الجنة الآن
الجمل- سعاد جروس: تمكن المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد في فيلمه «الجنة الآن» من تقديم صورة إنسانية رقيقة عن الفدائي الفلسطيني, استحقت التعاطف بذات الدرجة التي أثارت السخط الإسرائيلي, الذي يعتبر الفدائي مجرماً يقتل الأبرياء, كما لم يُرض الفيلم المناضلين الفلسطينيين, الذي أظهر الفدائي بصورة ضبابية يقوده اليأس والإحباط وانعدام الخيارات إلى الانتحار.
يعالج الفيلم مسألة الخيارات فيقدم نموذجين للتحولات الطارئة على أساليب مواجهة الاحتلال: نموذج «سعيد» الذي قُتل والده بتهمة التعامل مع إسرائيل من أجل تحسين حياة أسرته, إلا أنه جلب لهم عاراً أشد وطأة من الفقر, ما سيدفع ابنه لاحقاً لغسله بعملية فدائية. ونموذج آخر تجسده «سهى» ابنة شهيد لم تعوضها مفاخره البطولية عن مشاعر اليتم والحرمان من الأب, التي ستدفعها الى النضال السلمي عبر منظمات حقوق الإنسان.
مشاعر حب قوية تجذب سعيد وسهى نحو بعضهما, لكن الحب رغم روعته لا يثني سعيداً عن إرادة الموت, ويفشلان في التلاقي عند نقطة اتفاق, فكلاهما ضرس من حصرم الآباء, وبات تجريب خيار آخر ملزماً.
تمكن فيلم «الجنة الآن» من العبور الى الضفة الأخرى من العالم رغم الاعتراضات الإسرائيلية وعدم نيل الرضا الفلسطيني, واستمال عواطف الرأي العام نحو بطلي الفيلم «خالد وسعيد» الشابين الفلسطينيين اللذين تم تحضيرهما للقيام بعملية في تل أبيب, لكن الفشل في التسلل أحبط العملية, وتاه كل منهما باتجاه: خالد تمكن من العودة ونزع الحزام الناسف عن خصره, فيما سعيد فكر بتفجير نفسه بحافلة ركاب إلا أن وجود أطفال في داخلها منعه, وراح يبحث عن خالد الذي كان يبحث عنه أيضاً ليؤكد لقيادته أن سعيداً ليس سبب فشل العملية وأنه لا يمكن أن يخون. زمن البحث الذي هو زمن الفيلم اختبار لإرادة البطلين, ينتهي بتراجع خالد عن خيار الاستشهاد, فيما يصر سعيد على تنفيذ العملية بمفرده.
الفيلم رغم توخيه الواقع إلا أنه سقط في فخ صورة نمطية للاستشهادي, تم تعميمها بعد 11أحداث أيلول €سبتمبر€, بأن هناك من يزين للفدائي الموت بوعد «الجنة», والتي هي غاية الاستشهاديين. ففي الفيلم ظهر المسؤولون عن تجنيد الشباب يخاطبون الفدائي, بلغة أب يرد على سؤال طفله: أين يذهب الإنسان بعد الموت؟ بالقول: إلى فوق حيث الجنة مع الملائكة. حتى أن الموقف المؤثر للفدائي وهو يسجل رسالته الأخيرة, لا يمنع القياديين من التهام سندويشاتهم بشهية!! في مشهد يفصل بين القيادي والفدائي كمُغرر ومغرر به, بكل ما يعنيه ذلك من تجنٍ, وتجاهل لآلة الاغتيال الإسرائيلية التي حصدت خيرة القياديين الفلسطينيين من مختلف الفصائل.
كما ينطوي هذا المشهد على إسقاط الصورة الرسمية لـ«الارهابي الأصولي» الذي يعادي الأنظمة على الفدائي الذي يحارب المحتل, وهو تماماً ما حاولت إسرائيل تكريسه عبر التحاقها بالحرب الأميركية المزعومة على «الإرهاب», فقد قارب الفيلم موضوع الاستشهاد من زاوية الدين والوعد بالجنة, لكنه لو وسع زاوية الرؤية لتذكر, والذاكرة ما زالت طرية, أن العمليات الفدائية التي شهدها لبنان في الثمانينيات, قام بها شباب وشابات من تيارات يسارية علمانية, وأن الاستشهاد ليس انتحاراً, بل هو الإرادة في أقوى تجلياتها, والتضحية في أعمق صورها على الإطلاق, وحضور الأمل بحياة أفضل لشعبه, دون الغرق في حالة من اللاجدوى والعدمية.
طرح الفيلم فكرة انعدام الخيارات وفقدان الجدوى, وقدم الاستشهاد كفعل انتحار, تنقطع فيه صلة الشهيد بالأرض وتتصل بالسماء أي بعالم الغيب, ولو عدنا الى أي مقاوم للاحتلال في فلسطين أو لبنان, لن نسمع منه كلاماً غيبياً أو نفعياً عن الجنة والملائكة, وإنما سنسمع شيئاً له علاقة بما سيطرأ على مستقبل الصراع. أحد مقاتلي حزب الله التقته قناة «الجزيرة» بعد توقف القتال, قال إنه كان معتقلاً في سجن الخيام وخرج أثناء التحرير العام 2000 , ومذاك يفكر بالانتقام من إسرائيل لشدة ما لاقى منها ومن عملائها. وحين سئل عن شعوره وهو يرى ابنه يستشهد في المعركة, قال بصوت تخالطه العزة: سبقني إلى نيل شرف الشهادة. ولم يقل سبقني الى «الجنة».
مثال آخر في مجلة النيوزويك في حوار دار مع فدائية فلسطينية, أم لأطفال عدة فشلت في نزع فتيل الحزام الناسف, ووقعت في الأسر. قالت حين سئلت, لماذا تقتل أطفالاً إسرائيليين أبرياء؟ قالت هؤلاء الأطفال عندما يكبرون سيقتلون أطفالنا ومن الأفضل قتلهم الآن. ولم ترد على ذكر شيء من وعود الجنة والنار. المفارقة في ترويج موضوع الوعد بالجنة, أنه وعد ينطلق من مخيلة ذكورية تعج بالحوريات, تجد مسوغاتها في صورة «الانتحاري الأصولي» لكنها تُفتقد في المرأة الفدائية الأم, أو الصبية المنتقمة لحبيب سبقها الى الشهادة.
القالب النمطي الذي تروجه دوائر الإعلام الغربي بالتآزر مع بعض الأنظمة العربية للاستشهادي بصفته «أصولياً إرهابياً» ينطلق من فكر غيبي, يُحيل فعل الشهادة إلى تعويض علة نفسية في شخصية مهزوزة, لكنه يمارس فعل تزوير إذ يعيق فهم فلسفة الموت والحياة في مواجهة الاحتلال, ويميع المفاهيم ويحرفها عن قصدها. فيغدو من يدافع عن حقه بالحياة على أرضه انتحارياً, متساوياً بذلك مع الذي يعتمد العنف وسيلة لتغيير النظام في بلده أو توصيل رسالته إلى المجتمعات الأخرى عبر قتل المدنيين!!
سواء اتفقنا أم اختلفنا حول مفهوم الاستشهاد, لا بد من الاعتراف أن الفدائيين يشاركون في تغيير مسارات الصراع, إن لم نقل في كتابة التاريخ, وهذا فعل حياة لا موت, ينطلق من عقيدة إيمانية بالحق, ترتكز على الدين حيناً, وعلى الأيديولوجيا السياسية حيناً آخر, لكنها حتماً ليست انتحاراً في لحظة ضعف, وإنما تصميم وعزيمة لا تلين تنشد الكمال في صورة البطل الشهيد.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد