البحث عن حرستا
«معك 3 ساعات»، قال العسكري في نقطة تسجيل البطاقات الشخصيّة قبل الدخول إلى حرستا، عند الحاجز الذي اصطُلح على تسميته «حاجز السيرونيكس». كان المطر قد بدأ بالهطول منذ دقائق، وأنت تفتح مظلّتك وتقول لنفسك بكثير من الرومانسيّة البلهاء «رح فوت مشي، فرصة أتذكر آخر أيامي فيها قبل 6 سنين». في الشهور الأخيرة من سُكنى حرستا، كنت قد اختبرت أياماً تعذّر فيها دخول السيارات إلى المدينة الملاصقة للعاصمة، أو خروجها منها. سيارة أجرة توصلك إلى الأوتوستراد، لتقطع المسافة المتبقيّة سيراً على الأقدام نحو «العبّارة»، أو التفافاً حول «الموارد المائيّة» وفق ما تمليه المعطياتُ من أصوات رصاص أو خيوط دخان، واستجابةً للحدس حين يكون الصمت المريب مخيّماً. على هذا الطريق، رأيت ذات مرّة جثّة هامدة وأنت مستعدّ حتى اليوم أن تقسم أنّها كانت «جثّة مبتسمة».
على ذلك الرصيف، أمضيت ساعتين مستلقياً بلا حراك، وأنت تحاول أن تذوب في الظلام ريثما ينتهي الاشتباك الذي اقترب فجأة حتى صار بوسعك أن تشتمّ رائحة البارود. قبلها بعامين، كنت قد اعتدت مشاهدة عائلاتٍ تفترشُ الأرصفة وعشب أطراف الطريق على سبيل «السيران» الليلي. أما اليوم، فلست تشاهد سوى ركام المباني المطلّة على الأوتوستراد، ركام يخيّل إليك أنّه يلقي التحيّة على ركام يقابله في الجهة الأخرى من الأوتوستراد نفسه، حيث «القابون». يشتدّ المطر، ونوعيّة المظلّة الرديئة التي اشتريتها قبل ساعاتٍ من سوق الصالحيّة تدفعُك إلى الاستسلام. تومئ إلى سيارات عابرة، تتوقّف إحداها وتقلّك إلى «مدخل الخزّان». تبرز بطاقتك الشخصيّة «مرحبا، بدي فوت شوف بيتي»، يأتيك الردّ سؤالاً «وين سند التمليك؟» فتجيب «كنت مستأجر، وهاد عقد الآجار». نظرة سريعة في العقد المهترئ، ثمّ يقول لك العسكري «العقد قديم، خالصة مدتو من زمان»، تبتسم «معقول كان لازم جدّدو من عند الإرهابيين؟». «شو بتشتغل؟»، «مواطن». تسمع قهقهة تنمّ عن أنّك أتيت في «ساعة رواق»، ثمّ تنبيهاً «ما تطوّل يا مواطن، خلي هويتك هون، رقمك 17 وقبل السبعة بترجع». تومئ برأسك، تتجاوز النقطة وأنت تتذكّر رقمك «17»، وعلى «حاجز السيرونيكس 56»، وفي الفندق وسط العاصمة «606». تُخمّن أيّ الدروب سيكون أفضل للوصول إلى «مفرق الإنتاج»، وتسلكه غير عابئ ببرك الوحل والمياه كما يليق بـ«رقم» مثلك. مع كل خطوة تكبر الفاجعة، يزداد الركام، وتتناقصُ المباني، ويفارقك التساؤل عن مصير البيت. قبل ساعات كنت تقول لنفسك: «إن كانت الجدران موجودة فالكتب في انتظارك على الأرجح، في الحرب لا أحد تغريه الكتب سوى النيران». لكنك الآن تتلفّت محاولاً فهم «جغرافيا الركام».
حين قال لك صديقك قبل أسابيع عبر الهاتف «دلّني على بيتك وسأحاول تفقّده» اصطنعت الضحك قائلاً «لا فائدة، حتماً لم تعد هناك نقاط علّام تميز بواسطتها الشوارع». لكنّك لم تتخيّل أنّك لن تجد الشوارع! ها أنت وجهاً لوجهٍ أمام ما تخمّن أنّه شارعٌ يؤدّي إلى بيتك، لكنّه ليس سوى أكوام ركام صنعتها أبنيةٌ تهّدمت على جانبيه. تقرّر الذهاب نحو «الكوع» للالتفاف عبر طريق آخر. لكن كيف ستعرف «كوع حرستا» وأنت لم تعد تعرف كوعك من بوعك؟!! لا شكل للطرقات، لا زوايا، ولا انحناءاتٍ هنا، ليس سوى خراب. يدلّك قلبك وبقايا الذكريات على الدروب: هنا واكبتَ أوّل تظاهرة كبرى في المدينة، ما زلت تحفظ ذلك اليوم بأدق تفاصيله (الجمعة، 8 نيسان 2011). تتذكر جيداً الترقّب الذي خيّم على الشوارع مع بدء صلاة الجمعة. تتذكّر تجمّع عناصر حفظ النظام عند «الكوع»، تجمّعات المتظاهرين التي بدأت صغيرةً ومتفرّقة، تسمع صوت إحدى الجارات من داخل منزلٍ ما وهي تقول «الله يمرقها على خير». ما زلت تتذكّر «المظاهرة الوافدة» من عربين، انضمام الوافدين إلى من سبقهم، وجوه معظم جيرانك وهم يقفون على الزوايا مترقبين بخوف. على هذا الأوتوستراد، أقيمت صلاة العصر «جماعةً» بعدما قُطع الشارع بحاوياتٍ أُحرقَ ما فيها. هُنا رُفع خطيب على الأكتاف وتحدّث عن «الظلم، والحكم الطائفي، وأموال الضرائب المنهوبة» وبشّر بـ«العدل، ودولة الإسلام»، ثمّ نادى بالحاضرين «رح نروح مشي على دوما ونفك الحصار». لتتعالى الهتافات بعدها «فكّوا الحصار، فكّوا الحصار». تقلّب الذكريات وأنت تحاول جاهداً العثور على طريق تسلكه نحو بيتك، فلا تفلح: شارعٌ تحوّل إلى خندق، آخر إلى تلال، وثالثٌ إلى بقايا مبانٍ يصعب تجاوزها. تكتفي بالخيبة، مدفوعاً بتضاؤل الأمل في العثور على المبنى قائماً بعد كلّ ما شاهدت، وببدء تشكّل سيول ومستنقعات من المياه الموحلة. تفكّر أن كلّ شيء قد ينجرفُ في أي لحظة، بما في ذلك أنت. يدهشك تزاحم الدموع في قلبك، أنت الذي سكنتها بضع سنوات فحسب. تتسارع خطاك متحاشياً النظر حولك، ومتسائلاً عن مصائر جيرانك السابقين. يسعفُك الحظّ برجل وامرأة يسلكان درب الخروج نفسه وقد حملا بعض الأواني، تشعر بالأُنس فـ«كل غريب للغريب نسيبُ». تصلُ النقطة: «رقمي 17»، يناولك العسكري بطاقتك «أهلاً يا مواطن». تحاول أن تداري الغُصص بابتسامة باهتة: «شكراً، ويا ريتك ما سمحت لي فوت». تتلاشى من ذهنك بشكل تامّ جملةٌ كانت قد لازمتك في الأيّام الأخيرة «عائد إلى حرستا»، وتحلّ محلّها أخرى..
تردّد في صمت بيتَ امرئ القيس «ظلِلتُ، ردائي فوق رأسي قاعداً/ أعُدّ الحصى، ما تنقضي عَبراتي».
صهيب عنجريني - الأخبار
إضافة تعليق جديد