكفيراً عن تقصيرنا فيما لها علينا
عبد الرحمن الحلبي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد