الوسطية الإسلامية: المفهوم، التحديات، الأدوار
لا مراء أن الاتجاه الوسطي في الإسلام يظلم نفسه إذا تماهى مع من يعتبرونه اتجاها من بين الاتجاهات الإسلامية المتعددة، فليست الوسطية اتجاها وإنما هي إحدى الخصائص الذاتية الثابتة اللاصقة بالإسلام، ففي كل إفراط وتفريط، وفي كل تأويل مبالغ فيه ذات اليمين وذات اليسار، وفي كل تركيز على جانب من جوانب الإسلام على حساب سواه، جنوح كبير أو صغير عن الإسلام نفسه.
ونحن -عبر كلمة الوسطية- لا نبتدع جديدا في المضمون، بل ننطلق من الإسلام كما هو، فيمكن استخدام تعبير الوسطية الإسلامية من باب تسمية الأشياء بمسمياتها، ولا ينبغي أن نقول الإسلام الوسطي، كما لو كان يوجد إسلام آخر.
في هذا ما يشير إلى أنّ الحديث عن الخطاب الوسطي في العلاقة مع الآخر هو الحديث عن الخطاب الإسلامي نفسه، وهو كلّ متكامل متوازن، فلا توجد حدود فاصلة بين الخطاب الوسطي الإسلامي مع الذات والخطاب الوسطي الإسلامي مع الآخر، إنما يأتي الفصل عبر عنوان الموضوع من باب النظر في جزء من كلّ، ممّا يساعد على البحث في الموضوع فحسب، وينبغي استحضار ذلك في مختلف فقراته.
ولا أحسب أنّ المقصود بالعلاقة مع الآخر في العنوان، هي العلاقة مع الآخر داخل المجتمعات الإسلامية من حيث غالبية أفرادها، فالآخر هنا -وإن تعدّدت الاتجاهات وتواجهت- قطعة من الذات الإسلامية المشتركة، دينا وحضارة أو حضارة على الأقل، فيسري على التعامل معها، بمختلف تصنيفاتها، كالعلمانية والقومية من حيث المنطلقات والتصوّر، والشعبية والرسمية من حيث الموقع، والفكرية والإعلامية وغير ذلك من حيث المضمون.. يسري على التعامل معها من الأسس والقواعد والأساليب ما يراعي أن الجميع معا يمثلون الذات الإسلامية، وقد لا يسري ذلك على المطلوب في عنوان الموضوع بصدد العلاقة مع الآخر. ما دام المقصود هو "الآخر" خارج حدود المجتمعات الإسلامية من حيث غالبية أفرادها، ولا نغفل أن ذلك "الآخر" هو أيضا جزء من الذات الإنسانية المشتركة، أو هذا الذي ينبغي أن يكون معيار ما نطمح إليه من خلال الخطاب الوسطي الإسلامي.
أودّ هنا التنويه أيضا بأننا عند ذكر الآخر نركّز الأنظار على الغرب غالبا، فما زال القصور عامّا وكبيرا على صعيد طرح الموضوع فيما يتربط بالآخر في مجتمعات الشرق الأقصى، كالصين والهند واليابان وحتى المجتمع الروسي، رغم أن المتغيّرات الكبرى الجارية على خارطة الأسرة البشرية، تؤكّد أننا سنواجه هذا الموضوع على أرض الواقع بصورة مباشرة في المستقبل المنظور وليس على المدى المتوسط أو البعيد فحسب.
وللعلاقة مع الآخر في الغرب بالذات خصوصياتها التي لا يمكن أن تغيب عن معالم الإطار العام للحديث حول ما نسميه الخطاب الوسطي على صعيدها، وفي مقدمة هذه الخصوصيات:
1- الإرث المعرفي وغير المعرفي عبر تقلب العلاقات التاريخية من قبل الفتوحات الإسلامية وعبر الحروب الصليبية ثم العهود الاستشراقية والاستعمارية إلى العصر الحاضر.
2- يتردّد باستمرار أنّ الغرب ليس متجانسا، فالحديث عن الآخر في الغرب يعني الحديث عن أصناف متعددة، على كل صعيد، ويتطلب تبعا لذلك رؤى متعددة ومتكاملة، لممارسات التعامل تحت عنوان الخطاب الوسطي الإسلامي.
3- لا ينبغي أن نستمدّ المعالم المطلوبة للخطاب الوسطي الإسلامي مما يصنعه الآخر في الغرب، وإلا تحوّل إلى ردود أفعال فحسب، إنّما ينبغي إلى جانب التفاعل الواعي والهادف مع ما يصنعه، أن ننطلق ذاتيا من مواصفات الوسطية، وبالتالي من مواصفات الإسلام، لينبثق عن ذلك ما نسمّيه خطابا وسطيا إسلاميا.
4- كلمة نحن أو كلمة الذات الكامنة في ممارسة الخطاب الوسطي الإسلامي القويم، لا تعرّف كتلة بشرية متجانسة أيضا، فلا بدّ من مراعاة تعددية أشكال الخطاب الوسطي الإسلامي على أكثر من أرضية، جغرافيا بالتمييز بين من يمارس هذا الخطاب من داخل المجتمعات الإسلامية تجاه الآخر في الغرب، ومن يمارسه من داخل المجتمعات الغربية نفسها، ووظيفيا، من خلال مَن يشغل موقعا فكريا أو سياسيا على سبيل المثال ومَن يشغل موقعا من مواقع التعامل اليومي على صعيد مهني مثلا آخر، إضافة إلى معايير أخرى للرسمي والشعبي، والنطاق العام والعلاقات الخاصة، والاحتكاك العلمي أو الفكري أو الإعلامي.. وغير ذلك.
5- يتصل بذلك التأكيد أنّ كلمة خطاب قد غلب على فَهمها ما تعنيه الكلمة، مكتوبة أو مسموعة، في وسيلة إعلامية أو كتاب أو مؤتمر، أو حتى ما يمكن أن تعنيه لوحة فنية يتفاعل الآخر معها، إنّما لا يتحقق مفعوله المرجوّ، ما لم ننطلق من المعنى الأشمل للكلمة بميزان التأثير والمفعول، بحيث نعتبر التصرفات والسلوكيات والإنجازات وأشكال التواصل في مختلف الميادين، أجزاء متكاملة في لوحة فسيفساء الخطاب الوسطي الإسلامي، فلجميع ذلك أثره على الآخر، وقد يكون بعضه أبلغ مضمونا وأبعد مفعولا من تأثير الكلمة والصورة وسواهما من أشكال التعبير التقليدية.
ولا يدخل تحديد خصائص الخطاب الإسلامي المطلوب في صلب هذا الموضوع، إنما أنوّه هنا بإيجاز ببعض ما يرتبط أكثر من سواه بمسألة العلاقة مع الآخر:
1- الخطاب الإسلامي متجدّد متطوّر
كلمة الخطاب الإسلامي، وتطويره وتجديده وإصلاحه في مقدّمة الكلمات المطروحة إسلاميا منذ ما لا يقلّ عن قرن ونصف القرن، سواء من حيث أنه قائم بذاته أو من حيث علاقته بالآخر، إنما يُلاحظ لدى كلّ مِن يدرس تطوّرَه التركيزُ على منظور علاقته بالغرب، ومثال ذلك ما يراه الباحث السعودي زكي الميلاد في دراسة قيّمة، أنّه مرّ بأربع مراحل تاريخية حديثة في تطوّره، أولاها الرفض المطلق للتطوير خشية التغريب، والثانية محاولات انفتاح حذرة على حداثة الغرب، والثالثة اندفاع باتجاه النقل أو ما يمكن وصفه بالتغريب، ورابعها المرحلة المعاصرة التي باتت تُربط منذ مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين بأزمة ما يسمّى الإرهاب ويغلب عليها ردود الفعل"1".
الجدير بالذكر أنّ هذه المراحل التي يستخلصها زكي الميلاد من حقبة تناهز القرنين داخل العالم الإسلامي، تسري دون تعديل كبير على ما شهده الخطاب المنبثق عن الوجود الإسلامي البشري في الغرب، ولكن مع اختزال تتابعها زمنيا في فترة لا تزيد عن نصف قرن. ولا يخفى أن هذا التقسيم على مراحل زمنية لا ينفي وجود تلك المواصفات للخطاب الإسلامي متزامنة متجاورة، في كل مرحلة على حدة، إنّما المقصود ما تقول به قاعدة الأعمّ الأغلب.
ولا ريب أيضا أنّ كل مرحلة منها ارتبطت بأسباب ذاتية أخرى، منها على صعيد العالم الإسلامي مسلسل آثار حقبة الانحطاط الذاتي على المستوى الحضاري، وآثار انحراف علاقة الحاكم والمحكوم نحو الاستبداد، ومنها على صعيد الوجود الإسلامي البشري في الغرب، تبدّل التركيبة النوعية من غالبية وافدين عمال إلى غالبية مستقرّين ومواطنين من الطلبة والخريجين والمثقفين والمهنيين، واقتران ذلك بتبدّل الوسائل المتوافرة لغة واستيعابا لطرائق التعامل وحجج الإقناع.. وغير ذلك من العوامل.
لا ينبغي إذن أن ينفصل منظورنا إلى مواصفات مميّزة للخطاب الوسطي الإسلامي تجاه الآخر في الغرب، عن جملة ما يرتبط بها في بوتقة التطورات الأوسع نطاقا، ودون الغفلة عن مجرى ردود الأفعال حولنا، إفراطا أو تفريطا، لا سيما مع وجود من يتشدّد ويتعنّت ويعتبر نفسه وسطيا ملتزما بالوسطية الإسلامية، ووجود من يفرّط ويميّع ويزعم شبيه ذلك، وهنا لا بدّ من الحذر من تحوّل الطرح الوسطي الإسلامي إلى ساحة معارك جانبية متواصلة، بقدر ما نحذر من الانسياق في سلسلة ردود الأفعال على التطوّرات، فهي القاسم المشترك في عدم استقرار الخطاب الإسلامي عبر المراحل التاريخية الماضية على صيغة واضحة بما فيه الكفاية ليشار إليها بالبنان وتصبح مقياسا للحكم على ما سواها.
إنّ من أخطر المنزلقات في طريق الخطاب الوسطي الإسلامي الحالي فيما أحسب، أن يتحوّل من حالة معبّرة عن الإسلام المتكامل المتوازن نفسه، إلى اتجاه يتورّط في معارك جانبية مع اتجاهات أخرى. وأخطر المداخل إلى ذلك أن يصبح -أو أن يُدفع به دفعا- ليكون مجرّد ردّ فعل على ردود فعل منحرفة أخرى عموما وفي العلاقة مع الغرب تخصيصا، فيميل إلى التركيز -حسب احتياجات معركة جانبية دخيلة- على جوانب من الإسلام دون أخرى، أو إلى إبراز بعض ميزاته على حساب بعضها الآخر، تماشيا مع ما يقال عن ضرورات الردّ على ما يصنع الآخر في الغرب وما يطرحه وينطوي على افتراءات أو مغريات وغضبة عامة المسلمين إزاءها، أو تماشيا مع ما يقال عن ضرورات الواقع القائم في البلدان الإسلامية نفسها، واحتياج الممارسات السياسية إلى نفي اتهامات التطرف والإرهاب وما شابه ذلك عبر أطروحات السلام والتسامح وحدها، رغم التعرّض لعداء الآخر.
نبيل شبيب
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد