قليلاً من الإيمان أيّها المتديّنون
أوردت إحدى النشرات الدينيّة المسيحيّة خبرًا يدلّ إلى مدى التخلّف الذي بلغه الخطاب الدينيّ. والخبر المذكور يفيد أنّ علماء وكالة الفضاء الأميركيّة (الناسا) توصّلوا إلى "دلائل تبرهن صحّة الكتاب المقدّس"، وذلك بعد اكتشافهم "فقدان يوم في الفضاء في الماضي". ويزعم الخبر أنّ أحد العلماء تذكّر أنّ الله، وفق سِفر يشوع بن نون، أوقف الشمس في مكانها يومًا كاملاً. غير أنّ الخبر لا يكتفي بهذا القدر، بل ينسب إلى الكومبيوتر أنّ الشمس قد توقفّت حقًّا 23 ساعة و20 دقيقة، أمّا الأربعون الدقيقة الباقية لبلوغ الأربع والعشرين ساعة بالتمام والكمال فيتنبّأ عنها إشعياء النبيّ إذ يقول إنّ الله أرجع ظلّ الشمس عشر درجات، وهذه الدرجات العشر تساوي أربعين دقيقة، أي ما يكفي لسدّ الفجوة الزمنيّة!
هذا الخبر، وما يشبهه، بات الخبز اليوميّ لبعض المؤمنين غير الواثقين بصحّة إيمانهم، فتراهم يتوهّمون براهين "علميّة" على ما ورد في كتبهم المقدّسة من أحداث وروايات. ولا تخلو ديانة من ديانات العالم من هذا الذي أصبح يسمّى "إعجازًا علميًّا" في الكتب المؤسّسة لهذه الديانات. فكلّ العلوم الحديثة والاكتشافات والاختراعات العصريّة، من الرياضيّات إلى الفيزياء النوويّة والصعود إلى القمر، ومن الطبّ النفسيّ إلى التداوي بتلاوة الآيات المقدّسة أو الكريمة، ومن اختراع الدبّوس إلى صنع المركبات العظيمة، كلّ ذلك تحدّثت عنه الكتب المقدّسة قبل أن يخرجه العلم الحديث إلى النور.
لا ريب في أنّ شيوع هذا الخلط ما بين الإيمان والعلم يعبّر عن أزمة عميقة لدى مَن يتعاملون مع النصّ الدينيّ بقراءة حرفيّة متشدّدة. فخوفًا من أن يُتّهم كتابهم بأنّه يورد أخبارًا لا تتماشى والعقل، يذهبون إلى حدّ تأكيد هذه الأخبار بما يعتقدونه عقلاً أو علمًا. وبدلاً من أن يُخضعوا ذواتهم للقوانين التي يضعها العلم والعقل تراهم يسخّرون العلم ويحرّفونه من أجل تأكيد مقولة دينيّة أو أخرى، ممّا لا يمكن تأكيده إلاّ بالإيمان والقبول بالنصّ الدينيّ من دون تدخّل خارجيّ. هم يخلطون ما بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما، فهم، إذا شاؤوا العلم دليلاً الى صحّة الإيمان اتّضح أنّهم يعانون من نقصين كارثيّين: نقص في إيمانهم لأنّهم يتوسّلون العلم طريقًا إليه، ونقص في علمهم لأنّهم يخلطون ما بينه والإيمان.
في ما غبر من الزمان مارست المؤسّسات الدينيّة الاضطهاد والحكم بالهرطقة ضدّ بعض العلماء والفلاسفة ممّن خالفوا الرأي الدينيّ السائد آنذاك، بسبب اكتشافاتهم العلميّة. ولنا أكبر مثال على هذا الأمر في غاليليو، الذي خالف ما ظنّته كنيسة ذلك الزمان "تعليم الكتاب المقدّس"، عندما قال بأنّ الأرض تدور حول الشمس. أمّا نظريّة داروين فمُنعت - وما زالت ممنوعة في بعض الولايات الأميركيّة - من دخول المناهج في المدارس والجامعات بسبب مخالفتها "الرواية الكتابيّة" عن الخلق. وثمّة فقهاء ما زالوا يعتقدون، بناءً على النصّ الدينيّ، بأنّ الأرض مسطّحة وأنّها تقوم على مداميك ثابتة...
اللافت أنّ مَن يهرولون، اليوم، إلى البحث عن براهين علميّة للتدليل الى صحّة كتبهم المقدّسة لا يختلفون منهجيًّا عن أولئك الذين، قديمًا، اضطهدوا العلماء لمخالفتهم النصوص المقدّسة بما اكتشفوه عبر جهودهم العلميّة. فكلا الفريقين ينخفض لديهما مستوى ثقتهم بالإيمان: فالفريق الأوّل يحتاج إلى تعزيز خطابه الدعويّ المتخلّف عبر ادّعائه العلم وأيضًا عبر ادّعائه تأييد العلم له ولكتابه، أمّا الفريق الثاني فيخشى انهيار منظومته الخاصّة بقراءته للنصّ الدينيّ إذا ما تعارض مع مقولات العلم.
صحّة الكتاب المقدّس ليست بحاجة إلى "براهين" علميّة حسّيّة. فالكتاب المقدّس، على سبيل المثال، حينما يتحدّث عن خلق آدم وحواء شاء أن يقول أمرًا واحدًا لا غير هو أنّ الله وحده خالق السموات والأرض وما فوق الأرض وما تحتها، وما تبقّى من تفاصيل الرواية إنّما كان على سبيل تقريب المفاهيم إلى أذهان البشر عبر قصّة رمزيّة ذات دلالات لا تتحدّد بحرفيّة النصّ.
الحرف يقتل، أمّا الروح فيحيي. لذلك، ودرءًا لكلّ شطط، ينبغي الابتعاد عن القراءة الحرفيّة أو التاريخيّة كي لا ننزلق إلى اعتماد طرق ملتوية تزعم "العلميّة"، تسيء إلى النصّ أكثر ممّا يمكن أن تضفي عليه الصدقيّة.
الأب جورج مسًوح
إضافة تعليق جديد