حـــرب الـــنــمـــاذج الإســـلامـــيـــة

10-05-2012

حـــرب الـــنــمـــاذج الإســـلامـــيـــة

الاهتمام بالحركات الإسلامية وما تفرّع عنها من مفردات، كالإسلام السياسي، والأصولية الإسلامية والسلفية وغيرها... لم يكن وليد لحظة انبعاث ما أُطلق عليه اسم «الربيع العربي»، أو «الصحوة الإسلامية» و«الثورات العربية». فالبعض، يحيل الاهتمام إلى العام 2001 والحدث العولمي (11 أيلول). والبعض الآخر، يرجعه إلى العام 1979، وإعلان نجاح الثورة الإسلامية في إيران، إذ اعتبرها الزلزال الذي اجتاح الكيان الغاصب «إسرائيل»؛ كما اجتاح أنظمة الاستتباع الاستبدادية في المنطقة والاتجاهات السياسية فيها.
لكن الذي أرجّحه، أن انطلاقة الاهتمام بظاهرة الحركات الإسلامية إنما جاءت بعد حدثين:
أولهما فكري: إذ شهد العالم الإسلامي انكفاءً لظاهرة الشخصيات الإسلامية والفكرية التي برزت مع ما أُطلق عليه «عصر النهضة»، من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وشكيب ارسلان، والطهطاوي، وسلامة موسى، وإبراهيم اليازجي... وسبب الانكفاء، الدخول المفاجئ لعهد تبكيت الأفكار وكم الأفواه أمام مدّ الانقلابات الثورية، وقيام أنظمة شمولية.. وهكذا، فقدنا أي بارقة أمل تبعث روح النقد والنقد الذاتي في عملية تجديد قراءة الذات والتراث على أرضية المعاصرة واحتياجات التطوير.
ثانيهما سياسي: ولعله يقبع في تداعيات نكسة العام 1967م. مما ولّد شعورا حادّا بالفراغ «الأيديولوجي» للطروحات والسياسات الثورية والقومية..
وما بين فراغ الحدث الأول، وفراغ الحدث الثاني.. دخلت أطروحات مستجدّة؛ وعلى عجل؛ لجملة من الحركات الإسلامية، عاملة على تقديم نفسها كممثّل عقائدي للأمة، وإن بمخزون أقلّ جدارة؛ وبما لا يُقاس؛ مع مرحلة الانبعاث النقدي التي شكّلتها مجموعة الأفغاني وأصحاب الطروحات العلمانية في وقته.. ولم تقتصر هذه الحركات على الزوايا الفكرية، أو إن شئت فقل: «الأيديولوجية» الصارمة الخالية، بالغالب الأعم، من أي مرونة نقدية.. بل إنها قدّمت نفسها كبديل سياسي لمشروع الأمة ونهضتها، وأطلقت شعار «الإسلام هو الحل»، و«الحاكمية الإلهية»، ونحن الأمة والجماعة فمن ليس معنا هو حُكما ضدنا..
ثم أخذ الخط البياني لارتقاء هذه الحركات يتأرجح بين تصاعد وهبوط.. لكنه وبكل الأحوال، تضمّن موروثات تاريخية سلفية حادّة، وصوفية طرائقية، وأشعرية محدثة، وشيعية تبحث عن دور، وسنية ذات ثقافة أكثرية. لقد جمعت هذه الحركات أشدّ التطرّف وأوفر النفعية (البراغماتية) مضامين في هويتها وسلوكياتها. ففتحت بذلك أبوابها على كل احتمال من ردّات الفعل على زمن أميركي معولم. ثم وعلى هذه الرتبة من صناعة الذات والهوية، جاءت الانعطافة التاريخية لحدث خارج السياق وهو: النهضة الإسلامية بقيادة مرجعية علمية سياسية من وزن الإمام الخميني، والتي وضعت كل الحركات الإسلامية السنية والشيعية أمام حقيقة (عُقم) طروحاتها.. فشهدنا معها عهدا من «فكر المراجعات»، وتوترًا في الموقف بين الثقافة التي آلت لتكون إما إسلام السلفية، أو إسلام الوعظ، أو إسلام السوق؛ أي إسلام الدعاة الجدد؛.. لكنه بكل أحواله، إسلام رد الفعل.
وبين السياسة التي صار فيها زعماء الحركات الإسلامية نزلاء الدول الغربية، وتأثيرات الليبرالية باجتياحات أفكار «المجتمع المدني والديمقراطية» التي ولّدت فيما بعد، فكرة «الدولة المدنية».. ومن جهة أخرى سياسات قامت على خلفية احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، والتي ألهبت مشاعر العودة إلى فكرة «الخلافة الإسلامية الراشدة».. يجيء «الربيع العربي» بصحوته الإسلامية، ليستفيق معه شعب، شبابه ينتسبون لإسلام الأحياء والدساكر في المدن والأرياف، وقادته في داخل بلدانهم أو خارجها مثقلون بكل إرث الفراغ الذي تصدّت له حركاتهم الإسلامية. مما جعلنا نشهد في طروحاتهم، وبنفس اللحظة، طرحًا يقوم على «الخلافة الراشدة أو الرشيدة»، وآخر على «الدولة المدنية» بدلالاتها الديموقراطية الليبرالية، مما وضع الرؤية في رمادية لا تهتدي إلى مرجعيات واضحة، بل أستطيع القول: إن أزمة تعصف اليوم بهذه الحركات الإسلامية وقادتها، وهي أزمة: المرجعية.. فمن المرجع في الحكم والسلطة. النص، الواقع، التراث أم الضرورات، الفقه أم الإرادة الشعبية؟
ومتى نقدِّم الغايات على الآليات؟ وهل تكفي المقاصد الدينية على العودة للتشريعات وصيغ الحكم الإسلامي؟

نموذجان من الطروحات

إن اللافت في حركة الأقطار الإسلامية اليوم، هي هذه الثنائية التوليفية المركّبة.. فمن كان يصدِّق أن يجتمع «الإخوان» و«جماعات السلفية» معا، وفي تآلف انتخابي واحد، نننتظر معه لنعرف إلى أي مدى هو مؤهّل ليتحول إلى تآلف سياسي؟ أو أن تجمع ليبيا بين قوىً سلفية تكفيرية ومشروع إسلامي لحركات تسم نفسها بالاعتدال؟ بل من يصدِّق أن رئيس حزب إسلامي في تونس يدعو إلى دولة مدنية محكومة بجملة من القيم الإسلامية المشتركة مع القيم الإنسانية العامّة، كالعدالة وحرية الرأي.. وهو لا مانع عنده أن يرتدّ من يريد الارتداد عن دينه، كما لا مانع عنده من قيام سلطة لا تعادي إسرائيل. إلا أن غاية الغايات لديه أن يقدِّم نموذجًا يسمونه اليوم (الإسلام المتنوِّر). إسلام، حسب تعبيره، يعود للمقاصد والغايات، ولا يستند إلى الآليات والإجراءات التشريعية والفقهية، إذ في الأول الاعتدال، وفي الثاني التشدّد.
وهذا الحزب نفسه الحاكم اليوم، يقوم أحد أهم قياداته بطرح دولة «الخلافة الراشدة».. بما تعنيه كلمة «الخلافة الراشدة» من إسقاط لمفهوم الدولة القُطرية، فضلاً عن دولة المواطنة أو المدنية، وبما تعنيه من وجوب الالتزام الحرفي بما جاء به الشرع من صياغة أطروحة الحكم في جملتها العامة ومقاصدها أو تفاصيلها. إذ أي خلل أو تخلٍ عن أي مفردة للحكم هو هرطقة أو ارتداد ديني يستدعي أول ما يستدعي التكفير.. من نصدّق فمن أصحاب هذه الثنائيات؟
لكل منا جوابه، أما جوابي، فأني لا أصدّق هنا.. إلا الفراغ، وفقدان المعنى الذي أنتج فقدان المقصد والهدف والرؤية.. لا أخوِّن أحدًا، ولا أثق بأحد.. وأعتقد أن الزمن كفيل بإبراز الكثير.. إلا أن ذلك لا يعفيني من إبداء وجهة نظر تجاه «مدنية الدولة»، أو «الخلافة الراشدة»، حسب وجهة نظر بعض المسلمين. ومن المعلوم، الخط الفاصل بين الدولة المدنية، والخلافة الراشدة، إذ إن الدولة نفسها لا تمثّل مفهومًا أصيلًا في الفقه الإسلامي، بل هي مفردة استُجلبت على عجلٍ لتوائم بين الفقه التدبيري والفكر الحداثوي المعاصر. فكيف بنا ونحن نتحدّث عن دولة مدنية، لعلّ أوضح من عبَّر عنها الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، حينما قال في تعريفها: «أي دولة بلا دين». ويغلب عليّ الظن أن الذين يطرحونها اليوم من أمثال الغنوشي وبعض قادة الرأي في مصر، إنما يقعون تحت وطأة الموقف السياسي الدولي، وطبيعة التعدّدية في بلدانهم، وفقدانهم لفكر سياسي نابع من جذورهم الدينية، وهو قادرٌ على (عصرنة) الأطروحة السياسية بما يخدم الوقائع المستجدة دون تخلٍ عن المرجعيات. لذا، لم يجدوا سوى صيغة «العلمانية السياسية المؤمنة» كحلٍّ لإشكالاتهم. لكنهم لمّا كانوا يعيشون عقدة تاريخية من موضوعة العلمنة، وقد دخلوا ساحات التأثير في القواعد الشعبية على أساس أن الإسلام ضد العلمنة، وأن العلمانية فقدت مصداقيتها وجدارتها. ولمّا كان هذا هو حالهم الذي لا يُغبطون عليه، اخترعوا اسم «المدنية»؛ وما المدنية في حقيقتها إلا مرادف لكلمة العلمانية حينما نطرحها على صعيد السلطة السياسية.. لذا، أليس من الأجدى بهم أن يصارحوا الناس، كما فعل أردوغان في تركيا، ويقولوا إنهم يتبنّون علمانية بنكهة إسلامية؟
أما الخلافة الراشدة، فكيف تصلح مع دستور يراعي الحدود الجغرافية، وأول شرط لها نفي الحدود الجغرافية؟
ومن هو الخليفة الذي ستجتمع الأمة عليه؟ وهل باتت الأقطار والأوطان في العالم العربي مُهيأة لفكرة «الإمارة الإسلامية»؟ هل ما زال فقه الهجرة والأنصار والذمّية والعهد مؤهّلًا لحل مشكلة القاطنين والمنتسبين لدار الإسلام الذي يقابله دار الحرب؟
وفوق هذا وذاك، لقد قدّمت الخلافة الإسلامية نماذج منها، ما يعود للعهد الراشدي وهو متنوع، وآخر للعهد الأموي والعباسي وهو ملكي؛ وثالث إسقاطي على طريقة الظاهر بيبرس والدولة العثمانية،... فعن أي نموذج نتحدّث؟ وما هو معيار المفاضلة بين نموذج وآخر؟
أطرح هذه الأسئلة ولا أتوقع جوابا، إنه الفراغ. إنها الثقة الضائعة أمام هول ما يحصل من إرباكات، لعل أكثرها خطورة اليوم، هو ما يصدر عن مصر.. إذ بدأت جماعات من «الإخوان المسلمين» وغيرهم، يتحدثون عن أن العالم الإسلامي محكوم بواحد من نموذجين: الإسلامي التركي العلماني، والإسلام الإيراني الشيعي الذي بدأ يُقدِّم على لسان مرشده الإمام الخامنئي صيغة «السيادة الشعبية الدينية».. والتي يفترض أصحابها أنها تقوم على ثلاثي: الاجتهاد النصوصي؛ وهو منهجية إسلامية طورها العقل الإسلامي في إيران، لتدخل بناءات النظام الحكومي والإداري، والخصوصية الثقافية والحضارية لكل أمة ودولة، بحيث تمتلك القدرة على صياغة هذا الدستور أو ذاك شرط أن يراعي إرادة الشعب المنتسب لهذه الخصوصية أو تلك، أما البعد الثالث، فهو المعاصرة التي لا تعني (التحديث)، بل (التجدّد الفكري والاجتهادي ـ السياسي)..
وتفترض جماعات مصر، أن كلا النموذجين يمكن التفاهم معهما، لكنهما لا يعبِّران عن مضمون النموذج الإسلامي الذي يريدونه، إذ النموذج التركي علماني، وقد أبلغوا أردوغان رفضهم له.. أما النموذج الإيراني فهو شيعي، وهذا خلاف قناعتهم المذهبية.. لذا، فإن عليهم النهوض لبناء نموذج جديد قادر على تكوين الأفق الإسلامي للأمة والجماعة.
لكن إلى الآن، المسألة مسألة طموح.. ولا أدري إن كان هذا الطموح له علاقة ببعض المواقف من صراعات المنطقة وقضاياها، كالصراع في سوريا، وليبيا، والعراق.. وقضايا فلسطين والاحتلال والاقتصاد.
من موجبات معرفة الإجابات أن ننتظر الانتخابات الرئاسية في مصر، وإلى أين سيؤول الأمر بين «المجلس العسكري» و«حزب النور» و«الإخوان»، كما أن ننتظر مصير سوريا..
لكن سؤالي الفعلي ليس هنا، إنما:
هل ما سيقدّمه هذا النموذج هو ما يُلبّي طموح الأمة؟ ومن هي الأمة؟ أمة الإنسان.. أمة المسلمين.. أم أمة الملّة؟
أرجو أن أكون مخطئًا، وأن يتجاوز الجمْعُ ممن ضمَّ حديثنا عقدة أمة الملّة بمعناها المذهبي أو المدْرسي، وإلا على الإسلام والسلطة، السلام.

شفيق جرادي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...