برليـن تحتفي بشعراء "المتوسط"

16-07-2010

برليـن تحتفي بشعراء "المتوسط"

أن يقام في برلين مهرجان متوسطي للشعر فهذا جديد، ألمانيا ليست مثل فرنسا وإيطاليا واليونان واسبانيا بلداً متوسطيا ان مدارها أوروبا الوسطى وبالرغم من قربها من بلاد متوسطية الا انها لم تشارك في تاريخ المتوسط. مع ذلك المانيا بلد أوروبي مركزي ولا يستطيع بلد ذو زعامة اوروبية ان يتجاهل المتوسط. لعل واحداً من نتائج العصر الحديث هي قرب ما بين ضفتي المتوسط واجتماع البلدان الواقعة عليهما في منطقة واحدة. أوروبا اليوم متوسطيها وغير متوسطيها لا تقدر على التملص من المتوسط بالمعنى الجغرافي او الاقتصادي او السياسي والمانيا إحدى دولتين في زعامة أوروبا، هذه المكانة وحدها تجعل لها عيناً على المتوسط ثم لا ننسى المطلب التركي في الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، إذا تم فسيكون لألمانيا معبر إلى المتوسط يجعلها أقرب فأقرب إليه.
المانيا مع ذلك ليست متوسطية رغم ان مستشرقيها بين الأكثر إحاطة بالتراث العربي والأغنى نتاجاً في هذا المجال. ليست متوسطية رغم ان الابادة النازية لليهود عامل رئيسي في ولادة اسرائيل. ليست متوسطية اذ يبعدها عن المتوسط المزاج والتاريخ والثقافة لكن العالم اليوم أكثر تشابكا ومع ملايين الأتراك الذين صاروا ألماناً من يستطيع القول أنها بعيدة عن المتوسط.
رغم كل شيء يفاجئنا مهرجان متوسطي في برلين ويفاجئ الألمان أنفسهم. انه مهرجان متوسطي لكن ينبغي ان لا نأخذ هذا بحرفه. المهرجان المتوسطي وريث مهرجان عالمي ظل ينعقد عاما بعد عام إلى ان تخلت عنه الشركة اليابانية الراعية، تغير الاسم الا ان المهرجان الحالي قد يكون نسخة أخرى عنه، سيكون المهرجان لذلك هو المهرجان العالمي مع مسحة متوسطية أو خصوصية متوسطية، لكن ما هي حدود المتوسط بالنسبة لألماني، قد تكون هي ذاتها الحدود التي تبعدها عن أميركا اللاتينية أو افريقيا انها كل حدود تفصلها عن ثقافة أخرى.
الافتتاح مهرجاني. شعراء من كل مكان قرأوا بلغات عدة، راب بالفرنسية يزعق بلغة جرائدية ضد الهيمنة الغربية، أنا لوني، أنا حريتي. أي كلام كهذا، لكن الأداء قوي ويستحق تصفيقاً. لم يقدموا أشعاراً صوتية أي مجرد تصويت بلا لغة لكن بوتائر وإيقاعات مختلفة. لم يكن بين شعراء الافتتاح شاعر متوسطي واحد.
أمسية الافتتاح هي غير الافتتاح المهرجاني نفسه، انها مقابل بطاقات مدفوعة. شعراء من كل البلدان سوى المتوسط، شاعرة اسرائيلية والباقون من أميركا اللاتينية والشمالية وأوروبا غير المتوسطية. وزعوا على الباب كتاباً يحوي ترجمات ألمانية لقصائد الشعراء. انه ذات كتاب مهرجان الشعر العالمي المنقضي، ذات القطع وذات الغلاف، هنا المهرجان القديم ما يزال قائماً. أما الغريب فهو ان الاحتفال الافتتاحي كان حاشداً لكن الأمسية الأولى المدفوعة فكانت أيضا حاشدة. كان مفاجئاً ان تكون الصالة ملأى إلى تمامها. ذلك يعني ان يضع مئات جاؤوا لحضور المهرجان، شيء لا نجده إلا في مهرجانات كبرى كميديلين وربما روتردام. في فرنسا مهرجانات كثيرة ومتنوعة للشعر لكننا لا نأمل بنصف هذا العدد. كان المهرجان العالمي يستقبل آلافاً واليوم لسنا بعيدين عن الألف الأولى، في ألمانيا ثمة جد في كل شيء، لا تكفي المظاهر ولا الحضور الرمزي، ثمة جمهور لكل شيء. ثمة مهتمون لكل مجال. غداً يبدأ المتوسط والشعر المتوسط خصوصاً ليلتان للشعر العربي. احداهما مشرقية والثانية مغربية. المشرقية تضم شاعراً فلسطينياً (زكريا محمد) وسوريا (منذر المصري) ومصرياً (علاء خالد) وأنا اللبناني. سبقت الأمسية ندوة عن بيروت والاسكندرية ضمتني وعلاء خالد، أدار الندوة ميشائيل كليبرغ الصديق الألماني الذي شاركني في مغامرة ديوان التي انتهت بكتاب عن بيروت، ومجموعة شعرية عن برلين. منذ ذلك الحين لم ينقطع ميشائيل عن لبنان ولا انقطعت عن برلين ولم ننقطع عن بعضنا. فضلاً عن كتاب عن بيروت اختارها ميشائيل لفيلم عنها سماه عودة قدموس ومداره كما يوحي اسمه العودة من الغرب. غدت بيروت، التي تكلم عنها ميشائيل في كتاب مؤشر وجميل ونزيه ايضا هو «الحيوان الباكي»، واحدة من الأماكن التي تستقطب اهتمام ميشائيل كما عند الشرق العربي بالتالي واحد من مطارح شواغله، أسئلة ميشائيل كانت دقيقة وتفصيلية، بعد مقدمتين تكلمنا فيهما أنا وعلاء عن تدهور المدينتين، كانت الأصولية الإسلامية والحرب والصلة بالغرب عناوين أساسية في النقاش. لا شك ان الاهتمام الكثيف بالشرق العربي بعد 11 ايلول مكسب لكن الاهتمام الجماهيري غالبا ما يكون ضجراً ومتعجلاً ويريد من يلخص له ويبسّط ويختصر في كليشيهات أو شعارات، وبين العرب من يشارك في هذا التبسيط والتلخيص وكفاية المؤونة. الأمسية المشرقية كانت ناجحة. ألمان وعرب استمعوا وتجاوبوا لكن الحفلة الموسيقية كانت أكثر تعبيراً عن الالتباس والمفارقة. موسيقيون بعباءات تذكر بالتي يرتديها ملوك الطرب في حلب، انها حلب عاصمة الموسيقى الشرقية في برلين، الفرقة بقيادة فيولون مع كونتر باص مع عود مع قانون، وإذا علا صوت القانون فإن صوت العود ظل غير مسموع تقريباً اما القيادة فهي للفيولون، ثم ان الغناء نفسه كان بصوت جميل وأداء حر لا يناسب هذا التقليد المزعوم. حلب في برلين، المتوسط في برلين والنتيجة أننا لسنا في أي مكان.
عرضوا للبيع كتيبات لكل شاعر مشارك في الأمسية باللغتين العربية والألمانية، أظنها نتيجة جيدة. ليلى شماع التي ترجمت قصائد تلفنت لي من أجل كل عبارة، احتاجت إلى تدقيق، كانت تريد أن تقبض تماما على المعنى. لا أعرف الألمانية لكن يمكن ان أستنتج من ذلك نزاهة وجدية ليلى. بيد ان المهم بالنسبة لي هو ان أسئلة ليلى جعلتني أعيد فهم قصائدي. الترجمة تحتاج إلى معنى، وهي هنا المحك الحقيقي لوجود هذا المعنى أو انعدامه.

عباس بيضون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...