النهاية رهان الرواية الكبير في إشغال القارئ وكل نهاية تبلبل عالم النص

20-08-2010

النهاية رهان الرواية الكبير في إشغال القارئ وكل نهاية تبلبل عالم النص

في نهاية كل رواية، الحديثة منها باضطراد، نظراً لانشغالها الأسلوبي كثيراً، نتلمس تحدّي القراءة الأكبر من خلال النهاية المعلَنة، أو إثر قراءة (تمت)، مثلما نشهد حالة من حالات خيانة القارئ المضمَرة أو المقدَّرة بما ألِفه سابقاً، لأن النهاية في مفهومها الفنّي ليست أكثر من إشهار قطيعة معينة مع البداية أيضاً، ليكون في مقدورها لقاؤها. إن السطور الأخيرة من الرواية، أو ربما الجمل المعدودات في نفسياً، وكأننا في الحالة هذه نكاشف الجهات كافة، مدقّقين في ظلال أثرها محيطياً وكيف تتشابك نهايات عدة فيها، وهذا ما يمكن تلمسه في تعاملنا مع أي أثر أدبي (روائي حصراً هنا)، عندما تحفّزنا نهاية رواية أكثر من أخرى على تغيير انطباعنا أو تعديله الذي تبدَّى في البداية وفي ما بعد، وربما على صعيد قراءة الرواية أو فقرات منها مجدداً، أو المواجهة بين البداية والنهاية من جديد في ضوء النهاية المسطَّرة،/الفنان اللبناني نعيم ضومط (مواليد ١٩٤١). ولماذا بالطريقة تلك وليس سواها مثلاً! إننا لا نواجه ما يقابل الاستهلال أو المفتَتح أو المقدمة في الرواية، إنما كيفية انبثاق المقروء وتجليه دلالياً من خلال حركية النهاية، ولعل خوف الروائي من النهاية هذه كما هو متوقع يتأتى من المكانة الخاصة بها.
إذ ثمة تحرك للروائي في المكان اللاتقليدي، ومواجهة للنهاية المفتوحة، وهو على الجرف، وتردد صدى مستمر من حوله: هذه هي الهاوية فلتقفز هنا!
إذ أن نزوعاً إلى السردية المضادة، أو اللاترابط يكاد يمثّل العامل المسيطر على الرواية، اعتماداً على شعور القارئ بأن الذي يسمّي الرواية هذه هو تبدد الوحدة كمفهوم مميّز للسرد الحكائي.
لانهاية النهاية
تقوم الرواية في عموميتها على تأكيد مدى براعة الكتابة أو ضعفها، أعني هنا ما يخص لحظة المغامرة التي تحدِث خرقاً في نظام الأشياء بكثافة حُلمية على أرضية الوصف، ولا مجال لكتابة أدبية دون وصف ٍهو لحمتها. النهاية افتراض مقرَّر، معزَّز من خلال معاناة قائمة.
نحن إزاء تاريخ من الأفكار والمعتقدات والخبرات والجرأة في معايشة عالم دون آخر على صعيد الإبداع، إنه العالم الذي يفسح المجال واسعاً أمام الروائي في أن يدير ظهره كثيراً لعالمه الذي يعيش، متخلياً عن الخطوط المستقيمة التي تفرض عليه تحركاً معيناً، أو انتقالاً معلوماً من بداية مألوفة ونهاية تترتب عليها، حيث أن الروائي اليوم، وبأكثر من معنى، يبدو أقرب إلى الخارج عن نطاق العائلة، إنه الباحث عن أب يعنيه، عن أب يكوُنه في تنوعه، يتنكر له إخلاصاً لعمله. إنه لم يعد نزيل عالم السرد الحكائي، ولازمة: توته توته، خلصت الحدوتة في النهاية!
فلا تكون النهاية أشبه بحلقة منتمية إلى مجموعة حلقات السلسلة التي تكونها الرواية بالذات، إنما تتفرع وترتقي إلى مستوى صادم، إلى حالة اللامتوقع وكأن النهاية هنا تقاوم اسمها، أو ما هو متداول عنها هنا وهناك، كأن الروائي نفسه ينزع عن قارئه ما ألِفه سابقاً، فالمباغتة تتنوع بدورها هنا، وهي تكون مقابلة للرواية وقد تراءت في بُعدها الجغرافي، متعددة القمم والسفوح المتفاوتة الانحدارات لها كما لو أن كل قمة لسان حال بداية ما من خلال فراغات الرواية.
إن المسافة الفاصلة بين بداية الرواية ونهايتها من جهة الصياغة راهناً، تمثّل مدى التحول في نظرة كاتبها إلى ما يجري من حوله، وإلى نفسه، وهو أبعد ما يكون عن تقديم نص يسالم محيطه!
نعم، إن المهمة الكبرى للرواية تكمن في تغيير الفكرة القائلة بأن الأهم هو معرفة البدء، معرفة الخيارات المعتمَدة عند الروائي ليباشر كتابة روايته، وكأن النهاية تمثّل الضميرَ المتصل بها.
النهاية المتشكلة لا تمثُّل وصولاً إلى تخوم مرسومة، لا عالم وراءها، إنما ثمة حركة طي أخرى، متروكة لتفسيرات النقاد لتكون الرواية استشراف عالمها غير المسمَّى لحظة بلوغ النهاية الخطية، لنكون إزاء لا نهائيات النهاية إزاء أكثر من دورة جديدة لبدايات يفعّلها متخيل القارئ، وهو يتوقف عند عبارة (تمَّت)، كما هو المعايَن في الرواية الرحالة في الزمن بذاكرات عدة.
الحديث يجري عن الأدب الذي يشد الكاتب إليه، من خلال مفهومه الأخلاقي وهو جمعي حيث تتراءى الحكاية وما يتشكل وفق إيقاعها نسقياً، والأدب الذي يجلو البعد الفردي أي الإبداعي للكاتب، إذ يتشكل مجتمع كثير التنوع، تخيلي، يراهَن عليه أبعد من أن يكون تناغمياً.
يعني ذلك، في ضوء ما تقدَّم، أننا لسنا إزاء عالم هيولوي (من الهيولى) للرواية فقط من خلال النهاية المفترضة لها، وما في ذلك من تغيير في مفهوم السرد بترابط عناصره النصية، إنما إزاء انفجار عالم الهيولى هذا، لا يراد له أن يتكون، فلا مجال للبحث عن أسطورة التكوين بالنسبة إلى البداية، ولا جدوى من النظر في نهاية معينة، أو انتظارها، لأن تحولات العالم المختلفة تستوجب مثل هذا الارتحال الدائم والذي يجعل كلاً من الروائي والقارئ مسكونين بلا تناهي النهاية، لأن جغرافية المكوَّن الروائي مقتطعة من عالم افتراضي، هي حيلة الروائي لتأكيد عالم يهرب منه.
ما على القارئ إلا أن يكون نزيل الهاوية، تلك التي تمكنّه من سبر القدرات الإبداعية أو الفنية لكاتب الرواية، وبالتالي، فإن الروائي هذا إذا كان المحلّق في الهاوية، وهي تمد في عمر أثره الأدبي أكثر، يكون القارئ ملزماً بالتحليق مثله، أو في أن يكون الماضي فيها عمقياً.
ثمة أجندة متنوعة، لا حصر لها، تلك التي تستولدها نهاية الرواية ذات الطابع المنفتح على احتمالات شتى، إنها الأجندة التي تضمن تحفيزاً أعمق لمتخيل القارئ، وقد اتسع به مقام القراءة في مجتمع الروائي الهائل، ليتم تشابك النهايات ووصفها لدى كل من الروائي والقارئ، حيث إن الروائي يخرج عن طور السرد وما فيه من انتظام أو اتساق، كما لو أن الرواية وهي تتقدم صوب نهايتها ليست أكثر من لعبة داخل أخرى، مادام هناك نبض حياة.
رؤية مبهمة
إن ازدحام الصور وتعدد خيارات الكتابة، يؤهلان الروائي لكتابة رواية تراهن على سرها كثيراً.
إنه إسناد أكثر من دور للمفهوم الواحد كما الحال في شأن النهاية المقرَّرة والتي تعمّق من خطورة الفعل الروائي.
لا يعود الكاتب بهذا المعنى عموماً متحدثاً باسمه كشخص، ولا كممثّل لأحد ضمناً، إنما هو ذاته مذرور في ريح عاصفة، مهما تجلى متماسكاً في نصّه. فما يخطه بقلمه لا يمثّل إلا رؤية مبهمة، وإن اتضحت معالمها، حيث التأويل يتكفل أكثر بمقاربتها نقدياً، إنه سعي إلى كيفية تجنب الوقوع في الهاوية، وهي بعيدة، ليكون المفهوم الجرفي حقيقة ماثلة أمام العيان، وربما لا يحتاج إلى تقريب للذهن، بما أن إحدى أهم سمات الرواية الحديثة هي مواجهة العالم بالهاوية الأعمق غوراً وتهديداً له، لأن ثمة مستجدات كونية وإقليمية ومحلية، ترشّح قراءة من هذا النوع.
إن النهاية هنا في ضرب من ضروب بلاغتها المتخيلة، لا تستثني أحداً من البقاء مطمئناً وهو كائن جرفي. فالجرف لا يضعنا في مواجهة الموت، إنما في كيفية تخطيه رغبة في حياة أمثل!
إن الروايات العظيمة تعزز في قارئها هذا الشعور الاوقيانوسي بوجود هُوى (من الهاوية)، حيث يتحتم على القارئ المزيد من سبر القاع وتلمس الحدود السفلية وتقدير القمقم التي يحفل بها النص الروائي وسمة التذرير في المعاني فيه، النص الذي يتجاوز مفهومه كوحدة دلالية.
في الحالة هذه يغدو الروائي ذاته شخصية طائفة بين سطور روايته، وأكثر منها في الفراغ الرحب المدى للنهاية الحسية، بقدر ما يجد القارئ نفسه محكوماً بلغة التحول الانعطافية، ومسكوناً بفتنة قراءة من نوع غير مسبوق، لتشهد الرواية على أنها لم تزل تمتلك القدرة على تلبية رغبات قارة في النفس، أنها تحيل كلاً من التاريخ والجغرافيا إليها وتلد نظائر رمزية لها داخلها على صعيد الإبداع، مثلما تكون موعودة باستمرار بقرائها الباحثين عن التنوع فيها.
اللاتناهي
إن الجرف بقدر ما يحذّرنا من النظر في الأسفل وهو يوغل في اللاتناهي، ينبهنا إلى لا أمان الوقوف عليه بالمقابل، وما يعنيه ذلك من التأني في قراءة النهاية، وارتباطها بمغامرة القراءة، وعلاقة القارئ بالروائي نفسه، حيث أن للذاتية بعداً يكاد يكون محورياً في كتابة الرواية رداً على استلاب الروائي وهو يتراءى لساناً ناطقاً باسم غيره، إن ذلك يعني أيضاَ ضرورة (أن نحترم النص، وليس المؤلف بوصفه شخصاً وكذا وكذا. فكثيراً ما يقول المؤلفون أشياء لا ينتبهون إليها ولا يكتشفون ضرورة قولها إلا بعد ردود أفعال قرائهم..)، بتعبير إمبرتو إيكو.
نعم، كل نهاية تبلبل عالم النص، ترسل إشارات خاصة بها من خلال الروائي، مقابل عالم يفتقر إلى التناسق المزعوم، وكذلك قارئ روايته الذي يتحرى إشارات تعنيه فيها. إنها خميرة تسمي الرواية اللاحقة، ولدى الأصفر نوع من حالة الجذب النفسية، وهو يحاول الزج بكل ما استطاع إليه سبيلاً من أدبيات تاريخية واجتماعية وسياسية وغيرها، تحصَّلت لديه، أو اطَّلع عليها، وهو يلقّم بها شخصياته المختلفة السوية والمرضية وهما معاً، أو هو ذاته في شخصيته المركَّبة أدبياً، حيث يتم تمرير الكثير مما هو يومي بطرق شتى، وكأن لا نهاية لما يؤسِره في عالم انفجاري..!
لعلها نظرة مرتسمة في إهاب المكان الذي يتحدى الزمان، وقد أسنِد إليه دور البطولة، ولكن ما يبقى قيد المساءلة أو المناقشة، هو: هل حقاً أن هذا التفاؤل استباقي أم مجرد سعي إلى تبين التشاؤم، وتلمُّس الرعب القادم والمتمثل في اختراق المكان من الخارج، والعبث بتاريخه نفسه؟
ليس لدينا سوى الافتراض في مفهوم النهاية وقد تنوعت بأوصافها، تأكيداً على مرونة المفهوم، في تعزيز إرادة القارئ، وهو مقبل على الرواية مجدداً، في إرساء بدء جديد تلو آخر كما هو شأن الروائي الذي بات المواجَه بذاته، إلى جانب القارئ الذي لا يفارق ذاته اليومية والفنية!

إبراهيم محمود

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...