المحكمة الجنائية الدولية قيد المحاسبة
عندما دخلت المحكمة الجنائية الدولية حيّز التنفيذ في 2002 كأداة دولية لإحقاق العدل والإنصاف الدوليين، اعتبرت ثورة في نظام العدالة الدولية لوضع حدّ للإفلات من العقاب. لكن، وفي ظل نظام دولي انتقائي غير عادل، فشلت هذه الأداة في تحقيق غايتها. هذا ما أكده المؤتمر الأول لمراجعة نظام المحكمة الذي عُقد أخيراً في أوغندا، كاشفاً التسييس الفاضح للعدالة الدولية، وعزز من الاتهامات بأن المحكمة أبعد ما تكون عن وضع حدٍّ للإفلات من العقاب. لتبقى المحكمة أداة في يد الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي، الجهة الوحيدة القادرة على تكليفها بقضايا ضدّ دول غير أعضاء، بينما 3 من الأعضاء الدائمين رفضوا الانتساب إلى المحكمة
- أجرى مؤتمر بشأن المحكمة الجنائية الدولية، عُقد أوائل الشهر الماضي في كمبالا، وحضرته وفود من 111 دولة، مراجعة لتعديل النظام الأساسي لمعاهدة روما لناحية حقوق الشعوب خلال الحروب، ولا سيما في موضوع الجرائم بحق الإنسانية، وحماية العدالة، وجعل المحكمة أكثر جرأة في محاكمة جرائم الحروب العدوانية، وانتهى بقرارات أبعدت المحكمة الدولية أكثر عن العدالة الدولية.
وفي كلمة ألقاها في المؤتمر، حدد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أهداف المحكمة في «وضع حد للإفلات من العقاب، وحلول بطيء وأكيد لعهد من المحاسبة». لكن الخلاف في المؤتمر تمحور حول مفهومي الحروب الدفاعية والحروب العدوانية والأساليب المتبعة فيهما لجهة تمييز الأساليب القتالية المحقة من الأساليب الإرهابية.
ووافق مؤتمر كمبالا على عدم حذف المادة 124 من نظام معاهدة روما، التي تسمح للدول بعدم إخضاع مواطنيها للتحقيق على يد المحكمة أو للتحقيق في جرائم حرب لمدة 7 أعوام. كما وافقت الدول على تمديد اعتبار استخدام المواد السامة والمواد الكيميائية كجرائم حرب في النزاعات غير الحكومية.
ولم ينجح مؤتمر المراجعة في معالجة قضية رئيسية ثالثة تتعلق بجرائم العدوان، بسبب معارضة الدول الكبرى الخمس، التي لم ترغب في نزع جزء من سلطتها المطلقة عن رقابة العدالة الدولية. وجرى تعريف جريمة الاعتداء في اللحظات الأخيرة من المؤتمر بأنها «استخدام القوة بطريقة تخرق بوضوح ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك الغزو والقصف، ومحاصرة موانئ أو سماح دولة باستخدام أراضيها لمهاجمة أمة ثالثة».
وأخفق المؤتمر في منح المحكمة الجنائية الدولية صلاحيات تتعلق بملاحقة مرتكبي جرائم الاعتداء إلى حين تصديق 30 دولة على التعديل الجديد. إضافة إلى ذلك، سيتعين على الدول الأعضاء اتخاذ قرار موجب من أجل تفعيل صلاحياتها بعد 1 كانون الثاني 2017. وكان لافتاً أن دولاً غير أعضاء في معاهدة روما مثل الولايات المتحدة مارست خلال المؤتمر، الذي حضرته كمراقب، عملية وعظ ووصاية على الدول الأعضاء بشأن محاسن ومساوئ تعريف جرائم الحروب العدوانية بحجّة الطبيعة السياسية للجريمة. فالتعريف يكبّل حرية الدول الكبرى في ممارسة حروب على هواها فارضة مشيئتها وقوانينها ومصالحها.
وقالت الدول الكبرى إنه من خلال تولي قضايا جرائم الحروب العدوانية تتحول المحكمة إلى «أداة سياسية بما يقوّض دورها وفعاليتها». وإذا كان دور محكمة الجنايات الحماية من ارتكاب إبادة جماعية وجرائم بحق الإنسانية، فإنه بإخفاق مؤتمر كمبالا في توسيع صلاحياتها لتشمل الجرائم العدوانية يكون قد سمح فعلياً بمواصلة ارتكاب جرائم بحق السكان حتى تصديق الدول الـ30 على القانون الجديد. وبذلك تستمر ممارسة المعايير القضائية المزدوجة في المحكمة الجنائية الدولية التي وصفها الكاتب البريطاني دافيد هويل في كتاب أصدره أخيراً بأنها «محكمة جنائية أوروبية تستهدف المستعمرات الأوروبية السابقة» وقدم شرحاً مفصلاً لاتهامه.
هويل عقد مؤتمراً صحافياً في مقر الأمم المتحدة لخص وجهة نظره بأن معاهدة روما لا تسمح لدولة واحدة بدفع أكثر من 5 في المئة من تمويل المحكمة الجنائية. وإذ رأى أن الاتحاد الأوروبي يمثّل دولة واحدة متواصلة ذات رئيس واحد وعاصمة (بروكسل) وسياسة خارجية موحدة لها وزير خارجية وعملة موحدة، فإنه بذلك يساهم بـ60 في المئة من ميزانية سنوية تصل إلى 100 مليون يورو، بينما تحمّل الاتحاد الأوروبي القسط الأكبر من ميزانية تأسيس المحكمة التي بلغت كلفتها مليار يورو. وهذه الدول تختار قضاة بالتعيين «لم يمارسوا مهنة المحاماة قط»، وبنوا مواقفهم على تقارير «تعرضها محطة سي ان ان».
وأعطى دليلاً على انتقائية العدالة منح المدعي العام لويس مورينو أوكامبو قضية دارفور التي يموت فيها أقل من 200 شخص شهرياً (بمن فيهم أفراد المتمردين ورجال الأمن وقوات حفظ السلام) أولوية على المجازر الجماعية التي تتم في الكونغو الديموقراطية التي يسقط فيها ما لا يقل عن 45 ألفاً شهرياً.
وبالنسبة إلى ديموقراطية اختيار المحكمة، قال هويل إن الدول الأعضاء فيها لا تمثّل سوى 27 في المئة من سكان العالم بعد امتناع كل من الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة وأندونيسيا وباكستان عن الانضمام إليها. واللافت أيضاً أن مجلس الأمن الدولي، الذي يتمتع بسلطة خاصة على المحكمة، يضم 3 دول دائمة العضوية غير أعضاء فيها. وبالتالي فإن استقلالية المحكمة تبقى رهن ما يسمح مجلس الأمن لها به. وهو يسخرها لغايات سياسية عندما لا تكون الدول المستهدفة بالقضاء (كالسودان مثلاً) عضواً فيها، ولا يوجهها في قضايا إجرامية واضحة مثل ما وقع في غزة أو لبنان من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واعتداءات بحق السكان الآمنين.
الانتقائية في المحاكمة تتجلى أيضاً، حسب هويل، في اختيار الدول التي تقع فيها الجرائم. فمن أصل أكثر من 8 آلاف شكوى من 139 دولة، اختارت المحكمة 5 دول أفريقية ودولتين أوروبيتين (البوسنة وجورجيا) للتحقيق. وفوق كل هذا ربط الاتحاد الأوروبي مساعداته الاقتصادية للدول الأفريقية بقبول سلطة المحكمة الجنائية الدولية كسيف مصلت.
وطعن الكاتب البريطاني بموضوع الإفلات من العقاب، قائلاً إن المحكمة منحت حصانة ضمنية لكل دولة صديقة للاتحاد الأوروبي مثل إسرائيل.
قضايا المحكمة
تتولى محكمة الجنايات الدولية، التي دخلت حيّز التطبيق عام 2002، عدداً ضئيلاً من القضايا رغم كثرة جرائم الحرب في العالم.
كانت غالبيتها الساحقة في أفريقيا وواحدة في البوسنة، وهناك تكليف ببحث جرائم ارتكبت في جورجيا إبان حرب أوسيتيا الجنوبية عام 2008 طالما أن جورجيا من الدول الأعضاء في نظام روما. أما القضايا الرئيسية التي فتحت المحكمة تحقيقات بشأنها فتتناول قادة «جيش مقاومة الربّ» في أوغندا، والعنف الذي تلى انتخابات كينيا، وقضايا نائب الرئيس السابق في الكونغو، جان بيير بيمبا، ونائب رئيس ميليشيا في الكونغو الديموقراطية، توماس لومبانغا، وقائد البوسنيين الصرب السابق، رادوفان كارادجيتش، إضافة الى قضية رئيس السودان عمر حسن البشير.
وأصدرت المحكمة 9 مذكرات اعتقال وتحتجز اثنين مشتبه فيهما ينتظران المحاكمة.
نزار عبود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد