حتى في إيطاليا هناك سلفيون

07-09-2012

حتى في إيطاليا هناك سلفيون

ما فتئ النظر في الواقع الديني في تونس موسوماً بطابع دعائي ايديولوجي، وهو عائد بالأساس إلى تردي الثقافة العلمية بشقّيها السوسيولوجي والأنثروبولوجي، الغائبة عن رصد الحقل الاجتماعي وما يمور به من تحولات مستجدة. ليحضر بدل ذلك حكم أكاديمي جاهز تعجز أدواته البالية عن كنه التحولات الاجتماعية، إلى جانب موقف فقهي تقليدي ومحافظ يرى المشروعية في ما وجدنا عليه آباءنا، من دون إعارة اهتمام لقاعدة تبدل الأحكام بتحول الأزمان. والحال ان هناك تعبيرات دينية قديمة ومستجدة في الواقع التونسي ترفض الوصاية المذهبية المالكية، ما انفكت تعاني الطمس والقمع وتبحث بجهد جهيد عن الحضور، مثل الأحناف، و«الإباضيين» (المسمّين تحقيراً بالخوارج)، والمتشيعين، والمتنصّرين، (أعلن مارون لحام أسقف تونس أن معدل المعمّدين وفق الطقس الكاثوليكي بين ثلاثة وأربعة أنفار سنويا وذلك في محاضرة ألقاها في خورنية في مدينة بريتشا الإيطالية).
فالنظر الأكاديمي العاجز عن تفكيك بنى التعبيرات الدينية الناشئة، والنظر الشرعي المحافظ الذي يركن إلى الضوابط الفقهية الكلاسيكية، هما سمة المقاربة التونسية للدين عامة، وقد أثبتا عجزهما وتخبطهما أمام ظاهرة الفوران الديني، التي تجلت عبر تعدد الأحزاب السياسية ذات الخلفية الدينية، ونشوء مئات الجمعيات ذات الحوافز الدينية، وظهور ما يسمى بـ«الجماعات السلفية» ذات المنحى الطهري والتقوي والمغالي أيضا. فتونس تشهد توالد «نحل» تنوء أطر النظر القديمة عن استيعابها، وبالمثل تعجز التفسيرات المسقَطة عن إدراك فحواها.
زارني في محل سكناي في روما قريب يقطن في تونس، لما كنّا نذرع شوارع المدينة، هاله الصخب المندفع من إحدى الطرقات، حيث احتشد مئات الأشخاص رافعين اللافتات والصلبان، يلهجون بترانيم دينية، وقد ارتدى كثير منهم أزياء الرهبان يتقدمهم شخص حافي القدمين يجر صليبا يناهز طوله الستة أمتار. بقي صديقي مشدوهاً أمام المنظر الغريب الذي لم يخطر على باله في عاصمة غربية، ثم التفت نحوي مستفسراً: «حتى في إيطاليا هناك سلفيون!؟».
تحيل هذه المقدمة التوضيحية إلى إقرار أن هناك قصوراً في وعي المسألة الدينية في تونس، وبالخصوص في إدراك موضوع ما يسمى بالجماعات السلفية. فأن يرفع المتحمسون الدينيون سناجقهم وراياتهم، أو يلبسوا قمصانهم الطويلة، أو يطلقوا لِحيّهم، ليس دليلا على خطر داهم، كما يُصوَّر، بل هو دليل على حراك ديني مستجد في عمق بنية المجتمع، يماثل حراك «النِحَل» ـ Les sects ـ في الغرب في الراهن. وأقدّر أن تلك الجماعات في بلد كتونس تحتاج إلى تفهم، لا إلى حكم مسبق وتهويل إن أردنا فهم الظواهر. فالجماعات السلفية في الغالب الأعم منها انطوائية في نظرتها إلى العالم، تبحث عن النقاوة والطهر، ومنكفئة على ذاتها، ومن حقها الدعوة لما تريد بالحجة والموعظة والروية، وإن يبقى من غير المسموح لبعض الفصائل منها فرض رؤاها على الغير.
كان عالم الاجتماع بريان ويلسون، الأستاذ في جامعة أكسفورد سابقا، قد عدد في كتابه: «النِّحل والمجتمع» تنوعات تلك الجماعات في الغرب، الشبيهة بتنوع الجماعات السلفية التي باتت نشيطة في واقعنا:
أ ـ الدعوية (أي المتأسسة على مبدأ الدعوة الجماعية أو الفردية إلى معتقد محدد).
ب ـ المنعزلة (المنغلقة على ذاتها والباحثة عن التحصن ضد المؤثرات الخارجية).
ت ـ الإصلاحية (التي تدمج رؤى دينية بغرض الإصلاح الداخلي).
ث ـ الثورية (التي تتطلع إلى قلب النظام السائد).
ج ـ الخلاصية (التي تدّعي تخليص البشر من شرور العالم).
ح ـ الطوباوية (التي تذمّ الحاضر وتبشّر بحلول عالم مغاير).
لتبقى عين الدولة بصيرة، على حد توصيف عالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي في مؤلفه: «علم الاجتماع الديني»، حين يدّعي تشكيل اجتماعي ـ ديني أنه الطريق الأوحد للخلاص، والقابض على ناصية الحقيقة المطلقة، مقابل عالم خارجي يعد بمثابة مملكة الشر، ففي تلك الآونة تصير احتمالات تفجر بذور العنف واردة، وأما في غياب ذلك فإنه ليس من الصواب ان تُنعت الأمور بالخطر الداهم، الذي لن يجرّ إلا إلى الحلول الأمنية والسياسية المتطرفة التي تسعى المجتمعات الديموقراطية للقطع معها.
ووعياً بتلك «الميكانيزمات»، لا جرم أنه لن تتيسر دمقرطة الفضاء الديني، ما لم ترفع الدولة يدها عن التحكم بمساراته، بعد ان بات الدافع الأساس للتدين «كلٌ وحاجته كلٌ ورغبته». فمن مهمات الدولة ضمان التنافس بين التعبيرات الدينية دون محاباة إحداها، لأن الناس في زمن جديد، لا مكان فيه لدين القهر أو مذهب الغلبة. والتصور الديني المنغلق «والستاتيستيكي» ما عاد له مكان في ظل تحولات عميقة تعصف بالمجتمعات. تونس الباحثة عن إرساء تقاليد ديموقراطية ينبغي أن تدرك ان التديّن والتمذهب اختيار حرّ، ما عاد فيه محل لـ«ما أريكم إلا ما أرى».
فلا يمكن فهم معنى الديموقراطية في الاعتراف بالأحزاب ذات الخلفية الدينية، بعد أن كانت محظورة، بدعوى إظهار نشاطها إلى العلن، ومصادرة مفهوم «التدين الديموقراطي» في مدلوله الواسع، بموجب الحفاظ على مذهب الأكثرية أو مراعاة الدين المهيمن. فالمسار الذي تحاول السير فيه بعض القوى المهيمنة في تونس بإلغاء حق بعض الجماعات، على غرار مصادرة حق الشيعة في الوجود، يتناقض مع مفهوم التحرر العميق في الإسلام ومع مفهوم الديموقراطية الدينية، لأن مؤدى ذلك المسار إنتاج مجتمع مغلَق.
ذلك أن مفهوم أهل الكتاب الذي أرساه الإسلام هو مفهوم عميق الدلالة، يستوعب كل من التزم منظومة أخلاقية روحية داخل الحاضنة الاجتماعية، بما يجعل حتى «التعبيرات الدينية»، التي تُسمى خطأ «الديانات الوضعية»، أو تُنعت لمزاً بـ«المذاهب الهدّامة»، ما التزمت بمنظومة أخلاقية روحية، من أهل الكتاب. ولا ينهانا حرج «الغيورين» على الدين، بدون وعي إيماني رصين، ان نُضيّق واسعا، لأن المسلم الحق لا يضيره ان يرى عبادة غيره، أو أن يقرأ كتاب غيره، أو أن يتأمل إيمان غيره.
تونس المبدعة، التي أنجزت ضرباً مستجداً في الثورة في لحظة استيأس فيها الناس وظنوا أنهم قد غُلبوا، من الخطأ أن تُورّد نموذجا دينيا جاهزا. فالإسلام في تونس أحوج ما يكون ليتعلّم من «الكنائس الغربية» كيف تعين الناس، وكيف تقنع الناس، ومثال «كنيسة سانت إيجيديو» في روما جلي للمتبصرين، وليس من تجارب الدول الإسلامية، فأنى التفتَّ فإنك ترى غلبة أو تمييزاً أو قهراً باسم الدين، وحاشى الإسلام أن ينحاز لذاك.

عز الدين عنابة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...