أدونيس في مؤتمر الحوار الثقافي العربي- الألماني
- 1 –
يذكّرنا معجم «لسان العرب» أن الكاتب إذا كَبَتَ ذاته في كتابته، فذلك يعني أنه «يصرعُها» و «يخيّبها» و «يُذِلها». خصوصاً أنّ الكاتب «هو من عنده العلم والمعرفة»، كما يذكرنا أيضاً هذا المعجم العربي.
أن تكتب، إذاً، هو ألاّ تكبُتَ.
كَتَبَ، كَبَتَ، بَكَتَ: ثلاثة حروفٍ تتشكل منها ثلاثة أفعال يتناقضُ أحدها مع الآخر، على نحوٍ جذريّ.
من جهة، تُعَدُّ الكتابة «إثماً» ضد الذات، إذا كَبَتَتْ ما فيها.
ومن جهة، تُعدّ «إثماً» ضد التقاليد، بمختلف أنواعها، إذا لم تكبُتْ الذات وما فيها.
لكن، هل يكتب، حقاً، من يكْبُت؟
نُشير، استطراداً واستكمالاً، الى أن فعل «بَكَتَ» يعني: وبَّخ، وعنَّفَ، وضَرَبَ (بالعصا، أو بالسيف)، والى أن «بكَّتَهُ» فعلٌ يعني «استقبلَهُ بما يكره».
كَتَبَ، كَبَتَ، بكَتَ.
نقول، إذاً، تكون الكتابة خَرْقاً للكَبْتِ في جميع أنواعه ومستوياته، أو لا تكون إلا «عبدةً»، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً. لا فاعلية لها، لا كينونة لها، وخارج عالم الصيرورة.
- 2 –
كنتُ أميل الى الظن، منذ سبعينات القرن الماضي، أنّ في الحركة الفلسطينية ما يَرُجُّ السُّبَات العربي، السياسي والثقافي والاجتماعي. غير أن التجربة الحية كذّبت، ويا للأسف، هذا الظن.
وتلك هي الحركة السياسية – الثقافية العربية تبدو كأنَّها جسمٌ ضخمٌ قلّما يتحركُ إلا لغايةٍ واحدة: أن يلتهم بعضه بعضاً، وقلّما يفكر ويكتب إلا لغاية واحدة كذلك: أن ينفيَ بعضه بعضاً، أو «يكفّر» بعضه بعضاً.
ثمة إذاً خللٌ كبير: إما أننا لا نعرف أصوله وأسراره، وهذه طامّةٌ كبيرة. وإما اننا، على العكس، نعرفها، لكن لا يجرؤ، أو لا يُتاح لأي منا، بحجة أو بأخرى، أن يجهَرَ بها، وتلك هي الطامَّةُ الكبرى.
عليَّ هنا أن أسارِعَ الى القول إننا كُنّا، في الكتابة الأدبية والفكرية، وفي الشعر تحديداً، نستشِفُّ عند شخصٍ أو آخر، قبساً يدلُّ على ذلك الخلل، فيما يُحاول أن يُضيء الطريق الى تحرر الذات المكبوتة، وعلى أن تحرر الجماعة من الخارج لا يتمّ حقاً إلا إذا كان مؤسَّساً على تحررها في الداخل، ومن داخلها.
لكن، في التجربة الحية أيضاً، قولاً وعملاً، أخذت تغلبُ على الكتابة نزعة الوصول السهل، وتجرفها الرغبة في النجاح. وهذا أدَّى الى أن تقيم بينها وبين الناس جسوراً لما أسمّيه «رياء اللغة»، سياسة، وثقافة، واجتماعاً. وذلك بحجة القرب إليهم، والدفاع عنهم. هكذا أخذت تكتفي بالقُعود على عتبةِ «الجمهور»، في معزل عن المغامرات الكبرى التي تقتضيها الكتابة العظيمة، وتفرضها الرؤية الخلاّقة: مغامرات الكينونة، والهوية، واللغة، والجسد، والحرية، والآخر، والتشكيل، والأسئلة الإنسانية الكونية، إضافة الى مشكلات التراث – رؤية، ومعرفة، وممارسة.
وفي ذلك ما أدّى الى أن تبدو هذه الكتابات، وبخاصة الشعر، كأنها روضة أطفال. وإلى أن تبدو العروبة، تبعاً لذلك، كأنها ليست إلا توهُّماً. خصوصاً أنها في المخيّلة العامة حياةٌ أو الحياة كلها، غير أنها في الحياة العملية ذاتها، تفتّتٌ وانهيار.
إذا صحّ أن في كل إنسان شخصين: طفلاً وبالغاً، فإن الثقافة العربية السائدة تقتل في العربي الجانب البالغ الراشد، مُصِرّة على أن تُبقيَهُ طفلاً. ويدعم هذا الإصرار حلفٌ سياسيٌ – دينيٌّ للتسلّط والهيمنة، وعمله الأول يتمثل في تدمير القوة الراشدة في الإنسان، يومياً، وعلى نحو مُنظَّم.
وها هي الثقافة العربية تبدو كأنها تدور في غرفة صغيرة ضيّقة، وتبدو كأنها تجسيدٌ لإرادة البقاء في سرير الطفولة.
يُخيَّل إليّ أن سماء العرب لو أنها تستطيع أن تكون امرأة، لكانت تسأل كل يوم، بلهفة وحيرة:
مَنْ هؤلاء الأبناءُ الذين ينتمون إليّ؟
أودّ بدوري أن أسأل هذه السماء:
هل سنقدر على الخروج من ذلك السرير، ومن تلك الغرفة الصغيرة، الضيقة؟
الأكثر فاجعة في سَيْرنا بين يدي هذه السماء أنّ عذاب أرضنا لم يعد يجيء من الماضي الذي تكوّنت فيه، هو وحده، وإنّما أصبح يجيءُ كذلك من الحاضر الذي تعيشه، ومن المستقبل الذي تتجه إليه.
- 3 –
لكن، هل أكتب «حول» هذا المؤتمر، أم انني بَعُدْتُ وشردت؟ أياً كان الأمر، سأقول: يتعذَّر فهم المجتمع العربي، معزولاً عن الكتابة التي لا تكبُت، وعن الشعرية العربية، وبخاصة شعرية ما قبل الإسلام.
ولئن صَحّت كلمة هولديرلن (الألماني): «الإنسانُ يُقيم شعرياً على هذه الأرض»، فمن الصحيح القول إن فهمَ الحياة العربية سيكون فقيراً وضحلاً بقدر ما ينفصل عن حَدْسِها الشعريّ. وفي هذا ما يُتيح القول، استكمالاً للدلالة العالية في عبارة هولديرلن: إن فهمَ الأرض، إنسانياً وحضارياً، يبدأ بالشعر، قاعدة وفضاء.
- 4 –
- ما الآنُ؟
- «الآنُ هو الليل»، يقول هيغل.
أدونيس
المصدر: الحياة
*مؤتمر الحوار الثقافي العربي- الألماني: عقد في دبي بين 26 – 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.
إضافة تعليق جديد