"وثيقة مكة المكرمة " طائف عراقي والحل يمر في دول الجوار
«مؤتمر المصالحة» الذي انعقد في مكة المكرمة يوم الخميس الفائت, والذي يسبق انعقاد «مؤتمر المصالحة» الآخر للأحزاب السياسية في مطلع تشرين الثاني €نوفمبر€ المقبل, كلاهما يشكل الفرصة الأخيرة امام نوري المالكي وحكومته للخروج من المأزق وحمام الدم اليومي الذي يعيشه العراق. انه مشروع «طائف عراقي» يراد له ان يطلق وثيقة وفاق تحمل اسم «وثيقة مكة المكرمة», بمشاركة سنية شيعية ومباركة اميركية. ماذا ايضاً في الوثيقة؟
للمرة الاولى منذ احتلال العراق أقر الرئيس الاميركي جورج بوش في حديث تلفزيوني باحتمال وجود تشابه بين الحرب في العراق وحرب فيتنام, وقال بشيء من الخجل ان في الامكان مقارنة الهجمات الحالية في العراق بهجمات ثوار الفيتكونغ. في الوقت نفسه اعترف بوش بأن «وتيرة العنف ارتفعت بالتأكيد عشية انتخابات الكونغرس» من دون ان يسلّم بأن الهزيمة السياسية التي أسفرت عنها حرب فيتنام سوف تتكرر بالضرورة في حرب العراق.
وحديث الرئيس الاميركي الى شبكة الـ«اي بي سي» الاميركية, يتزامن مع قلق جمهوري من ان تؤدي المعركة الانتخابية الى فقدان الجمهوريين الأكثرية داخل الكونغرس تحت وطأة الضغوط السياسية لمعارضي الحرب. والأمر نفسه حدث في العام 1968 عندما فاز الجمهوري ريتشارد نيكسون بالرئاسة بفعل تراجع شعبية ليندون جونسون الديمقراطي نتيجة هجمات الثوار الفيتناميين.
في مواكبة هذا «الاعتراف» يتوقف المراقبون في العراق عند ثلاثة تطورات اساسية, سوف تقود على الارجح الى ما يشبه «الانقلاب» في الاستراتيجية الاميركية التي اعتمدت حتى الآن في العراق:
التطور الاول انعقاد «مؤتمر مكة» للمصالحة بين الشيعة والسنة برعاية اسلامية.
التطور الثاني تصريحات رئيس هيئة الاركان البريطاني حول ضرورة الانسحاب البريطاني من العراق.
والتطور الثالث اقتراحات «لجنة الحكماء» برئاسة جيمس بيكر حول ضرورة تغيير آليات التعامل الأميركي مع المقاومة العراقية, واعتماد خطة امنية سياسية جديدة في العراق اعتباراً من نهاية العام الحالي.
في ما يتصل بـ«مؤتمر مكة» الذي أعدته «منظمة المؤتمر الاسلامي», بشخص أمينها العام الدكتور اكمل الدين احسان اوغلو, تردد ان «الوثيقة» التي أعدتها مجموعة من المرجعيات السنية والشيعية تشدد على «التمسك بالوحدة الوطنية الاسلامية» وتدعو الى «اطلاق سراح المختطفين الابرياء وكذلك الرهائن المسلمين وغير المسلمين» كما تنص على حرمة اموال المسلمين ودمائهم واعراضهم» وعلى «ضرورة المحافظة على دور العبادة للمسلمين وغير المسلمين» وتشير الى ضرورة «ان يكون السنة والشيعة صفاً واحداً من اجل استقلال العراق ووحدة ترابه» وتدعو الى «نبذ اطلاق الاوصاف المشينة على السنة والشيعة».
وتقول منظمة المؤتمر الاسلامي «ان هذه المبادرة تقتصر على جانب النزاع الطائفي لإخماد جمرته باعتبار ان هذا النزاع بما ينطوي عليه من خلفيات دينية يكون عادة اكثر انواع النزاعات دموية وعنفاً». وتضيف في بيان لها «ان الأمر لا يتعلق بمبادرة للمصالحة بين العراقيين بل يتعلق الامر بوقف الاقتتال المذهبي بين العراقيين». والمبادرة ليست مؤتمراً ولا ندوة ولا نقاش فيها ولا جدال ولا مفاوضات فمداها الموضوعي يهدف الى وقف الاقتتال المذهبي وخلفيتها الدينية مؤسسة على نظرة اسلامية موحدة و«القضية ليست مؤتمر مصالحة وانما هي مناسبة خاصة تختلف عما سواها, لاعلان هذه الثوابت الدينية الجامعة على ألسنة كبار المرجعيات الدينية وعلماء المسلمين».
واعلان «وثيقة مكة» سوف يمهد لانعقاد «مؤتمر المصالحة للاحزاب والقوى السياسية» في الرابع من تشرين الثاني €نوفمبر€ المقبل.
وفي تقدير أكرم الحكيم وزير الدولة لشؤون الحوار الوطني, ان المؤتمر الذي يحظى برعاية نوري المالكي هو «اول وأضخم تجمع لأحزاب وقوى وشخصيات سياسية عراقية في بغداد منذ عقود», وهو يؤكد انه سيرفع شعار «ستبقى القوى الوطنية العراقية ركيزة اساسية للوحدة الوطنية وضمان حقيقي لنجاح العملية السياسية والمصالحة الوطنية. الشاملة» في خطوة لتعزيز مشروع المصالحة الوطنية». ويضيف الحكيم ان الاحزاب التي ستشارك في المؤتمر هي التي ناضلت بالأمس ضد الدكتاتورية الشمولية وتناضل اليوم من اجل استكمال مقومات السيادة الوطنية واعادة الاعمار ومكافحة الارهاب وبناء دولة القانون وحقوق الانسان ورفاهية المواطن وبناء العراق الديمقراطي الاتحادي الموحد الملتزم بهويته الحضارية الاصيلة.
ومن الواضح ان هذه المؤتمرات تلقى مباركة اميركية علنية وخفية في آن, بعد تزايد عدد القتلى الاميركيين بصورة غير مألوفة منذ مطلع الشهر الحالي, وقد بلغ العدد حتى اواسط الاسبوع الماضي 69 قتيلاً. في الوقت نفسه يكثر الحديث عن «عملية تطهير» داخل وزارتي الدفاع والداخلية الهدف منها تنقية اجهزة الأمن والجيش من «فرق الموت» التي ترتكب مجازر يومية بخلفيات مذهبية وسياسية. وآخر تجليات القتل المذهبي نزول مسلحين الى شوارع الرمادي للاعلان عن ان المدينة سوف تنضم الى «امارة اسلامية» تضم محافظات يغلب العرب السنة على سكانها, في ردة فعل على المذابح المتتالية.
في غضون ذلك لا تزال حقيقة قتلى المدنيين العراقيين منذ الدخول الاميركي للعراق في ربيع العام 2003, غامضة, فبين ارقام تحاول ان تنزل بالرقم الى ثلاثين الف ضحية, كما ورد على لسان الرئيس الاميركي جورج بوش, وبين ارقام تقفز بالعدد الى نحو 655 الف قتيل, كما نشرته دراسة اميركية عراقية, يبقى الرقم الحقيقي لهؤلاء الضحايا, الذين وعدوا بالأمن والديمقراطية وسنوات من الازدهار لغزاً حقيقياً.
ويقول المحلل السياسي احمد عبد القادر العلواني ان الارقام الحقيقية لضحايا الغزو الاميركي للعراق ستبقى مجهولة, ويضيف «السبب في ذلك ان هناك جهات مسيطرة على الوضع الحالي ترغب في ابقاء هذه الارقام طي الكتمان, لأن ظهور اي ارقام حقيقية لن يكون في صالح تلك القوى, وعلى رأسها القوات الاميركية المحتلة, المسؤول الاول والاخير عن هذه المجازر, والاحزاب والقوى السياسية العراقية التي تسيطر على الحكم حالياً والتي مهدت وسهلت وساعدت القوات الاميركية على احتلال العراق, كل هذه الاطراف ليس في مصلحتها ان تظهر الحقائق في ما يجري على ارض العراق, ولا اتوقع ان هذه الحقائق يمكن ان تظهر بسهولة في ظل هذا الذي يجري في العراق يومياً».
وتشير تقديرات وزارة الصحة العراقية, ان نحو مئة جثة مجهولة الهوية يتم العثور عليها يومياً في العاصمة العراقية بغداد وحدها, اي ان نحو ثلاثة آلاف عراقي يقتلون شهرياً, وهي ارقام تقارب كثيراً ما يتم الاعلان عنه شهرياً عن عدد القتلى, والتي تصل الى ما يقارب 27000 قتيل, من دون ان تتمكن العمليات الامنية التي تنفذها القوات الاميركية والعراقية من خفض مستوى العنف, خصوصاً العنف الطائفي الذي تفجر وبقوة عقب تفجيرات قبة سامراء في شهر شباط €فبراير€ الماضي.
ويقول الشيخ حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين ان نحو 200 الف عراقي قتلوا في عهد حكومة ابراهيم الجعفري السابقة, والتي اتهمت في حينها بأنها حكومة طائفية ونفذت العديد من عمليات القتل الطائفي, باستخدام اجهزة الأمن الحكومية, في حين تشير الاحصاءات الى ان عدد القتلى العراقيين الذين يتم العثور عليهم في عهد حكومة نوري المالكي اصبح اعلى من تلك الارقام التي كان يعلن عنها في عهد الحكومة السابقة. وبغض النظر عن صدقية التقرير الذي اعده باحثون اميركيون وعراقيون عن مقتل 655 الف عراقي منذ الغزو, فان القراءة التي اعتمدها التقرير تشير الى ان نسبة الخطأ فيه ممكنة, كما يقول استاذ الاستقراء في جامعة بغداد فراس العتابي, ويضيف «اعتمدت الدراسة على ما ينشر ويعلن من ارقام القتلى, بالاضافة الى عملية استطلاعية من خلال اخذ آراء نحو 1800 عراقي يمثلون مختلف الشرائح والطبقات العراقية,مثل هذه الدراسات يكون فيها هامش الخطأ متفاوتاً, تارة يكون كبيراً واخرى يتضاءل , طبعاً لأنها لا تعتمد على ارقام واحصاءات موثقة, ولكن في الاعم الاغلب فان هذا الرقم لا يعني ان اعلى مما يحدث من قتل يومي, بل ان الخطأ الموجود في هذا التقرير يمكن ان يكون بعدم امكان وصوله الى العدد الحقيقي الذي قد يكون اكبر مما اعلن عنه التقرير».
والحكومة العراقية من ناحيتها ترفض هذا التقرير وهذه الارقام, وترى على لسان الناطق باسمها, علي الدباغ, ان هذه الارقام مضخمة. ويقول الدباغ «ان الاعداد التي اوردها التقرير تزيد بصورة غير معقولة عن الواقع, وتعطي ارقاماً ضخمة بطريقة تخالف ابسط قواعد التحري والدقة المطلوبة من قبل معاهد ابحاث يفترض فيها ان تكون رصينة وتحترم القراء». ويضيف «اننا في الوقت الذي نواجه فيه هجمة ارهابية في العراق تستهدف المواطن العراقي, نؤكد ان هذه الارقام بعيدة كل البعد عن الحقيقة, والحكومة العراقية تجهد في ان تحمي المواطن العراقي من قوى الارهاب التي تستهدفه».
وتبقى الحقيقة في ما يجري في العراق هي الضحية الاساسية, فلقد عمدت القوات الاميركية ومنذ الساعات الاولى لدخولها العراق, الى محاولة تزييف الحقائق على الارض, وقامت بمحاولة جعل الارض العراقية, ارضاً حراماً بالنسبة الى الصحفيين, ساعدها في ذلك حكومات عراقية عجزت حتى عن ان توفر الحماية لنفسها, فقتل نحو 140 صحفياً عراقياً, واستهدف ممثلو المنـظمات الانسانية وممثلو وموظفو الاغاثة, ولم يبق في العراق, إلا من ترغب فيه اميركا والحكومات العراقية المتعاقبة, والطرف الآخر, الذي يرفض هذا البقاء ويحاول ان يخرج الجميع في حرب لا تعرف للمنطق صورة.
يبقى السؤال: هل وصلت مؤتمرات «المصالحة» متأخرة جداً في العراق, بعدما شق التقسيم طريقه بصورة لا تقبل الرجوع؟
الجواب هو ان معظم الشيعة بتأييد ودعم من الاكراد يقول بصيغة الاقاليم التي تمهد لـ«حكم ذاتي» والى شكل من اشكال التقسيم في نهاية المطاف. والمعارضون لمشروع تقسيم العراق الى اقاليم, هم في غالبيتهم من العرب السنة الذين يشعرون انهم خسروا نفوذا, كان لهم منذ تأسيس العراق الحديث, الى جانب تيار الصدر, الذي يتزعمه السيد مقتدى الصدر, وبعض الفئات الشيعية, ومن ابرزها التيار الخالصي ومرجعيات دينية ناشئة. إلا ان التيار الصدري الذي اصطف اخيراً خلف المعارضين لقانون الفيدرالية والاقاليم, كان قد لوح في عهد حكومة اياد علاوي بفكرة فصل الجنوب العراقي €البصرة والناصرية والعمارة€ عندما صرّح سلام المالكي, حينما كان نائباً لمحافظ البصرة وممثلا لمقتدى الصدر فيها في العام 2004 بفصل هذه المحافظات عن العراق, وتلا ذلك ترويج من قبل أتباع الصدر لفيدرالية الجنوب, قبل واثناء ازمة النجف المعروفة, والتي كانت السلطة الاميركية في العراق تدعم حكومة علاوي للقضاء على الصدر.
وقبل التيار الصدري فان الحديث عن فيدرالية الوسط والجنوب لم يكن امراً جديداً من قبل زعماء الطائفة الشيعية في العراق, فقد طرح هذا المشروع قبل سقوط النظام السابق, في زمن المعارضة وتحديداً بعد تحرير الكويت في العام 1991. ولعل في مطالبة الزعيم الراحل آية الله محمد باقر الحكيم بوضع الجنوب العراقي برمته تحت المظلة الدولية بدعوته الى انشاء منطقة آمنة في الجنوب, الذي يشمل حسب الرسالة التي وجهها الى الاطراف الدولية المعنية, كل المناطق الشيعية من النجف وكربلاء والكوت والسماوة والديوانية و الحلة الى العمارة والناصرية والبصرة, على غرار ما حصل في شمال العراق, ما يعكس حقيقة ما يعانيه الشيعة والاكراد في ظل نظام قمعي يتفرد بالسلطة .
اذاً, كان تبرير الحكيم امنياً, اي الحفاظ على امن طائفته وهو المبرر نفسه الذي يدفع شقيقه السيد عبد العزيز الحكيم الى المطالبة بالفيدرالية وعدم التراجع عنها. فالنظام السابق مارس مع الجنوب كل اشكال القمع, بعد فشل انتفاضة 1991, ومن يسميهم الحكيم وانصاره بالصداميين والتكفيريين, يشنون منذ سقوط النظام السابق حملات تطهير ضد الشيعة, بدأت بمحور الموت في المحمودية اللطيفية المتجه الى النجف ولم تتوقف في سامراء والمدن والبلدات التي تقطنها اكثرية سنية.كذلك فقد نوقش هذا المقترح من قبل اطراف من المعارضة العراقية في مؤتمرات المعارضة ولقاءاتها المتعددة, سواء في مؤتمر بيروت, الذي انعقد بعد الانتفاضة في الجنوب او في كردستان في آذار €مارس€ 1991 بحجة حماية سكان الجنوب €والاكراد€ من قمع النظام المركزي. إلا ان الامر تطور كثيراً, حين قرر عدد من السياسيين العراقيين ان يتم تثبيت فكرة الفيدرالية في جميع اتفاقات المعارضة, خصوصاً مع الاكراد كأساس دستوري يعلن العراق دولة فيدرالية.
وقد استفاد الباحثون عن «تكييف دستوري» لتقرير شكل النـظام بعد التغيير, من قرار صدر عن مجلس الأمن, وضع كردستان تحت المظلة الآمنة, وبدرجة اقل بكثير من الجنوب, ومنع استخدام النظـام العراقي الطيران الحربي من التحليق فوقها, اللهم الا في الجنوب, حيث كانت الولايات المتحدة تغض النظـر عن «خروقات» المروحيات العراقية وتنفيذها عمليات تستهدف مواقع المعارضة في الاهوار بشكل خاص, على اساس انها من وجهة نظر اميركية, امتداد لنفوذ ايراني متزايد في الجنوب. ولم تكن الرعاية الاميركية لهذا المشروع غائبة, اذ كان لافتاً الحضور الاميركي المباشر والقوي في مؤتمر انعقد في العام 1999 في لندن بمشاركة العديد ممن يتبنى حالياً من العراقيين €او يتحفظ لأسباب تتعلق بالمنافسة السياسية€ الدعوى الى تقسيم العراق الى اقاليم, وكان بعنوان «العراق حتى العام 2020». وبين الحاضرين, كان نفر من المقربين للاميركيين, منهم اياد علاوي وموفق الربيعي, الا ان حضور السفير الاميركي دايفيد ماك وخبراء اميركيين لهم صلة مباشرة بوكالة الاستخبارات الاميركية «CIA», وكان الابرز في بحث شكل الدولة العراقية في مرحلة سقوط النظام, وتم التطرق بشكل معمق الى فيدرالية كردستان والفيدرالية في الوسط وفي جنوب العراق, وتم الاتفاق على ان تعتبر حقوقاً دستورية يجب ان تثبت في الدستور العراقي بعد سقوط نـظام صدام.
مرة اخرى كان المبرر الذي قدمه الباحثون في مؤتمر 1999 امنياً, يستند الى مبررات لها صلة بالأمن القومي والاقليمي حين خلصوا الى ان ازمات العراق الداخلية, وشن النظام حربين على ايران والكويت, هما بسبب فقدان المؤسسات الدستورية وغياب حكم القانون وتركز السلطة, ومن هنا يجب توزيع السلطة ومراكز القوى على الاقاليم لينعم العراق بالاستقرار والأمن واحترم حقوق الانسان على اسس الشراكة العادلة بين العراقيين, وضمان امن جيران العراق في الخليج تحديداً, والكويت بشكل خاص, من خلال تأسيس ثلاثة اقاليم كحد ادنى: كردية وشيعية وسنية, بالرغم من ان المؤتمر اشترط بكلمات فضفاضة ان هذه الاقاليم لن تقوم على اساس طائفي او مذهبي او قومي, لأن الشمال, الذي وضعت حدوده بادخال التركمان والكلدان والاشوريين والشيك والايزيديين وحتى العرب وغيرهم, سمي اقليم كردستان بهيمنة كردية واضحة, بينما الوسط حدد لها محافـظات لها الاغلبية السنية, فيما الجنوب يغلب عليه الشيعة كأكثرية. وفي مؤتمر المعارضة بلندن, الذي انعقد في منتصف كانون الاول €ديسمبر€ من العام 2002, تم تبني مشروع الفيدالية الذي اقر العام الماضي من قبل الجمعية الوطنية العراقية, بمشاركة ممثلين عن العرب السنة.
ويبني دعاة الفدرالية فكرتهم على اساس ان العراقيين ليسوا شعباً و احدا, بل شعوباً متعددة وان لكل منطقة في العراق خصوصياتها الجغرافية وعاداتها وحتى لغتها او لهجتها وثقافتها, مما يستوجب ايجاد ثلاثة اقاليم في حدها الادنى, يعيش اهلها ضمن اتحاد اختياري في دولة مركبة, بل ويمضي هؤلاء الى انه اذا تعذر التعايش بين هذه الاقاليم, فلكل شعب حق تحقيق مصيره وفقاً لقواعد القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة للامم المتحدة ذات الصلة, إذ يمكن اجبار المواطنين على التعايش ضمن ثقافة الكراهية والعنف المنتشر مع ضعف سلطة الدولة وتكاثر نفوذ سلطة الميليشيات المسلحة, التي ترتكب القتل وتنفذ التفجيرات على الهوية. ويقول هؤلاء, ان تدهور الأمن وغيابه في عدد محدد من المناطق, يجب ان يدفع باتجاه الفيدرالية او حتى الاستقلال واقامة نظام كنفدرالي او تأسيس دول مستقلة لا تشكل كنفدرالية, وهو برأيهم حق مشروع يبني قواعد جديدة للتعايش المستقر. والمخاوف من عودة سيطرة العرب السنة على الحكم المركزي, تجعل دعاة الفدرالية يسارعون الى ما يعتقدون انها الفرصة الذهبية لهم لكي يصلوا الى فدرالية تضمن عدم الانجرار الى التقسيم, ما دام ذلك يحفظ لهم امن طائفتهم, التي باتت برأي العديدين منهم شعباً له مواصفات بقية الشعوب. ويتوقف دعاة الفدرالية في العراق كثيراً عند نموذجين: دولة الاتحاد الفدرالي السويسري والولايات المتحدة الاميركية ويبدو انهم وجدوا في سويسرا افضل نموذج لدول الاتحاد الفدرالي تتعايش فيها بالتوافق جماعات متعارضة والسلطة موزعة ومتآلفة, والامتيازات التي تحتفظ بها بالولايات, هي اكثر اهمية مما هي عليه في معظم الاتحادات الاخرى, كما ان السلطة تتسم بصفة الاستعجال وانها في متناول الجميع وتعتمد اسلوب المشاركة, والجهاز التنفيذي موسع يتبع طريق الادارة الجماعية وتشترك على الدوام في اعماله اهم القوى السياسية والاطراف المقيمة في الولايات المتحدة بادارة شؤون الاتحاد.
وقراءة اولية لمسودة مشروع قانون الاقاليم, الذي قدمه الائتلاف العراقي الموحد الشيعي حول «آليات واجراءات» تشكيل الاقاليم, تكشف التأثر الكبير بنظم فدرالية مختلفة, اهمها الاتحاد السويسري. حتى عندما يصبح هذا القانون نافذا بعد 18 شهرا من اقراره, فان ذلك جاء وفقا للاتفاق الذي تم التوصل اليه بين الكتل البرلمانية, وهي قاعدة التوافق التي كرسها النظام الاتحادي الفدرالي السويسري. لكن الحديث عن الفدرالية القادمة للجنوب وللوسط, ستكون من وجهة نظر الرافضين السنة, ذراعاً لايران بذريعة ان الشيعة يوالون ايران, وهو قياس مع الفارق مع كان يتبناه النظام السابق حول ايران, الذي شن حرباً عليها سماها «القادسية» ومنحها بعداً قومياً بين العرب والفرس, لكنه في الوقت نفسه, زج بالعراقيين الشيعة ليكونوا وقود تلك الحرب المجنونة. وايران في ادائها الحالي, لا تستفيد من فدرالية الجنوب, الا اذا اعتمدت هي نظام الحكم اللامركزي وما كان يروج له بعض الايرانيين وسموه بنظام «الولايات», لأن ايران مكونة من ست قوميات تتمركز في اقاليم محددة هي, فارس وكردستان, و«سيستان وبلوشستان» واذربيجان وتركن صحرا وخوزستان «عربستان», وتخشى من تأثير اقامة نظام فدرالي الى جوارها, اذا لم يحصل ابناء القوميات المختلفة فيها على حقوق متساوية. غير ان منح القوميات حريات, وان كان ذلك في اطار دستور الجمهورية الاسلامية, من الممكن ان يجعل تحالف الجنوب الشيعي معها واقعاً لا بد منه لتعزيز نفوذها الاقليمي, ويمهد لسيطرتها على الاقليم اذا حصل الفصام «العراقي» في مرحلة تالية. ويمكن ايضاً القول ان العلاقة بين الاقاليم الفدرالية, اذا حكمتها قواعد دستورية, كما ورد في الدستور الجديد الذي اعتمد قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية وقرار مجلس الأمن الرقم 1546, والذي ينص على ان العراق هو فدرالي تعددي وديمقراطي, من شأنها ان تمنع ايران من بسط نفوذها الا في اطار العلاقات المتوازنة بين اي كيان ودولة مجاورة, وهذا الامر يقرره العراقيون انفسهم من خلال المؤسسات الدستورية القائمة. وطبعاً, فان الشيعة لن يثيروا مخاوف مشابهة من نفوذ دول اخرى على السنة, وهذا لن يحل إلا ضمن قاعدة التوافق.
انعقاد «مؤتمر مكة» وقبله وبعده مؤتمرات المصالحة, لن يقود على الارجح الى إعادة اللحمة بين «الاقاليم» العراقية, وطموحه لن يتعدى التخفيف من وتيرة المجازر اليومية بين السنة والشيعة, في انتطار ان ينضج الحل السياسي, اميركياً واقليمياً وعربياً و عراقيا. والمرحلة الحالية بعد ثلاث سنوات على بدء الاحتلال تعتبر انتقالية بكل معنى الكلمة, لأن تعديل الدستور ليس ممكناً في ظل «التوازنات» القائمة, ويبدو ان الاميركيين اكتشفوا €متأخرين كالعادة€ ان الحسم العسكري لم يعد ممكنا في العراق, وان الحل الممكن لا يمر بالعراقيين وحدهم, وانما بدول الجوار ايضاً... بل اولاً.
وتوصيات «لجنة بيكر» بداية الانعطاف في هذا الاتجاه.
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد