«شرق الفرات» السوري في خطط تركيا: «عفرين 2»؟
بين أخذ وجذب، تتوالى مؤشرات التصعيد التركي في شمال سوريا مستهدفةً في هذه المرحلة الشريط الحدودي «شرق الفرات». وتشير معلومات «الأخبار» إلى أن التصعيد مُبرمج سابقاً في إطار «خطة بعيدة المدى»، تهدف ظاهريّاً إلى «احتواء ارتدادات الحرب»، وفعليّاً إلى قضم مزيد من الأراضي السوريّة
«منطقة عازلة على امتداد الشريط الحدودي». هذا هو الهدف الذي وضعته أنقرة للمرحلة المقبلة من انخراطها في الملف السوري. يتركّز الاهتمام التركي ضمن هذا السّياق على مناطق «شرق الفرات» في الدرجة الأولى، ويُعدّ السعي إلى تحقيق الهدف المذكور ثالث الخطوات في إطار «خطّة بعيدة المدى تنشد احتواء ارتدادات الحرب السوريّة، ومحاربة التنظيمات الإرهابيّة» على ما تؤكّده مصادر تركيّة لـ«الأخبار» (من المعلوم أنّ «محاربة الإرهاب» في موازين أنقرة تعني في شكل خاص الملف الكردي). وكانت الخطوة الأولى قد تحقّقت على مرحلتين منفصلتين مثّلتهما عمليتا «درع الفرات» و«غصن الزيتون» اللتان ضمنتا احتلالاً مباشراً للمناطق الممتدة بين جرابلس و«ميدان إكبس» على الشريط الحدودي، وبين الأخيرة و«دير بلوط» بمحاذاة لواء إسكندرون. وتمثّلت الخطوة الثانية بـ«ترتيب أوراق إدلب بما يضمن المصالح التركيّة» (مرحليّاً على الأقل). وتطمح الخطوة الثالثة إلى «إنشاء منطقة عازلة في الإطار الجغرافي الممتد بين جرابلس والقامشلي»، وسواء «تمّ ذلك بموجب اتفاقات أو عقب عمليّات عسكريّة أيّاً يكن ثمنُها»، وفقاً للمصادر عينها. وعلى رغم أنّ التصعيد التركي الأخير في مناطق «شرق الفرات» ليس جديداً، فإنّ أهدافه المتوخّاة هذه المرّة تتجاوز بكثير كونَها مجرّد ضغوطات في سياقات عامّة، على ما توحي به المؤشرات المتوافرة. وجرياً على العادة التركيّة لم يقتصر التصعيد الأخير على الشقّ الميداني، بل اشتمل أيضاً على تكثيف لافت لتصريحات الساسة الأتراك، وبصورة تستحضرُ بدايات التحضير لغزو عفرين. في المقابل، تبدو «قوّات سوريا الديموقراطيّة» مطمئنّة (ظاهريّاً على الأقل) إلى أنّ الظروف في «شرق الفرات» مغايرة تماماً لما كانت عليه في عفرين، لا سيّما لجهة الحضور العسكري الأميركي الذي أنشأ قواعد احتلال عدّة في مناطق سيطرة «قسد». وعزّز تسيير «دوريات مشتركة» في المناطق الحدودية بين الجيش الأميركي وقوّات «قسد» من ثقة الأخيرة بأنّ واشنطن ليست في وارد غض النظر عن الخطط التركيّة. على أنّ قراءة معمّقة للمعطيات ستكون كفيلة بتبيان أنّ ليس لدى واشنطن ما تخسره إذا ما أفلحت أنقرة في تحقيق خطوتها الثالثة. وعلى رغم أنّ «قسد» قد أرسلت إشارات حول إيقاف العمليات ضد «داعش» إذا استمرّ التصعيد التركي، فإنّ تلك العمليات سبق لها أن توقفت إبّان الغزو التركي لعفرين من دون أن يُحدث ذلك فارقاً ملموساً. علاوة على أنّ مسألة تصفية «داعش» كليّاً لا تبدو حتى الآن أولوية أميركيّة حقيقيّة. وعلى امتداد السنوات الماضية أدارت واشنطن لعبة العداء بين أنقرة الأطلسيّة و«قسد»، بما يضمن إبقاء خيوط اللعبة في قبضتها ويتيح لها الإفادة من النقيضين وفقاً لأولويّات كلّ مرحلة.
وترى تقديرات تركيّة للوضع في «شرق الفرات» أنّ الأميركيين «لن يمانعوا الوصول إلى تسويةٍ ما، في نهاية المطاف». في الوقت نفسه تستبعد التقديرات معارضة موسكو أيّ خطوة من هذا النوع، لا سيّما أنّها «تستند إلى شرعيّة تتيحها ملاحق اتفاقيّة أضنة المبرمة مع دمشق». وتضع أنقرة في جملة خياراتها احتمال القبول بـ«منطقة منزوعة السلاح» داخل الأراضي السورية على طول الحدود بصورة تستحضر اتفاق «سوتشي» الخاص بإدلب. على أنّ استنساخ هذا السيناريو في شكل «شرعي» لا يبدو أمراً متاحاً في ظل انعدام فُرص وجود تفويض سوري لواشنطن، على غرار التفويض الذي تتسلّح به موسكو. ويقول مصدر سوري بارز لـ«الأخبار» إنّ «الوضع في تلك المناطق غير شرعيّ برمّته، فالقوات الأميركية هي قوّات احتلال، والقوّات المحليّة المتعاونة معها هي أدوات، والقوّات التركيّة قوّات غزو واحتلال بدورها». لا يُبدي المصدر أيّ قلق في ما يتعلّق بـ«مستقبل الجغرافيا السوريّة»، ويؤكّد أنّ «العلم السوري سيعود إلى كلّ شبر سوري في نهاية المطاف، وعلى كلّ من يشكّك بهذه النتيجة أن ينظر إلى الخريطة كيف كانت قبل عامين وكيف أصبحت اليوم».
«قسد»: ثقة حذرة
تحضر في كلام الناطق الرسمي باسم «قسد» كينو غابرييل ثقة حذرةٌ لدى الدخول في التفاصيل. يؤكد لـ«الأخبار» أنّ مقاربة التهديدات التركيّة لا يجب أن تتم من خلال تقييم مدى جديّة الأتراك، لأنّ الأساس «هو الصفقات والتفاوضات التي تحصل بين القوى العالمية والإقليميّة. وقد رأينا سابقاً كيف تم استبدال الغوطة بمنطقة عفرين، وقبلها مناطق من حمص وغيرها بمناطق جرابلس والباب، بصفقات بين روسيا وتركيا». يستبعد الناطق قيام «الولايات المتحدة بصفقات مماثلة، لأن قوات سوريا الديموقراطية أثبتت أنها القوة الفعالة الوحيدة في مواجهة إرهاب داعش، فيما فشل ما يسمى الجيش الحر الذي تبنّته تركيا». يضع غابرييل التصعيد التركي في سياق «محاولات لتغطية المشكلات والتناقضات الداخلية التي تعيشها، وقد حصل أمر مماثل بعد الانقلاب التركي الفاشل».
نُذكّر الناطق بتصريحات مشابهة سبق أن صدرت عن «قسد» عشيّة الغزو التركي لعفرين، ونسأل: «هل تعولون فقط على أن الأميركيين مختلفون». يتحفّظ عن الخوض في مقارنات بين واشنطن وموسكو، ويضع ذلك في إطار «المهاترات» غير المجدية. يقول: «كل الظروف مختلفة بين المنطقتين وبين المرحلتين»، ويضيف: «نحن نستبعد حصول هجوم فعلي، ولكن هذا لا يعني أنه مستحيل، ولا يعني أننا غير مستعدين وأننا لن نقوم بالدفاع عن شعبنا وأرضنا بكل ما لدينا من قوة وإمكانيات كما فعلنا في عفرين، والنتيجة ستكون رهناً بالمعارك ومجرياتها، إن حصلت».
فلتزوّدنا الدولة السوريّة بدفاع جوي
في إطار إجاباته عن أسئلتنا، يبدو لافتاً حرص «الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديموقراطيّة» رياض درار على استخدام توصيفي «الدولة السوريّة»، و«الحكومة السوريّة» مرّات عدّة. يشير إلى أنّ «تحضيراتنا مستمرّة للدفاع عن مناطقنا. وقد بدأت قوات التحالف بالرد على التهديدات من خلال مشاركتها في دوريات على الحدود مع قوات سوريا الديموقراطية، وهذا بداية نظرة جديدة للمنطقة». ويؤكد وجوب «عدم التسرع في الحكم على النتائج». يقول: «طالبنا الدولة السورية بتحمل مسؤولياتها من قبل في عفرين واليوم في هذه المناطق»، ويضيف: «من مسؤوليات الدولة السورية مساعدة قوات سوريا الديموقراطية في الدفاع عن المناطق، وتزويدها بالوسائل الدفاعية وبخاصة وسائل الدفاع الجوي في حال بدأت تحضيرات معارك حقيقية». يرى أنّ هذا الأمر في حال حدوثه سيعني «إشارات إيجابية لاستمرار التفاوض بيننا وبين الحكومة السورية من أجل مزيد من التقدم في التفاهمات حول المنطقة وباتجاه الحل السياسي النهائي». ويوضح أنّ المحادثات مع دمشق «توقّفت بعد اللقاء الثاني، ولكننا ما زلنا راغبين باستمراره في شكل هادئ وعبر لجان صغيرة من أجل فتح باب لحل المشكلات الآنية وفتح باب آخر لتفاهمات حول الملف الخدمي». يختم درار متمنيّاً وجود «سعي جاد من قبل الحكومة، لا على أساس الفرض والإخضاع، وإنما على أساس التفاهمات لأن هناك رغبة شديدة من قبل مجلس سوريا الديموقراطية ومن يمثّلهم في الوصول إلى حل إيجابي».
الأخبار - صهيب عنجريني
إضافة تعليق جديد