روايات من يوميات الخطف السورية.. بين تأمين «لقمة العيش» و«الانتقام»
يخرج مجد من مدرسته الثانوية في قلب دمشق فتسأله شابة عشرينية عن عنوان مكان قريب، يقترب ابن السبعة عشر عاماً منها كي يشير إلى العنوان لكن رجالاً آخرين يسرعون إليه ويسحبونه إلى سيارة تنتظرهم لتسرع بالعصابة وصيدها.
لن تمضي ساعات قبل أن يتصل أحدهم بأسرة مجد ويخبرهم أن ابنهم مخطوف والمطلوب سبعة ملايين ليرة سورية (مئة ألف دولار) لاسترجاعه. هنا تبدأ رحلة المفاوضات العصيبة لأيام عديدة تنتهي بإطلاق سراح طالب الشهادة الثانوية مقابل مليون ليرة سورية (خمسة عشر ألف دولار) ومعه قرار عائلي بفرض الإقامة الجبرية على الشاب منعاً لحادثة مشابهة.
تشبه هذه الحادثة مئات القصص التي أصابت السوريين، في دولة الخطف حيث يكثر الخاطفون والمخطوفون وتتعدد معهم أهدافهم من هذه العمليات. وفيما قررت السلطة النأي بنفسها عن معظمها والتفرغ لـ«محاربة العصابات الإرهابية المسلحة»، تولت العائلات السورية مهمة تحرير أبنائها الذين عاد بعضهم سالماً وبعضهم الآخر مشوهاً وبعضهم مقتولاً، هذا إن عاد أصلاً.
وبين كل عملية وأخرى، تزداد العائلات تشدداً حتى بات الخروج من البيت مغامرة غير محمودة العواقب ولو كان المرء مقيماً وسط العاصمة، فكيف في باقي المحافظات التي أعلنتها المعارضة خارجة عن سيطرة النظام أو تلك التي تشهد عمليات عسكرية مستمرة؟
وهكذا، أصبح الخطف في سوريا مسألة يخشاها الجميع من دون استثناء. يختلف الخاطفون بين «الجيش الحرّ» و بين جماعات سلفية مقاتلة أو عصابات لا علاقة لها بالقتال ضد النظام وبين الأجهزة الأمنية، وتتعدّد أسماء المخطوفين على لائحاتهم. منهم رجال أعمال كسليم دعبول، مالك جماعة «القلمون» والمعروف بقربه من النظام، ومعارضون كعبد العزيز الخيّر، مسؤول العلاقات الخارجية في هيئة التنسيق، ومنهم كذلك ناشطون ضدّ السلطة أو السلطة و«الجيش الحر» معاً، ومنهم أبناء التجار أو رجال الأعمال، من المسؤولين في النظام أو المواطنين العاديين... وقد يكونون أطفالاً في أحيان عديدة وهؤلاء بطبيعة الحال لا علاقة لهم بالأزمة ولا بطرفيها.
أمام هذه اللائحة تتباين أسباب الخطف، بدءاً من الضغط لطلب المال، وفي هذه الحالة يمكن تقسيم الخاطفين إلى فئتين الأولى «طيبة القلب» ستشعر بتواضع حال عائلة المخطوف وتقبل تخفيض المبلغ بأرقامه الفلكية إلى مبلغ يتناسب مع حال الأسرة وأخرى لن تتنازل عن مبلغ الفدية قرشاً واحداً. وهناك من يخطف أيضاً مقابل المال لكن هذه المرة ليس لأغراض شخصية بل لشراء السلاح. وفي أحيان أخرى يستخدم الخطف للضغط على طرف مقابل كما يحدث في حالات الخطف التي تشهدها مناطق يسكنها موالون ومعارضون معاً.. والهدف هنا يكون الضغط لإطلاق سراح مخطوف آخر أو معتقل أو عناصر أمن وجنود كان اختطفهم «الجيش الحر». وهو ما بدأ في حمص منذ الشتاء الماضي وامتد إلى اللاذقية وريف دمشق حيث يقوم معارضون في الأحياء أو القرى المعارضة باختطاف موالين للنظام مقابل إطلاق سراح آخرين، وقد نجح في بعض الحالات وفي حالات أخرى ردت الجهة المقابلة بقتل من لديها مما يدفع الأخرى للخطف والقتل فوراً.
وعلى اللائحة أيضاً، حالات الخطف لمواطني الدول الأخرى، خاصة الإيرانيين، ومؤخراً فتاة أوكرانية بهدف تحقيق مكاسب سياسية بالضغط على الدول المعنية برعاياها. لكن الكارثة الأكبر تتمثل في الخطف لأسباب طائفية ومصير هؤلاء في أغلب الأحيان يكون الانضمام إلى أكثر من ثلاثين ألف ضحية، ليبقى الأسوأ هو قتل الفتيات بعد اغتصابهن حيث شهدت عدة مناطق في ريف دمشق اختطاف فتيات من منازلهن. في بعض الأحيان تمّ ذلك بهدف المبادلة مع آخرين مختطفين موالين كانوا أم معارضين، لكن الصدمة كانت بعد أن يتبين للأسرة أن الاسم الذي يُطلب مبادلته لا صلة له بالواقع، وهذا يعني أن الخطف كان للقتل أو الاغتصاب لا أكثر.
ما سبق فرض على مختلف الأسر السورية تشديداً بالغاً على حركة بناتهم، وهو ما امتد لاحقاً ليشمل جميع أفراد الأسرة الذين قرروا التقليل من فترات خروج حتى الضرورة القصوى، أما السفر لمدن أخرى حتى لو كانت تتمتع بهدوء نسبي فبات منسياً مهما كان الظرف الداعي للسفر.
وفي السياق، يتحدث جورج (اسم مستعار لناشط وموظف في شركة كبرى) عن سلسلة رسائل تهديد وصلته على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تعتبره والشركة التي يعمل بها في خدمة النظام، وتعلمه أن اسمه وزوجته أصبحا معممين على حواجز «الجيش الحر» في مناطق عدة مهددة إياه بالذبح باعتباره من الطائفة العلوية كما ورد في عدة رسائل وصلته، رغم أنه ناشط معارض للنظام، على حد قوله. أحد «أبطال الثورة»، كما يصفه جورج ساخراً، طلب منه تحويل مبلغ نصف مليون دولار إلى «الجيش الحر» أو شراء سلاح من رشاشات وبنادق ورصاصات وتسليمها لكتائب «الجيش الحر» في المنطقة المحيطة كـ«بادرة حسن نية»، ما دفع «جورج» وزوجته إلى بدء إنهاء أعمالهما في دمشق والاستعداد لمغادرة البلاد.
أما خليل، وهو سائق سيارة أجرة في ريف دمشق، فيستعيد قصة خطفه عندما أشار عدة شبان له ليقلهم إلى منطقة السبينة في ريف دمشق لكن ما إن عبروا طريقاً فرعياً حتى شهروا مسدساتهم وأرغموه على التوجه إلى بيت مهجور. هناك انضم إليهم سبعة رجال آخرين كانوا يتحدثون باللهجة الدمشقية وجميعهم ملثمون باستثناء شخص أطلق لحيته. قاموا بالاتصال بشقيقه، حيث طلبوا مبلغاً وصل إلى خمسة وعشرين مليون ليرة سورية، وهو ما لا يمكن لعائلته تجميعه بحكم فقر حالها، لكن المفاوضات التي قادتها والدته خفضت المبلغ إلى عشرين ثم عشرة ثم خمسة ليتوقف عند سبعمئة ألف ليرة سورية جرى الاتفاق على تركها في كيس صغير ليمر شاب مسرع على دراجة نارية ويأخذها. هنا يلفت الرجل الثلاثيني إلى ما قاله له أحد الخاطفين حين كان يهم بالخروج لإطلاق سراحه: لا تؤاخذنا لكننا وأولادنا لا نجد ما نأكله.
في المقابل، يُعتبر أسوأ أنواع الخطف ذاك المرتبك بأسباب سياسية، حيث تزخر صفحات التنسيقيات وصفحات العديد من كتائب «الجيش الحر» بصور أفراد غالباً عسكريين أو يعملون في مؤسسات النظام. ويُعتبر هؤلاء من المطلوبين لـ«الجيش الحر»، والهدف الأول يكون تصفيتهم.
يروي طارق (وهو الاسم المستعار لنجل شخصية تعمل في مؤسسات الدولة) عن سيل التهديدات التي تلقاها والده في المدينة الخارجة عن سيطرة النظام والتي تتوعده بتصفيته وأبنائه على الفور. ثم تبع ذلك سرقة سيارته ومضايقته في مقر عمله، على الرغم من أن والده يعمل في «آخر مؤسسة تعمل مع الأجهزة الأمنية»، على حد وصفه. لم يشفع له ذلك، بل دفع أحد معارضي الخارج ليردّ على طارق حين اشتكى له الأمر قائلاً: وماذا يفعل والدك في قلب النظام حتى الآن ولماذا لم ينشق؟ كل هذا اضطر الأب لمغادرة منطقته والتوجه لدمشق. ولكن قبيل مغادرته وقعت الواقعة. لم تتردد إحدى الكتائب بخطفه وإبلاغ الأبناء بذلك، وهو ما اعتبره الشاب نهاية حياة أبيه، قبل أن يتدخل عناصر في «الجيش الحر» يعرفون الأب جيداً توسطوا لإطلاق سراحه من دون مقابل سوى التشديد على ضرورة الانشقاق.
الأمر ذاته تكرر مع طبيب ابتدعت إحدى التنسيقيات في دمشق اتهاماً له بالعمل لصالح الأجهزة الأمنية، فتعرض لتهديد يطال ابنته وزوجته بالاغتصاب رداً على ما يقوم به. لم تتذكر التنسيقية أن الطبيب لا علاقة له بالشأن السياسي أو الأمني بل تعرّض العديد من أفراد عائلته للاعتقال.
هكذا أصبح السوريون يحسبون ألف حساب قبل خروجهم من بيوتهم وعند المرور على الحواجز سواء تلك التابعة للنظام وأجهزته الأمنية أو تلك العائدة لـ«الجيش الحر» فلا أحد مُستثنى من حالات الخطف وتبقى الرحمة متعلقة بالخاطف، الذي يكون إما «رقيق القلب» أو مستعدا لإضافة صورة المخطوف إلى صور المجازر اليومية في البلاد.
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد