أردوغان يحتمي من العسكر التركي بأميركا
بعد صدور الأحكام القضائية على الجنرالات الأتراك في «قضية المطرقة» التي كانوا يخططون عبرها للإطاحة بحكومة رجب طيب اردوغان في العام 2003، ارتفع التساؤل عما إذا كانت مرحلة «الوصاية العسكرية» في تركيا قد طويت إلى الأبد، أم أن البلاد لا تزال أمام مخاطر عودة الجيش لممارسة نفوذ في الحياة السياسية.
وجاءت الأحكام القاسية على الجنرالات والعسكريين المتهمين، والتي طالت 330 عسكريا لتعكس رغبة السلطة السياسية في توجيه رسائل قوية إلى من تبقى من القادة العسكريين الحاليين كي لا تسول نفس احدهم أن يكرر تجربة التدخل في الشؤون السياسية.
لكن، كيف وصل الجيش التركي إلى هذه الحال من الضعف بعدما كان الآمر الناهي منذ العام 1960 إذا استبعدنا فترة حكم أتاتورك بين العامين 1923 و1938؟
وقبل الدخول في عرض العوامل يجب التأكيد أن كل خطوة من اجل إضعاف النزعة العسكرية لمصلحة السلطة المدنية والسياسية في أي بلد هي أكثر من ايجابية، باعتبار أن شرعية أي سلطة تستمد من الشعب والانتخابات الشعبية. والمؤسسة العسكرية يجب أن تكون خاضعة للسلطة السياسية المنتخبة، ولا يحق لها كونها تمتلك السلاح أن تستخدمه ضد الشعب، لأنه وجد من اجل الدفاع عن الحدود ووفقا لتعليمات السلطة السياسية.
لقد ساعد على إضعاف النفوذ العسكري في تركيا أكثر من عامل:
1- شهدت تركيا في العامين 2003 و2004 عملية تنمية سياسية لتعزيز الديموقراطية والحريات في تنسيق كامل مع الاتحاد الأوروبي، ونجحت في نهاية هذه الحقبة ببدء مفاوضات مباشرة للدخول إلى الاتحاد الأوروبي. ولم يكن ممكنا استثناء تدخل الجيش في السياسة من هذه العملية، خصوصا انه مطلب أوروبي.
2- انطلقت تركيا في الفترة نفسها في عملية تنمية اقتصادية، حققت مع الوقت انجازات مهمة لجهة النمو وارتفاع مستوى الدخل الفردي، ضاعف من شعبية حزب العدالة والتنمية وانعكست في انتخابات العامين 2007 و2011 النيابيتين، وهو ما شكل درعا شعبيا لحزب العدالة والتنمية مكّنه من المضي قدما في تصفية نفوذ المؤسسة العسكرية. وكان من أبرز محطاتها الاستفتاء الذي جرى في 12 أيلول العام 2010، وعرف تقليص النفوذ العسكري في الدستور والقوانين، ومن أهمها إمكان محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية حتى لو كانوا لا يزالون في الخدمة. واستكملت عملية التصفية بإجبار القيادة العسكرية مجتمعة في تموز العام 2011 على الاستقالة، وتعيين قيادات جديدة ذات تبعية كاملة لسلطة حزب العدالة والتنمية.
3- في موازاة ذلك كانت إصلاحات 12 أيلول العام 2010 تنسحب على السلطة القضائية، التي باتت في يد حزب العدالة والتنمية بعدما كانت درعا صلبا للعلمانيين والجيش، ما سهّل إصدار الأحكام القضائية الأخيرة وفقا لما يريده حزب العدالة والتنمية.
4- لكن هذه العوامل الداخلية لا يمكن أن تلغي دور العامل الخارجي في مسيرة إضعاف النفوذ العسكري في السياسة.
ومن المعلوم للجميع أن جميع الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا كانت تحمل عبارة «صنع في أميركا». وكانت تستهدف دائما إما رئيسا «ضلّ» عن الطريق مثل عدنان مندريس، وإما ملء فراغ عجز السلطة السياسية عن مواجهة الحركات اليسارية في الشارع كما هي حالة انقلابي 1971 و1980. أما انقلاب 1997 الأبيض فاستهدف سياسات نجم الدين اربكان الذي اظهر تقاربا مع إيران وليبيا.
ومع بدء الاستعدادات لغزو العراق مطلع العام 2003 قدمت حكومة عبد الله غول، وكان اردوغان رئيسا للحزب ولم يكن بعد نائبا، مذكرة للبرلمان بالسماح للأميركيين باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق. لكن المذكرة سقطت في البرلمان، رغم تأييد غالبية نواب العدالة والتنمية لها.
وقد ألقت واشنطن عبر نائب وزير الدفاع حينها بول وولفوويتز باللائمة على رفض المذكرة على الجيش التركي الذي رفض ضمنا المذكرة. وبعد ذلك بسنوات حمّل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الجيش التركي مسؤولية سقوط قتلى أكثر من الأميركيين في العراق، لأن أنقرة لم تكن شريكا في الحرب. لذلك عندما أعدت «خطة المطرقة» من جانب الجنرالات للإطاحة بحكومة اردوغان وقفت واشنطن معارضة لها، فلم تنجح في أن تترجم إلى واقع. وكان أن وقع الجنرالات أسرى التسريبات الأميركية إلى الحكومة، فاعتقلوا لاحقا وحوكموا وسجنوا.
5- الغضب الأميركي على المؤسسة العسكرية لا يفسر وحده الموقف الأميركي من الجيش التركي. إذ بموازاة هذا الغضب كان حزب العدالة والتنمية يوفر لواشنطن «نموذجا» لما يسمى «الإسلام المعتدل» مباشرة بعد هجمات 11 أيلول، وفرصة لتبرير الولايات المتحدة حربها على «الإسلام غير المعتدل» أي تنظيم «القاعدة» وأخواتها. لذا كانت حماية سلطة حزب العدالة والتنمية، بل تقويتها، من أولويات إدارة الرئيس السابق جورج بوش ومن ثم باراك أوباما.
وفي وقت كانت تركيا تنتهج سياسات انفتاح على الجيران، وفقا لسياسات «صفر مشكلات»، فهي لم تغادر أصلا تحالفاتها مع الغرب «الأطلسي» ولا سيما الولايات المتحدة، وصولا إلى الموافقة على نشر الدرع الصاروخي في تشرين الثاني العام 2010، ولم يكن «الربيع العربي» قد بدأ بعد. وعندما بدأت «الثورات» في العالم العربي جهدت واشنطن في أن يكون مثال حركات الإسلام السياسي فيها هو الإسلام التركي، وبالتحديد نموذج حزب العدالة والتنمية الذي قام، بناء لطلب أوباما، بـ «واجباته» كاملة في التكافل والتراضي مع الرئيس المصري الجديد محمد مرسي في تسكين الشارع الإسلامي ومنع القيام بتظاهرات احتجاجية على الفيلم المسيء للإسلام والرسول، ما استدعى شكرا وتهنئة مباشرين من أوباما على ذلك.
إن غضب واشنطن على الجيش التركي، واستفادتها الكاملة من «النموذج التركي»، هما من أهم العوامل التي وفرت الظروف لتصفية نفوذ الجيش في الحياة السياسية. وليس مستغربا أن معظم القيادات العسكرية التي عارضت مذكرة الحكومة في الأول من آذار العام 2003 هم الآن في السجن، بموجب قضية «المطرقة» وقضايا أخرى تنتظر إصدار الأحكام.
والسؤال المطروح بقوة هل انطوت فعلا صفحة الانقلابات العسكرية في تركيا بعد كل هذه التطورات؟
رغم التقدم الهائل على هذا الصعيد، فإن الإجابة لا يمكن أن تكون جازمة في هذا الاتجاه أو عكسه. إن ذلك مرتبط أيضا بجملة عوامل منها استمرار عملية الإصلاح السياسي وتعزيز الديموقراطية والحريات. ولعل توقف المسار على الطريق الأوروبي سيترك أثره على استمرار هذه العملية، خصوصا أن التضييق على الحريات يتزايد، وان النزعة الديموقراطية في معالجة المشكلة الكردية تتراجع، ليحل بدلا منها الانحياز التام للخيار العسكري في حلّها، كما هو حاصل الآن.
كما أن النمو الاقتصادي بدأ يتعرض للتعثر مع فرض ضرائب كبيرة على بعض المنتجات، ولا سيما البنزين، حيث بات الوزير المسؤول عن الاقتصاد علي باباجان يتعرض لانتقادات من داخل حزب العدالة والتنمية، بعدم النجاح في إدارة الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم مع الخسائر التي سببتها الأزمة السورية للاقتصاد التركي، والتأثر في النهاية بالأزمة الاقتصادية العالمية، وتراجع الصادرات التركية والاستثمارات الغربية في تركيا. وهي كلها عوامل يمكن أن توفر أرضية للتململ الاجتماعي ينفذ منها العسكر.
كما أن استمرار الدعم الأميركي لحزب العدالة والتنمية ليس مضمونا في حال وجدت واشنطن أن «وظيفة» الإسلام السياسي في تركيا قد انتهت، ولم تعد تخدم المصالح الأميركية كما يجب. وأبرز مثال على ذلك رئيس الحكومة التركية والزعيم غير المنازع في الخمسينيات عدنان مندريس، الذي كان ذا ميول إسلامية، وخدم المصالح الأميركية كما لم يخدمها زعيم تركي قبله وبعده. ومع ذلك عندما أظهر رغبة في تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي، وعزم على زيارة موسكو، كانت واشنطن له بالمرصاد، فنفّذت انقلابا عسكريا ضده في 27 أيار العام 1960، قبل شهرين فقط من زيارته المقررة لموسكو، وانتهى بعد أقل من سنة على حبل المشنفة مع وزير خارجيته فاتن رشدي زورلو.
ويدرك قادة حزب العدالة والتنمية العامل الأميركي جيدا في مسألة بقائهم في السلطة من عدمه. لذا هم لا يوفرون فرصة إلا ويبدون فيها انسجامهم الكامل مع السياسات الأميركية، حتى لو كانت على حساب تصفير العلاقات الجيدة مع الجيران، والاستجابة لطلبات أوباما بشأن الفيلم، على حساب مشاعر الشارع الإسلامي في تركيا.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد