الجذور الشرقية للفلسفة اليونانية
للمرة الثانية يطل المفكر عفيف فراج بعد موته مؤلفاً، للمرة الثانية بعد رحيله في 19 تشرين الثاني من العام 2004 يظهر كاتبا على قيد الحياة. وهكذا يصدر عمله الجديد مع ذكرى غيابه، حتى يبدو لغير العارف به وكأن لا شاغل له سوى الكتابة بينما جسده يلوذ بصمت وحكمة الاموات. مهمة نشر ما كتب تتولاها زوجته عائدة خداج ابي فراج وهي مهمة عسيرة ومنهكة لمن يعرفون طقوس فراج في الكتابة مرة ومرات قبل خروج الكلام من شرنقته الخاصة، مع ذلك تعدنا عايدة بلقاء جديد مع كتاب جديد تركته أمانة بين أيدينا. اذاً سيظل عفيف يعطينا دروسا في الانتساب الى جدل العصر والانسان العربي على نحو مخصوص، الممزق والمصلوب بين عولمة لا ترحم وجذور تملك القدرة على إمدادنا بمقومات الحياة اذا ما تفحصناها جيدا.
الكتاب الجديد يحمل عنوانا هو الجذور الشرقية للفلسفة اليونانية دراسة مقارنة بين ملحمة جلجامش والياذة هوميرس وقد صدر منذ أيام عن دار الآداب في بيروت، التي تولت إصدار أكثر كتب فراج في حياته وبعد وفاته بعد صراع طويل مع مرض عضال. الكتاب في أصله عبارة عن محاضرات ألقيت على طلابه في مادتي مجتمع وفكر ودراسات ثقافية. وقد رفض فراج في حينه طباعتها لطلابه في قسم اللغة الانكليزية في كلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية وغيرها، اعتقاداً منه ان نشرها وإقرارها على طلابه يدخله في قائمة الاساتذة الذين يتوخون من خلال تآليفهم الكسب المادي لا أكثر ولا أقل. بهذا المعنى كان النص بصيغته الاولية. وقد احتفظ بأوراقه واعداً ان يتولى العمل عليه بعد تقاعده المفترض ان يتم هذا العام بعد ان تفرغ لإدارة الفرع الاول في كلية التربية في الجامعة اللبنانية. هذه الاوراق تولت العمل عليها زوجته، لملمتها، وتنظيمها وتبويبها وفهرستها ضمن الممكن قبل بلوغها صيغتها الراهنة في هذا الاصدار. بهذا المعنى فالكتاب هو كتاب عفيف فراج وان كان غيره قد تولى التوقيع على حق النشر وإجازته.
الكتاب رغم ما يبدو انه اختلاف يرتبط بعملين سابقين للمؤلف أثارا ضجة في أوساط القراء والنقاد على حد سواء وصدرا ايضا عن دار الآداب هما اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية ورؤية اينشتاين لليهودية ودولة اليهود وكلاهما يبحث في الثقافة اليهودية باعتبارها ذات منابع شرقية قبل ان تتغربن بفعل تأثيرات الغيتو من جهة والتطور السياسي والثقافي والحضاري الغربي الذي أقامت بين ظهرانيه قرونا متلاحقة من جهة ثانية.
العمل الاخير ينطلق من مقولة مؤرخ الحضارات ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة التي تعتبر ان الحضارة الغربية تبدأ من الشرق وليس من اليونان، باعتبار ان الشرق الآسيوي هو المسرح الاقدم للمدنية المعروفة والتي كانت في صميم الثقافتين اليونانية والرومانية. مثل هذه المقولة تحولت الى ما يشبه التيار لدى آخرين عملوا على صقلها والكشف عن الادلة والبراهين التي تنفي عن الحضارة الاوروبية مركزيتها. تستند هذه المقولة الى المؤكد في ان المدينة والمدنيات بالاساس قد نشأت على ضفاف كل من الفرات ودجلة والنيل والكانج (بلاد مابين الرافدين ومصر والهند. وان هذه المنطقة قد شكلت الى هذا الحد أو ذاك وحدة حضارية وثقافية واحدة اذا ما أضفنا إليها بلاد الشام الغنية بالاخشاب والاسرار والعقائد. وقد تولى التجار الفنيقيون والكنعانيون حملها في سفنهم الى المواني اليونانية وغيرها التي وصلوا اليها. وقد ذهب البعض الى المبالغة سياسيا في هذه النظرية الى حد اعتبار الاسكندر المقدوني، وهو أبرز تجليات الاندفاعة اليونانية مجرد أمير عسكري صغير لدى الفرس تحرك بأمر أسياده لا بعبقريته الحربية. يتم الاستناد هنا الى المقارنة بين مدن ومدنية بلاد فارس وما كانت عليه اليونان من سياسة وثقافة وحضارة زراعية وحرفية وطرائق عيش بدائية وفقيرة. في هذا المجرى الكبير صدرت العديد من الاعمال في غضون العقدين الماضيين وان بدا كما لاحظ بحق جلبير أشقر في مقدمته أن فراج لم يطلع عليها، بدليل انها لم ترد في هوامش مصادره. من هذه الاعمال كتاب مارتن برنال الشهير اثينا السوداء الجذور الافرو آسيوية للحضارة الكلاسيكية وغيره أمثال يانس كورداتوس وم. ل. وست، وبالتأكيد ادوار سعيد في كتابه الاستشراق. ومعظمها بين ان الاغريق أنفسهم رأوا في حضارتهم امتدادا للحضارات الشرقية الافرو آسيوية عموما والمصرية على نحو أخص وان علماءهم وفلاسفتهم وشعراءهم كانوا مجرد تلامذة في العديد من المدن الشرقية ولا سيما الاسكندرية وبابل قبل عودتهم محملين بكنوز الشرق الفكرية والفلسفية. عنصر التقاطع مع الكتابين السابقين اللذين أشرت اليهما سابقا، ينطلق من اعتبار ان الاستناد الثقافي الفلسفي الذي قام عليه عصر الانوار الاوروبي له جذوره الشرقية القديمة ممثلا هذه المرة بالثقافة السومرية الاقدم بقرون من الثقافة اليونانية التي نهلت من سابقتها. وان استعادة الثقافة الشرقية فى أوروبا قد حدث فعلا مرتين، الاولى منهما عند استقاء التراث اليوناني من منبعه الشرقي العريق من خلال أشكال التواصل القديمة، وثانيا في إعادة اكتشاف أهميته ثانية مترجما الى العربية بعد ان فقدت الكثير من أصوله، بينما كانت أوروبا في حينه تغرق في انحطاطها تحت حكم الكنيسة والاقطاع والامراء المحليين.
يتألف الكتاب من سبعة فصول، الخمسة الاولى منها تنهض على بحث ثقافي مقارن بين ملحمة جلجامش والياذة هوميروس، بينما الفصلان الاخيران يتناولان الموضوع في مداره الفلسفي ومن خلال المقارنة ايضا، وفيهما يظهر على نحو جلي ان الاغريق قد أخذوا عن السومريين فكرة القدر الذي لا يقاوم، حتى باللفظ فإن كلمة القدر اليونانية moira يعود جذرها الى كلمة me السومرية التي تعني قوى الالهة التي تقطن العالم السفلي والتي تحدد نظام الكون، فتضع لكل موجود قواعد وجوده وقوانينه الخاصة التي تمكنه من الاستمرار في الخطة التي وضعها الذي خلقه. ان فكرة القدر السومرية البابلية وما تتطلبه من منظومات فكرية وإدارية وتراتبيات تقوم على فكرة اعتبار الكون وحدة تجمع بين كل ما هو مرتبط ومنسجم ومتفاعل وهو ما يمكن رؤيته عبر جدلية العلاقة بين قبة السماء وما على الارض وتحتها. من دون الاسترسال في مثل هذه الجوانب نعود الى ما استغرق الفصول الخمسة من تفصيلات حول المشترك بين جلجامش والالياذة. هنا تتدفق التطابقات، فجلجامش هو إله بنسبة الثلثين وثلثه الباقي بشري. المخيلة الشعبية ستتولى تحويل الثلث البشري الى إلهي وستنزله عن ثنائيته الالهية البشرية وتضعه في مصاف الآلهة بعد رحلة الصراع والحكمة العميقة. ومثل هذا المعطى لا يخترق الالياذة فقط، بل معظم الميثولوجيا اليونانية حيث يتصارع الآلهة بين بعضهم بعضا وينحازون لأنصاف الآلهة أو أثلاث الآلهة. نقل اليونان عن السومريين ما يتعدى صفة القداسة لبطل النص. فإذا كان هوميروس هو منشئ الالياذة، فإنه قد انتقل من الصفة الشعرية البشرية الى الصفة الدينية باعتباره نبيا يونانيا مكرسا. لكن ما تم نقله لا يقتصر على هذا التفصيل. اذ ان العناصر الدرامية التي جعلت من جلجامش ملحمة كل العصور والدهور أخذت هذه الصفة كونها عبرت عن جدلية الصراع الحاد بين الواقع والحلم بين الممكن والمستحيل، بين الحياة العابرة والديمومة. وباختصار بين الروح التي تضيق بها مساحة المدينة والجسد الهالك والفاني والمحدود والمغلق وأسوار أوروك القديمة. بهذا المعنى فإن جلجامش هي ملحمة الخلق والتكوين، لذا لم يكن غريبا اتخاذها شكل الدائرة التي تبدأ من نقطة مكانية ثم لا تلبث ان تعود اليها وهي هنا اوروك التي تستقبل عودة البطل مثقلا بجنى التجربة التي اكتسبها من رحلته. والعودة الى نقطة ومكان الانطلاق هو ما نلاحظه ليس في الالياذة فقط بل في الاوديسا ايضا بعد رحلة الترحال. الفارق بين عودة وعودة ان جلجامش الذي يعود الى المكان نفسه يرجع وقد تغير كل ما فيه. هو ذاته يتغير بعد لقائه وتصادمه بأنكيدو التي تؤنسنه علاقته بباغية المعبد، وتباعا سيتآلف علمان أحدهما بري والآخر مديني، لكنه التآلف الذي سيطلق ذلك الحنين الى ماض أسطوري ذهبي في رؤية رجوعية سنلمسها في معظم الادب اليوناني القديم. ولكن الاصل هو الصراع، فالصراع بين الآلهة الخالدة والانسان الفاني يعود الى البنية الثنوية لجلجامش وآخيل مرده الى تلك الرغبة في قهر الموت عبر رحلة الخلود والبحث عن العشبة التي تضمن انتصار الحياة على الموت، رغم ان طريقي البطلين
محفوفة بل ومرصودة بالموت الذي لا منفذ من بلوغه. هنالك الكثير من الابعاد التي يرصدها فراج في رحلته البحثية مؤكدا في الكثير من المفاصل على غيرية جلجامش وإنسانويته مقابل الانوية في شخصية آخيل، لكن الشخصيتين محكومتان رغم أميال المسافة بينهما الى مصيرهما، وهما عاجزان عن الارتقاء الى المستوى الالهي الكامل الذي يضعهما في مرتبة الخلود الذي ليس من بعده موت أو فناء. ان سطوة الاقدار لا مرد لها وهي فكرة في أساس الثقافة السومرية وخصوصا متى تكاملت مع فكرة الاستكبار التي تحكم السلوك البشري وهذه تدخل في أساس التراجيديا عندما يتساقط الابطال مضرجين بانكسارهم أمام الآلهة التي تدير حياتهم كما الآخرين من الناس، وكذلك العوالم المتعددة والمتراتبة سواء كانت علوية أو سفلية.
زهير هواري
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد