أدونيس: مكان آخر بين المعارضة والموالاة (2)
- 1 – إذا كان الإبداع نقداً، فإن في كل نقد حقيقي بعداً إبداعياً. ربما لهذا، يجد كثيرٌ من المبدعين أنهم، بطبيعة رؤيتهم، أكثر ميلاً الى نقد المعارضة، بعامة، ويسارها بخاصة، منهم الى نقد «الموالاة». ذلك أنهم لا يُعنون إلا بالأكثر دلالة: بالقوى الفكرية والاجتماعية التي يفترضون فيها أنها تمثل الطاقة الأكثر حيوية في المجتمع، وتجسد الحِس الأكثر علواً بالمسؤولية الثقافية والإنسانية والعملية. ونقدها، إذاً، ليس إلا نوعاً من الضوء يُشعله المبدعون أمامها، أملاً في أن تفيد منه، في شكل أو آخر، في الفهم والإحاطة، وفي حُسن الرؤية والتخطيط والعمل. ويمكن أن نَصِف هذا النقد بأنه امتدادٌ للنقد الذي يُمارسونه على أنفسهم، وعلى نتاجهم، وعلى أفكارهم وأعمالهم، لكي يُتقنوا أكثر فأكثر، توغّلهم في مناطق البحث والكشف.
نُضيف أن من طبيعة الرؤية التي يعيشها المبدعون، كل في ميدانه، أنهم لا يحبّون الانخراط في كل ما يقربهم الى السياسة اليومية، أو يدمجهم بها، أو الى أي نشاط سياسي ذي طابع ايديولوجي مباشر. خصوصاً أن المشكلة الأساسية التي يجب أن تُعنى بها المعارضة، ويُعنى بها يسارها على الأخص، لا تتمثل كما يرى هؤلاء المبدعون، في الجانب السياسي من النظام القائم، في الحكومات وآلياتها. فهذه، تدليلاً على ذلك، تغيّرت كثيراً في الخمسين سنة الأخيرة، ولم يتغير أي شيء أساسي. على العكس: ازدادت الأمور سوءاً. المشكلة الأساسية التي ينبغي أن تواجهها قوى اليسار المعارض، تكمن في الأسس الثقافية التي تنتج النظام، أو تؤدي الى انتاجه. وبما أن السياسة جزء من الثقافة، فإن اهتمام المبدعين يتمحور حول الثقافة، لا حول السياسة: حول الأساس والكل، لا حول الفَرع والجزء.
- 2 –
تظهر التجربة، منذ خمسينات القرن المنصرم، أن المعارضات العربية تُماهي، كمثل الحكومات التي تعارضها، بينها وبين اللغة، بينها وبين الفكر، بينها وبين الزمن، وبينها وبين الشعب. هكذا تبدو المعارضة والسلطة كأنهما جِسمان في ثوب واحد، وإلا:
كيف تكون السلطة «توحيدية»، ولا تكون المعارضة «تعددية»؟
وكيف تكون السلطة «دينية»، ولا تكون المعارضة «عقلانية، علمانية، مَدنية»؟
وكيف تكون السلطة «تسلّطاً»، ولا تكون المعارضة «ديموقراطية»؟
وكيف تكون السلطة بلا «ثقافة»، لكن، ما «ثقافة» المعارضة؟
إذاً، ما معنى أو ما قيمة معارضة لا تتميز عن السلطة إلا بهاجس واحد: طردها، والحلول محلها؟
- 3 –
أن يكون النظام القائم في هذا البلد العربي أو ذاك على خطأ، أمرٌ لا يفترض بالضرورة، أو بصورة آلية، أن تكون مواقف المعارضة جميعها على صواب. وإذا كان النظام قابلاً للنقد والاعتراض، فإن المعارضة قابلة هي كذلك للنقد والاعتراض. إن تشنج المعارضة إزاء النقد وإصدارها الأحكام المتعسفة الجائرة ضد الذين ينقدونها، شبيه بتشنج السلطة إزاء نقدها.
فبأي حقِّ، أو بأية ديموقراطية تتشبه المعارضة بالسلطة، وتضفي على نفسها «قُدسية» مقابلة لتلك التي تضفيها السلطة على نفسها؟
وطبيعي أن نقد المعارضة ليس «معصوماً»، لكن ناقدها في المقابل، ليس دائماً على خطأ. إن مواقف بعضهم – أولئك الذين يُسارعون الى تكفير أو تخوين كل من يتجرأ على النقد، سواء توجه الى السلطة أو الى المعارضة، ليست إلا شكلاً عالياً من أشكال الإرهاب، فكرياً وسياسياً. وإذا كانت المعارضة تستمد شرعيتها من مبادئ الحقوق السياسية، فإن نقد المعارضة، أو نقد بعض أساليبها وأفكارها ومواقفها، إنما هو كذلك حق يقوم على المبادئ نفسها. أما المسارعة الى «وصم» هذا الشخص أو ذاك، لأنه على علاقة من الصداقة أو القرابة مع هذا الشخص أو ذاك في السلطة أو في المعارضة فهي من مُخلَّفات زمن كان فيه همُّ أهل السياسة اصطياد الخصوم بشبكة بائسة من الاتهامات. وهو زمن يبدو، ويا للأسف، أنه لا يزال متواصلاً.
إن أسوأ ما في السجال السياسي العربي يتمثل في النزوع الى «تخوين» الخصم، وفي «تصنيف» الخصوم السياسيين والفكريين في «خانة» ما نكره أو ما نعارض. عايشنا هذه الظاهرة منذ خمسينات القرن الماضي، ونعايشها اليوم لا في لبنان وحده، وإنما في البلدان العربية كلها، ولا في أوساط السياسة وحدها، وإنما كذلك في أوساط الثقافة. إن في هذا ما يهبط بمستوى السلطة والمعارضة، سياسياً وفكرياً، وما يطرح سؤالاً كبيراً على مشروعية كل منهما، أخلاقياً وديموقراطياً.
- 4 –
من الظواهر الغريبة في المعارضات العربية (اليسارية، إجمالاً) أن للمؤسسات الدينية مكاناً فسيحاً وخصباً بين أحضانها. أقول: «المؤسسات» لكي أميّز بينها وبين الأفراد المتدينين. فلا أعترض على هؤلاء إذا عملوا في السياسة بوصفهم أفراداً. فالتدين حقٌّ يجب الدفاع عنه. غير أنني أقفُ ضد «المؤسسة الدينية»، رافضاً أن تمارس السياسة بوصفها «مؤســـسة دينية». هكذا تتيح المعارضة العربية أن يــــنشأ الارتداد الى الوراء في مناخ يقوم خــــطابه على الاندفاع الى الأمام. الأمــثلة كثيرة. خصوصاً في العراق وسورية ولبنان. كيف توحّد المعارضة بين قطبين متنافرين، متناقضين؟ كيف تستسلم – فتعالج «ظلمة» الحاضر، بماضٍ «منطفئ»؟ كيف تقبل أن يُصنع «عطر» الواقع من «أزهار» ليست إلا ركاماً من الحُجب على الواقع؟
ألا تُثبِتُ المعارضة في ذلك أن نظام «العمل» و «الفكر» فيها، ونظام «العمل» و «الفكر» في السلطة بِنْيَةٌ واحدة؟ ألا تؤكد أن الزمن في كليتهما نفقٌ لا يؤدي الخروج منه إلا الى نَفَق آخر؟ ومع أنه نفق يقول: ليس الفقر في الحاضر إلا جوعاً في المستقبل، فإن هنالك فارقاً، على مستوى الظاهر، في الخطاب يجب أن نلاحظه لكي نلاحظ مدى العبث في هذا التضاد – التوافق: تجيء السلطة من الوراء، باسم «الأصول»، إجمالاً، وتجيء المعارضة من الأمام، باسم «الحداثة»، إجمالاً، لكن في نفقٍ واحد.
وكلٌ منهما تدّعي أنها تُؤسس للمستقبل، لأرضٍ اجتماعية وسياسية جديدة، لكنها تنام وبين يديها كتابٌ في وصف «الجنة».
ادونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد