«التمدن الإسلامي» والسلفية الإصلاحية الشامية

16-02-2008

«التمدن الإسلامي» والسلفية الإصلاحية الشامية

لم تكن مجلة «التمدن الإسلامي» التي ظهرت في دمشق في القرن الماضي واحدة من تلك المجلات الإسلامية العادية، فقد ولدت في ظروف الاحتلال القاسية الذي كانت تعم بلواه تركة الخلافة العثمانية والعالم العربي على وجه الخصوص، وفي لحظة زمنية شهدت الأمة فيها تحولات تاريخية كبرى، منها بروز الدولة الوطنية، ونشوء مفاهيم جديدة سياسية وثقافية وفلسفية أدت واقعياً إلى التحول من الأممية الإسلامية إلى الوطنية.

إضافة إلى ذلك لم تكن الصحافة الإسلامية الشامية في مطلع القرن الفائت قد اكتسبت خبرة كافية بعد، إذ صدرت المجلة عام 1935م/1354ﻫ، أي بعد ربع قرن من صدور المجلة الإسلامية الشامية الأولى (الحقائق) عام 1910، والتي لم يدم صدورها أكثر من ثلاث سنوات. كل هذه العوامل جعلت ولادة مجلة مثل مجلة التمدن الإسلامي حدثاً مهماً في تاريخ الفكر الإسلامي في بلاد الشام، أو على الأقل في سورية على وجه التحديد.

دُونت هذه اللحظة التاريخية في افتتاحية العدد الأول للمجلة، فقد رأت المجلة أن «وهناً في الإيمان، وحزناً في الوجدان، وشجناً في العقائد، وقتاماً في الأرواح، وظلاماً في الأخلاق، وتهاوناً بحماية الشرف والأعراض، وتهافتا على مهاوي الفتنة والانقراض» في وقت مُلئ بـ «ويلات وفتن كقطع الليل المظلم، في وطن فقدت لدى كثير من أبنائه الحياة الفاضلة، وتداعت عليه الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، هكذا إذاً تموضع المجلة نفسها منذ البدء، فقد ارتأت لنفسها أن تتحمل بعضاً من أعباء إصلاح هذه العيوب التي انتشرت.

يحمل عنوان المجلة «التمدُّن الإسلامي» ذاته مغزى يستحق التأمل؛ إذ يعكس محاولة صريحة لتحقيق المعاصرة، فهو إذا يضع المجلة ابتداءًَ في إشكالية النهضة، وصراع الحداثة الغربية مع إرث الحضارة الإسلامية، فـ «التمدن» ليس إلا الترجمة العربية ـ التي كانت سائدة في ذلك الوقت - للتعبير الإنكليزي Modernism، والذي تُرجم لاحقاً بـ «الحداثة»، وإضافة «الإسلامي» إلى «التمدن» يعني تأطير التحديث بالنسق الفكري والثقافي الإسلامي، وهذا ما يجعل المجلة تطرح تصورها عن الإسلام على أنه «يعانق الأخلاق الحكيمة، ويوافق الفطرة السليمة، ويباحث العقل، ويحادث العلم، ويباري الترقي، ويجاري التمدن، ويلتمس الأصلح، ويوفق بين أماني المادة وآمال الروح، ويجمع القديم الصالح إلى الجديد النافع»، وقد جاء هذا التعريف الذي طلعت المجلة به على قرائها في عددها الأول تحت عنوان دال جداً على ما سبق، هو «آمالنا بالإسلام».

من اللحظة الولى إذا يبدأ ملمح سلفي بهاجس إصلاحي يمسك بالرؤية العامة للمجلة، والإصلاحية هنا لا علاقة لها بإصلاحية محمد عبده، بقدر ما هي إصلاحية كانت ضربت جذورها بملامحها الخاصة، فالمجلة لا تحد نفسها في إطار إسلام محلي، إنما تنطلق إلى أبعد من ذلك، تأخذ بالسلفية الإصلاحية إلى حدود جديدة عندما تنظر إلى «التمدن الإسلامي [بأنه] إنساني عام، ومجلته [كذلك] إنسانية عامة». ولكن على أية حال هذا في حدود الدور الوظيفي للمجلة الذي عرفته المجلة على غلافها بدءاً العدد الأول من السنة الثانية بأنه «بيان محاسن الإسلام والدعوة إليه والدفاع عنه»

ومن بين كتاب العدد الأول لا نكاد نعثر على شيوخ، فهم بين أديب وحقوقي وطبيب وصحفي ونقابي، لكن الأعداد التالية شهدت أقلام شيوخ كبار، مثل: محمد سعيد الحمزاوي (نقيب الأشراف ومفتي الحنابلة بدمشق)، والعلامة الدكتور مصطفى الزرقا، والدكتور معروف الدواليبي، والشيخ محمد ناصر الألباني، ومحب الدين الخطيب، والدكتور وهبي سليمان (غاوجي) الألباني، وعلي عبدالله الداغستاني، ومحمد علي الزعبي، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وغيرهم.

كما نلاحظ أن المجلة حرصت على حضور أقلام مختلفة الاتجاهات، خصوصاً الاتجاهات الأربعة الكبرى: الاتجاه الصوفي ممثلاً في أقلام مثل: سعيد النورسي «ترجمة عن التركية»، عبدالله عباس الندوي «الهند»، إحسان النمر، محمد كامل سرميني، والاتجاه السلفي ممثلاً في شكل بارز بكتابات وهبي سليمان الألباني، وناصر الدين الألباني، ومحمود غراب، ومحب الدين الخطيب، حامد التقي، وأبو الحسن الندوي، والاتجاه الحركي السياسي ممثلاً بكتابات: محمد شاكر الدولاني، محمد علي الزعبي، محمود مهدي استانبولي، حامد التقي.

وقد تعدى هذا الانفتاح الإطار السُّني في بعض الأحيان، فنشهد حضورا للشيعة ـ وإن كان ضعيفاً - ممثلاً بكتابات السيد محسن الأمين (لبناني عاملي نزيل دمشق) ويلاحظ أن هذا التنوع قد انخفض في السنوات الأخيرة؛ بسبب صدور مجلات أخرى لا تقل قيمة وأهمية عن مجلة التمدن الإسلامي، مثل مجلة حضارة الإسلام ذائعة الصيت (مؤسسها الدكتور مصطفى السباعي) والتي استقطبت الأقلام على قلتها، ومن ثم فقد تكررت أسماء الكتَّاب في شكل واضح حتى تكاد في بعض السنوات الأخيرة من عمر المجلة تكون حكراً عليها.

وقفت المجلة خلال مسيرتها ضد التطرف والتعصب بكل صورهما، كما كانت تؤكد مقاومة الحس الطائفي في العلاقات البينية، وعلاقات الجوار مع غير المسلم، كما اهتمت في سياستها بالوحدة الوطنية، بما ينسجم مع توجهاتها الفكرية نحو الأمن والسلام العام، وكما حرصت المجلة على تنوع اتجاهات كتَّابها، حرصت أيضاً على حضور أقلام نسائية، في شكل دائم؛ مثل: فتاة دمشق، صبحية حداد، زبيدة العقاد عابدين، وغيرهن، وهي بمجموعها مواقف لا تتفق مع نمط السلفية التقليدية على الإطلاق.

غطت المجلة مساحة زمنية بالغة الأهمية تمتد من زمن الاحتلال الفرنسي الذي انتهى بعد عقد من تاريخ صدور العدد الأول من المجلة؛ أي عام 1946، وشهدت عام النكبة 1948، واستقلال بلدان عربية وإسلامية، آخرها كان الجزائر وباكستان، وشهدت الدولة الوطنية وتجربة الحياة الديموقراطية في سورية، كما شهدت أول انقلاب عسكري في العالم العربي (قام به الضابط السوري حسني الزعيم عام 1949) وآخر انقلاب عسكري حتى الآن (عام 1970)، كما شهدت الحقبة القومية الناصرية ونكستها عام 1967، وشهدت الحرب الطائفية في لبنان مرتين: في الثلاثينات، ثم في منتصف السبعينات، ثم الثورة الإيرانية، ثم الأحداث الدامية في سورية نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات. كل ذلك مدَّها بموضوعات لا حد لها، ويلاحظ على المجلة أنها لم تترك قضية إلا وفتحت ملفها، وقدمت إسهامات فيها، وهي في كل ذلك تميزت بحس نقدي.

السمة النقدية للواقع الإسلام على أرضية العصر ومقتضايته هي الانشغال المستمر للمجلة منذ العدد الأول من المجلة مقال لـ إحسان سامي حقي، أمين سر المؤتمر الإسلامي الأوروبي في جنيف، بعنوان (الإسلام والمسلمون)، يتحدث عن أن واقع المسلمين يجعل مفهوم العالم الإسلامي لا ينطبق على المسلمين الآن إلا كتعريف جغرافي؛ وفي العدد الأول نفسه مناقشة للكاتب محمد سعيد العرفي، بعنوان «الجمود»، يبحث الجمود باعتباره سبباً رئيساً من أسباب «تأخر المسلمين عامة والعرب خاصة»، منطلقاً من أن أساس الجمود «تعطيل نعمة العقل»، وبعد أن يلقى باللائمة على المعاهد الدينية، ينتهي المؤلف في مقاله إلى قوله: «تاه المسلمون عن طريق الصواب، ولم يتسنَّ لهم أن يفحصوا الأمور بعين الحقيقة ويلموا شملهم ويجمعوا قوتهم المبعثرة؛ لأن الجمود قلب أذهان الكثيرين منهم، وفرقهم شيعاً وأحزاباً». هذا الكلام الذي يشبه إلى حد بعيد كلام محمد عبده في كتابه «الإسلام والنصرانية» سنجده متكرراً عبر صفحات ومقالات كثيرة، مع اختلاف النبرة من مقال لآخر، ومن وقت لآخر، وفي بعض الأحيان نجد نقداً للخطاب النهضوي ذاته، فمثلاً في «مج21» يكتب نقيب السادة الأشراف (في دمشق) الشيخ محمد سعيد الحمزاوي مقالاً نقدياً بعنوان «كيف نبدأ الإصلاح؟» يتحدث فيه عن الكتابة في الكوارث التي أحاطت بالمسلمين والعالم العربي، منتقدا إياها بأنها تفتقد «النظر الكلي الذي يعين لنا من أين نبدأ، والذي يعين لنا من أين ننتهي، والذي يخطط لنا هذه الطرق بين الابتداء والانتهاء»، وأنها لا تزال «في نطاق الأفكار الجزئية الصغيرة، والحوادث اليومية التافهة»، وكانت المجلة قد بدأت في بداية السنة الثانية من صدورها بسلسلة مقالات بعنوان «دراسة وتحليل في سبيل النهضة العربية».

تضمنت المجلة أيضاً في سياق موضوع النهضة نقاشات عن «الإسلام والاشتراكية»، وعن «الحرية والعدالة في الإسلام»، و «الإسلام ومبادئ هذا العصر»، تتضمن هذه نقاشات وأفكاراً تعكس المواجهة المتصاعدة مع المد الماركسي واليساري والقومي العروبي الذي كان في أوجه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ويمكن اعتبار كثير من الكتابات التي صدرت في المجلة في سياق هذه المواجهة أرشيفاً يستحق الدرس لتحول الخطاب الإصلاحي وانغماسه في صراع أيديولوجي، قلص من إبداعات الخطاب في النهضة والإصلاح الإسلامي؛ لذلك نجد تراجعاً في السنوات الأخيرة في كتابات النهضة، ثم نفتقد في الأعداد الأخيرة أي مادة عن هذا الموضوع.

لقد استمرت المجلة قرابة نصف قرن، ولولا ظروف الأحداث الدامية بين الإخوان المسلمين والسلطة في الفترة 1979 - 1982 ما أغلقت أبوابها، وبغض النظر عن نداءاتها المتكررة في الأعداد الأخيرة لمساندة المجلة مالياً، فإنه يبدو أن المجلة التي غاب رئيس تحريرها كلياً عنها في الأعداد الأخيرة لاعتبارات سياسية تتعلق بالأحداث على ما يبدو، فإن المجلة كانت تحاول تجنب نتائج المعركة الدامية، وتفادي أن تطاولها يد النظام، فكتبت في العدد قبل الأخير مثلاً افتتاحيتها تحت عنوان: «دعوة القرآن في غمرات الأحداث» تحاول أن تقول للسلطة أنها ليست من دعاة العنف، ذلك أن «التمدن الإسلامي ثقافة أمة وتاريخ سلوكها وأخلاقها وآثارها وعمرانها»، وهي إذ تشاكل بين مفهوم التمدن الإسلامي واسم المجلة، تحاول أن تبعث برسالة لخصتها بالقول: «إن التمدن الإسلامي بدعوة الحق والنور إنما يدعو بالإسلام إلى السلام، وبالإيمان إلى الأمن، وبالهداية إلى أشرف الغايات وأسمى المقاصد على أسس ترتكز على ركنين: الحق والخير نظراً وسلوكاً»، ولكن محاولة المجلة باءت بالفشل وأغلقت المجلة قسراً بعد العدد الثاني في نيسان (ابريل) 1981.

تعكس المجلة نمطاً من السلفية الإصلاحية ليس مألوفاً في الحركة الإصلاحية، فمؤسسوها سلفيون تقليديون لجهة العقائد والمنظور الديني المحض، ينتمون إلى مدرسة الألباني ومحب الدين الخطيب المتشددة عقدياً، ولكنهم، فكرياً وسياسياً، إصلاحيون ديموقراطيون بكل معنى الكلمة، وهو أمر يندرج في إطار النسخة الخاصة للإصلاح الديني الشامي الذي يختلف إلى حد كبير عن قرينه المصري الذي استحوذ على معظم الاهتمام البحثي للدارسين في الإصلاح الديني فيما أهمل في شكل شبه كامل الإصلاح الديني في نسخته الشامية.

عبد الرحمن الحاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...