أسئلة القلق قي السمفونية الثانية لماهلر

05-07-2007

أسئلة القلق قي السمفونية الثانية لماهلر

لا شك في أن سيمفونية غوستاف ماهلر الثانية والمعنونة «القيامة» هي الأشهر بين أعماله جميعها، بل كذلك الأكثر عمقاً. صحيح أن هذا العمق ما كان يمكن له أن يكون متناسباً مع الشهرة الاستثنائية التي حازتها هذه السيمفونيةغوستاف ماهلر (1860 – 1911)، طالما اننا نعرف عادة أن كل ما هو عميق وشديد الجدية لا يستهوي الجماعة بل يظل محصوراً في النخبة، ومع هذا تمكنت السيمفونية الثانية لماهلر من أن تفرض نفسها، وربما تحديداً بفضل «اكتشاف» النخب لها باكراً، وتواصل الحديث عنها، أحياناً، من خارج دائرة الكلام الفني. نقول هذا ونحن نفكر بالكثير من الكتابات، عن ماهلر، التي ربطت بين السيمفونية الثانية هذه، وبين السيمفونيتين الأولى والثالثة للفنان نفسه، انطلاقاً من أن هذه الأعمال معاً، بقدر ما عبرت عن تجديد جمالي فني، عبرت كذلك عن معاناة وجودية مرتبطة بالإيمان المسيحي، ناهيك بأن في هذه السيمفونية جوانب – منها الكورال والغناء الفردي في حركتها الأخيرة – تذكّر بالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، أشهر سيمفونيات تاريخ الموسيقى على الإطلاق. فإذا أضفنا الى هذا كله تغني السيمفونية الثانية بالطبيعة، على غرار «باستورال» بيتهوفن يمكننا أن ندرك، بسهولة، سر شعبية «سيمفونية القيامة».

> لحَّن غوستاف ماهلر سيمفونية القيامة بين العامين 1888 و1894، أي حين كان لا يزال في شرخ شبابه... ما يعني – وهذا ما يدل عليه رقمها على أي حال – انها كانت ثاني سيمفونية يكتبها هو الذي أنجز، على غرار سلفه الكبير بيتهوفن تسع سيمفونيات، وأبقى واحدة ناقصة هي العاشرة، على شاكلة سلفه الكبير الآخر فرانز شوبرت. وإذا كان ماهلر قد أعاد النظر في «سيمفونية القيامة» سنة 1903، أي بعد خمس عشرة سنة من بدء تلحينها فإنه، في الحقيقة، لم يدخل عليها تعديلات جذرية، كل ما في الأمر انه ضبط توازنها، وأضفى عليها بعض التجديدات على ضوء ما كان صار عليه إبداعه الموسيقي خلال العقد الأخير من حياته. ولا بد من أن نذكر هنا أن هذا العمل، على رغم اكتماله، في اداء يتراوح بين 70 و80 دقيقة، منذ العام 1894، لم يقدم للمرة الأولى إلا في آذار (مارس) 1895، بالنسبة الى الحركات الثلاث الأولى، فيما لم يقدم مكتملاً إلا بعد ذلك بتسعة أشهر، في برلين. مهما يكن فإن لتأليف هذه السيمفونية حكاية يفترض بالمستمع معرفتها كي يتمكن من الدخول في شكل أعمق وأفضل في ثنايا عمل موسيقي تميز دائماً بصعوبة دخوله، بسبب تشعب «برنامجه الموضوعي». والحكاية تبدأ سنة 1888 حين كتب ماهلر أول الأمر، قصيدة سيمفونية عنوانها «احتفال جنائزي»، انطلاقاً من قصيدة ملحمية للشاعر البولندي آدام ميكيفتش. أنهى ماهلر هذه القصيدة آخر ذلك العام، لكنه ما أن أنجزها حتى وجد أن في إمكانه أن يحولها الى سيمفونية، غير أن إدارة الأوبرا الملكية في بودابست لم تعطه الوقت الكافي لذلك، فاكتفي بتقديمها بنسختها القصيرة، وهنا حدث أن قائد الأوركسترا هانس فون بيلو كان هو الذي سيتولى إدارة عزفها. وهو ما إن «اكتشفها» حتى رفضها تماماً. على الفور استعاد ماهلر العمل وقرر أن يوسعه ويحوله الى سيمفونية ذات حركات متعددة. وهو ما بدأه بالفعل في صيف العام 1893، حيث لحن الحركتين الأوليين، ثم وضعهما جانباً وقد قرر أن ينتظر بعض الوقت لأنه لم يكن راضياً عما أنجز. وفي العام التالي مات فون بيلو. وفيما كان ماهلر يحضر جنازته ويستمع الى أغنية «البعث» التي وضعها فردريتش غوتليب بالمناسبة، قفزت سيمفونيته الى واجهة تفكيره وقرر أن يعود اليها وقد أدرك كيف سيكملها بل حتى كيف سيختتمها... لقد وجد، إذاً، الحل الذي كان يفكر فيه منذ فترة: سيستخدم الغناء الكورالي للتعبير عن معاناة فون بيلو قبل رحيله.

> غير أن ماهلر قرر في الوقت نفسه أن يضع لهذا العمل الذي سيكتمل الآن بين يديه، برنامجاً موسيقياً وضعه في رسم أصدقائه من دون رغبة منه في أن يقدم العمل أمام الجمهور العريض. وما هذا إلا لأنه أخذ منذ البداية كل حريته في إضفاء طابع فلسفي – وجودي – ديني على سياق العمل ككل. فالحال أن ماهلر لم يكن ليتوقف في ذلك الحين، وفي شكل أكثر حدة، منذ موت فون بيلو، عن طرح أسئلته على نفسه حول الحياة والموت والألم والفرح. وكان ثمة سؤال يشغل باله دائماً هو: هل هناك حياة بعد الموت؟ وهكذا صار برنامج السيمفونية واضحاً في نظره: الحركة الأولى ستصور التساؤلات الوجودية الميتافيزيقية، كي ينتقل بعد ذلك، في الحركة الثانية (وهي «آندانتي موديراتو» تتلو «آليغرو» الحركة الأولى)، الى استذكار بعض أجمل اللحظات من حياة الراحل. ويقيناً ان تلك اللحظات هي التي تقود الفنان الى نوع من الشك في كل شيء. فإذا كانت السعادة هشة الى هذه الدرجة، وإذا كانت المعاناة هي الأساس... ما الذي يبقى من إيمان المرء بهدوئه ودعته؟ هذا هو السؤال الذي يطغى على الحركة الثالثة (وهي حركة «سكيرزو» وتعتبر من أقوى ما كتب ماهلر في هذا المجال). لكن الموسيقي سرعان ما يستعيد إيمانه وبقوة، في الحركة الرابعة التي تدور من حول الإحياء والبعث، ولسان حالها الأول يقول: «لقد جئت من عند الرب والى الرب سأعود». وإذ يستعاد الإيمان على هذا النحو البريء والعفوي، يصبح في الإمكان الوصول الى الحركة الخامسة والختامية، حيث القيامة والحساب والبعث وخلود الروح.

> هذا هو البرنامج الذي ارتآه غوستاف ماهلر لسيمفونيته هذه. السيمفونية التأملية، التي إذ نسمعها اليوم بعناية، يصعب علينا أن نصدق أنها يمكن أن تكون من تأليف شاب لم تكن سنه تتجاوز الثامنة والعشرين حين لحنها، محاولاً فيها ليس فقط طرح أسئلة وجودية والتعبير عن عودة فرحة الى الإيمان، بل كذلك – وفي شكل خاص – الوقوف نداً لأستاذه الكبير بيتهوفن في كتابة هذا النوع التأملي الميتافيزيقي من السيمفونيات.

> على رغم أن «سيمفونية القيامة» تعتبر اليوم، أشهر أعمال ماهلر، فإن إعادة اكتشافها حقاً لم تبدأ إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. والواقع أن ذلك كان مصير كل أعمال ماهلر، الذي خلال النصف الأول من ذلك القرن، كاد النسيان يطويه ويطوي أعماله، قبل أن يُكتشف متأخراً مدى ما في هذه الأعمال من حداثة وتجديد، بل خط انتقال الى الحداثة الموسيقية بالمطلق. وهكذا في مقابل كلود ديبوسي الذي كان رفض مشاهدة تقديم السيمفونية الثانية هذه، في تقديمها الباريسي الأول، نجد قائد الأوركتسرا كلوديو آبادو يختارها في سنة 1965، ليجعل منها بداية عروض مهرجان سالزبورغ لذلك العام.

> عاش غوستاف ماهلر، النمسوي من أصول بوهيمية بين 1860 و1911، وعرف طوال حياته مؤلفاً موسيقياً – قد يعتبره كثر آخر الكلاسيكيين – وقائد أوركسترا. وهو كتب بعض أشهر الأغنيات (الليدر) في تاريخ الموسيقى النمسوية، إضافة الى سيمفونياته التسع ورباعية مبكرة للبيانو، ووصفت مؤلفاته بأنها تنتمي الى أسلوب ما – بعد – الرومانسية. ولقد وضع عنه كتاب كثر كتباً ودراسات، كما أن توماس مان استوحى من شخصيته الشخصية الرئيسة في روايته «موت في البندقية». ومن هنا لم يكن غريباً أن يستخدم الإيطالي لوكينو فسكونتي موسيقى ماهلر، ولا سيما بعض مقاطع سيمفونيته «التيتان»، لتزيين مشاهد الفيلم الذي اقتبسه عن الرواية.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...