ارقصي يا شام... الموسيقى تنتصر على الحرب
تستريح شمس دمشق وراء غيومها، ثم ترتخي بحياء على أسلاك الغسيل، وصحون «الستلايت» الموزعة بعشوائية ملفتة على أسطح الشام. تنطلق أصوات القذائف، وترتفع وتيرة القصف على أطراف العاصمة، تبقى الشوارع مزدحمة. لا أحد يعنيه الأمر، كأن هذا الموت مشغول بزاوية أخرى من الكوكب.
يحدد أحد الجالسين في المقهى مكان وقوع آخر قذيفة على بعد أمتار من وجوده مع رفاقه، ويستطرد في حديثه دون أن تعني الجملة الاعتراضية شيئاً لكل من سمعها! تستمر الحياة! هذا ملخّص مكثّف من يوميات دمشق هذه الأيام. المدينة التي تعيش على أربعة مسارح وحفنة صالات سينما غالبيتها خارج الخدمة، أغلقت منافذها الثقافية رويداً رويداً دون أن تفقد واحداً من مساجدها التي يفوق عددها 200.
ما زالت «عاصمة الأمويين» بعد ما يقارب ست سنوات حرب، قادرة على أن تجمع في أمسياتها الفنية في «دار الأوبرا» جمهوراً بعدد مقاعد الصالة الرئيسية، بينما يبقى المصوّرون، والموظفون الخاصون في الدار وقوفاً. مدينة تمتلأ مسارحها القليلة بجمهور يعيش على الأمل، لا شكّ في أنها انتصرت ولو مجازياً بلغة الفن على همجية الحربّ!
المشوار إلى «دار الأوبرا» هذه الأيّام لحضور «أمسية الخريف» للموسيقي السوري خالد خالد (الصورة) وفرقته سيكون مختلفاً عن كل تفاصيل المدينة الشاحبة. الصرح الحضاري ما زال مشعّاً بالأضواء والترتيب، والذوق التصميمي الرفيع. تختلف الأمور قليلاً هنا كون السيارة تتعرض لأربع مراحل تفتيش دقيقة، اثنتان منها من خلال أجهزة الكترونية. يختلف تعاطي عناصر الجيش والأمن الموجودين هنا. هم يعرفون بأنهم في «دار الأوبرا» وليس على حفة منطقة إرهابية. يسألون الجمهور بلطف إن كان هناك من يحمل سلاحاً، يدققون في الهويات وبطاقات الدعوة، ثم يتوّلى بعضهم تقديم المساعدة لمن يحتاجها.
الموعد مقدّس خلافا لبقية مسارح سوريا، يدير الممثل السوري علي صطّوف الدار بصرامة شديدة، فكما هو مقرر يبدأ الحفل في السابعة مساء، لا تنبس الفرقة ولا بكلمة واحدة، فقط أصابع خالد خالد تتحرّك بسرعة مذهلة. تتحول الصالة لما يشبه قصور الملوك المحاطين بالرفاهية. يضطّر عازف الغيتار السوري الكلام عندما يطلب من مهندس الصوت أن يعدّل قليلاً في إعداداته. تعود المعزوفات لتنبض واحدة تلو الأخرى، تتوحد اللآلات في مدلولاتها، تنسجم في هارموني عال المزاج، نستمع للفلامنكو والكلاسيكي يرافقان عازف الغيتار الأساسي في الفرقة. على الغيتار أيضاً أحمد العش، وكنان شاهرلي، وعلى الكمان جميل البيطار وعامر الداكشلي، وعلى البيانو أحمد الداكشلي، أما الإبقاع فهو لسيمون مريش والكونترباص وسيم قاسم.
هنا توليفات مختلفة لموسيقيين عالميين منهم الاسباني فيكتور مونج، وتولفيات أخرى لمجموعة مقطوعات أدّتها فرق عالمية منها Santa Esmeralda . تمرّ بعض المقطوعات في حالتها العاطفية وتصل حدود التصوّف القصوى وتلامس أجواءه. كلنّا ينتظر بأن يرافقها صوت بشري في ابتهالات وأدعية حتى يكتمل الابتكار الموسيقي.
يمزج خالد خالد بين التقليدية، والمسحة المعاصرة التي يقدّمها. كأنه يقصد التجديد، في الأسلوب والأنماط المعتادة.
في حديثنا معه، يقول بأن آخر حفلة له كانت في 14/3/2011أي قبل إندلاع الأزمة. منذ ذلك الحين حتى اليوم، أين كنت كل هذا الوقت؟ يرد: «كنت نائماً». هكذا، يعتبر صاحب المعهد الموسيقي الذي يحمل اسمه بأن حفلته هذه هي «عنوان مرحلة جديدة سأطرح أعمالي التي أخشى أن تسرق، وسأجد طريقة للحماية الفكرية، فقوانين الحماية لدينا لا تطبّق، والسوشال ميديا تخلق فوضى على هذا الصعيد، لكنني سألتحق بها، ولأكون طماعاً، لن أكتفي بالوطن العربي فقط، بل سأتوجه للعالم كلّه». أخيراً يخبرنا بأن بعض أفراد فرقته تتلمذوا على يديه قبل أن يصبحوا أساتذة.
الحديث يطول قبل أن يقطعه صوت آلات البروفة لفرقة ثانية، يفاجئنا الموسيقي العراقي السوري رعد خلف وهو يقول: «اعتدت أن أراكم من خلف شاشات الكمبيوتر، وليس في الشام» يودّعنا بخبر تحضيره لأمسية «أوركسترا ماري» (الأوركسترا النسائية») غداً وبعد غد على المسرح ذاته.
وسام كنعان
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد