ثقافــة المــوت علــى الفايــس بــوك
منذ بداية هذه السنة تطالعني اخبار الوفيات حتى بدأت أعتقد أن هذه السنة مشؤومة وعزرائيل كما تقول جدتي عاد إلى عمله بعد فرصة الأعياد بنشاط ملحوظ. إلا أنني بدأت اتساءل إذ ما كانت هذه السنة تختلف فعلا عن غيرها من السنوات، أليس من المعقول أن نفس العدد من البشر لسبب او لآخر قد مات السنة الفائتة أو التي قبلها. لكن لم يكن من عادتي أن أتابع صفحة الوفيات ولم يكن عندي اهتمام خاص بأخبار الموت وأحاول تجنبها قدر الإمكان رغم أن أمي لم تكن لتقبل هذا الإهمال من قبلي وترى فيه نوعا من الاستهتار الاجتماعي فتصر على تلقيني كل أنباء الوفيات التي تحدث لأشخاص للأسف لم أسمع باسمائهم قبلا. بعد سفري لفرنسا كنّت أمي عن عادتها غالبا فقط بسب ارتفاع كلفة المخابرات الدولية. لكن ذلك لم يبقني في غفلة عن أخبار الموت. فعلى ما يبدو، هنالك من تابع مهمة أمي ببراعة أكثر من خلال شبكة علاقات تفوق إمكانيات شخص واحد. لا اعرف متى بدأت هذه الظاهرة أو هذه العدوى. لكن أذكر منذ أشهر قليلة أدركني الملل فبدأت أتصفح لقطات من حياة الآخرين على الفايس بوك وإذ أرى صورة لشاب لا أعرفه وضعتها فتاة هي صديقة على الفايس بوك (صديقة فايسبوكية)، ربما تبادلت معها الحديث مرتين في حياتي على أبعد تقدير، وبجانبها هذه الأحرف (ر.أ. ب)، لم أفهم ما معناها وتخيلت أن لها علاقة بثقافة الفايس بوك ومصطلحاته التي لا أفهمها لكن تملكني الفضول تجاه صورة هذا الشاب وسبب ذلك ان كثيرين أيضا غير هذه الفتاة قد وضعوها وبجانبها هذه الرموز التي بدت لي كشيفرة غريبة. تابعت جولتي وقرأت ما كتب قبل أيام قليلة وفهمت ان هذا الشاب تعرض لحادث على ما يبدو ودخل في غيبوبة لعدة أيام ثم توفي. لم يكن استنتاجا صعبا لكن ما أثار استغرابي هو الصلة الشبه المعدومة بين المرحوم وبين هذه الفتاة وغيرها الذين تولوا نعيه باغرب الطرق الممكنة التي تصل إلى حد الفكاهة. في ما يلي مقطع مما قرات بدون ذكر الأسماء وهذا من الأحاديث التي تنشر على الفايس بوك التي بإمكان أي كان قراءتها:
ـ «مين ر. (يقصد الصورة )».
«هيدا اللي خبرتك عنه الجمعة الماضية بالسهرة، كان بغيبوبة هلق مات».
ـ «آه حرام».
ـ «جايي اليوم عالسهرة؟».
لا أعرف إذا كان المرحوم ليسعد باستعمال صورته وخبر موته لملء صفحات الفايس بوك، ربما، لا أحد يدري. للأسف أو لحسن الحظ لن يتسنى له أيضا أن يقرأ كل ما كتب له الناس على حائطه الخاص على الفايس بوك بعد وفاته، فهم استرسلوا في التعبير عن عواطفهم. ربما غيابه سهل عليهم عملية التواصل. وغير ذلك، غريب أن ينعى الشخص المتوفى أشخاص لا يعرفونه حتى، ربما كان آندي ورهول محقا عندما قال: «في المستقبل كل شخص سيحصل على 15 دقيقة من الشهرة»، غير أنه لم يحدد ان ذلك سيحصل بعد موته. بعد ذلك الخبر توالت اخبار الوفيات التي طاردتني على الفايس بوك. عرفت عن خبر الطائرة التي سقطت وعن أسماء الذين توفوا وصورهم وأنا في فرنسا قبل أن تعرف امي التي تسكن في لبنان فانقلبت الأدوار وصرت أنا التي أنقل لها الاخبار. لكن ما يبدو لي حتى اكثر غرابة، هو هذا الاهتمام المفاجئ بأخبار الموت عند الجيل الشاب من الفايس بوك وتداولها مثل بقية الأحداث اليومية، الأمر الذي يذكر بالمجتمعات الصغيرة كما قي القرى حيث ينادى باخبار الموت كأسعار الخضار. أتساءل أيضا إذ كان هذا التعاطف المبالغ فيه الذي للوهلة الأولى يعيد لنا إيماننا بالإنسانية عندما نرى هؤلاء يحزنون على أشخاص لا يمتون إليهم بصلة، هو بالنهاية إضافة لمسة تراجيدية لهذه الشخصيات المسرحية التي يعيش من خلالها الناس حياتهم الافتراضية على الفايس بوك؛ أو قد يكون حزن هؤلاء على وفاة أصدقائهم الفايسبوكيين حزنا على انتهاء هذه الصداقة الافتراضية، أحيانا بدون ان تتاح فرصة لقائهم أو التعرف إليهم خارج الشاشة تماما كنجوم السينما، وبالتالي كل شخص هو نجم على الفايس بوك ويبقى الإرث الذي تركه من صور وأقوال واحاديث، تبقى حياته الافتراضية اليومية موثقة في ذاكرة الفايس بوك. لكن الظاهرة التي حيرتني أكثر هي عندما فوجئت بعد فترة بأشخاص فعلا ينعون موتاهم على الفايس بوك وآخرين يقدمون تعازيهم، حتى أنني اتوقع قريبا أن تقام مجالس عزاء على شاشة الفايس بوك يحضرها الناس من منازلهم. وفي بعض الحالات نبش بعضهم صور موتاهم من سنين ووضعوها على الفايس بوك ما جعلني أفكر بجدتي التي ماتت منذ عشر سنين، لماذا لا أضع صورتها على الفايس بوك وهكذا تحصل جدتي على 15 دقيقة التي تخصها من الشهرة. ظلت هذه الشيفرة تحيرني (راب) فسألت صديقي إذ كان يعرف ماذا تعني فانفجر بالضحك وقال ان هذا أمر بديهي (ر. ا. ب.) هي اختصاربالإنكليزية لـ «رست إن بيس»: «ارقد بسلام». لم أفهم كيف يكون هذا بديهيا، لكن على ما يبدو انني اجهل لغة الفايس بوك. روى لي الصديق نفسه أن مجموعة على الفايس بوك اتفقت ان تنعى شيخ الأزهر في مصر السيد طنطاوي بمصطلح مختلف: (ر.ب.ر) الذي هو اختصار لـ: «روحة بلا رجعة»، وذلك لاستيائهم من مواقفه السياسية. الموت صورة على الفايس بوك وبجانبها (ر.ا.ب) تطالعك بين صور اخرى يستعرض فيها الناس حياتهم الافتراضية، وربما لذلك يبدو أخف وطاة فموت الشخصيات الافتراضية لا يبدو حقيقيا كما في أفلام الكرتون. الشخصية الافتراضية لا تموت بعد ان يرحل الشخص الذي صنعها وباستطاعة آخرين ان يتواصلوا معها ويكتبوا لها، بالطبع ستكون علاقة من طرف واحد لكن ربما هي كل العلاقات كذلك، وربما يلقون ردودا في حيوات أخرى افتراضية. ستبقى الشخصية الافتراضية إلا إذا قررت إدارة الفايس بوك ان توقف اشتراك الذين توفوا لكن من سيبلغها. دخلت الصفحة الرئيسية للفايس بوك وإذ بي أرى من جملة البلاغات أو الشكاوى التي باستطاعة المستخدم إرسالها، العبارة التالية: «بلغ عن شخص ميت»، واتضح ان هذا البلاغ لا يوقف اشتراك الشخص المتوفى بل يحوله لنوع من المزار او ساحة أكثر خصوصية ليتواصل معه المقربون. وماذا لو أخذنا كفايتنا من التواصل في هذه الحياة؟ ولم نرغب في أن تزعج سكينتنا الإنذارات الفايسبوكية (مصطلح يستخدمه الفايس بوك لإبلاغ الناس بتلقيهم رسائل) في العالم الآخر. قد يكون الحل بأن نوصي بإلغاء اشتراكنا، ما يدفعني للتفكير: من نأتمن على شخصياتنا الافتراضية على الفايس بوك بعد رحيلنا، ومن نورث كل كلماتنا السرية للبريد الإلكتروني وخلافه.
بانة بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد