السوق السورية تتعرض لغزو سلعي غير مسبوق
خصصت جمعية العلوم الاقتصادية ندوتها الأخيرة لبحث مشكلات الصناعة الوطنية تحت عنوان «الصناعة السورية وتحديات المستقبل»، وقدم المدير الوطني لبرنامج التطوير والتحديث الصناعي فؤاد اللحام محاضرةً بدأها بالإشارة إلى ما تشهده السوق السورية من غزو غير مسبوق من السلع المصنعة بما فيها غذائيات الأطفال، ومنبهاً من أن هذا الواقع زاد من وضع الصناعة السورية سوءاً على سوء، وموضحاً أن الصناعة الوطنية واجهت خلال السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من الأحداث والظروف الصعبة اختصرها بـ«تحرير التبادل التجاري وفتح السوق؛ ورفع أسعار المحروقات وانعكاس ذلك على مختلف أسعار السلع والخدمات إضافة إلى أثر الجفاف؛ وارتفاع أسعار العديد من مدخلات الإنتاج عالمياً نتيجة ارتفاع أسعار النفط ثم انخفاضها بسعر سريع ما ألحق ضرراً كبيراً بالصناعة السورية في المرحلتين؛ وانخفاض الطلب الداخلي نتيجة ضعف القوة الشرائية للمواطنين من ناحية، وبروز حالة الترقب والانتظار لنتائج ومنعكسات الأزمة الاقتصادية العالمية إضافة إلى تراجع تحويلات العاملين في الخارج بسبب هذه الأزمة من ناحية أخرى؛ ومحدودية نتائج تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة لقطاع الصناعات التحويلية في معالجة مشاكل هذا القطاع»، وتابع اللحام أن هذه الأحداث والمستجدات جاءت في حين كانت الصناعة السورية في وضع غير مريح بسبب معاناتها أصلاً من صعوبات ومشاكل عديدة أضعفت قدرتها على المواجهة وزادت من تعقيد أوضاعها.
وقدم اللحام رؤيته للوضع الراهن للصناعة السورية مبيناً أنها تتسم بـ«ضعف البنية الهيكلية بسبب اعتمادها على الصناعات التقليدية الخفيفة التي تقوم إما على موارد زراعية وتعدينية محلية ذات قيمة مضافة متدنية ومكون تكنولوجي بسيط، أو صناعة تجميعية تفتقر إلى روح الابتكار والإبداع، الأمر الذي حال وما يزال يحول دون الانتقال من الميزة النسبية التي تتمتع بها سورية إلى الميزة التنافسية في مجال النوعية والسعر»، وكشف اللحام عن وجود خلل هيكلي في بنية التجارة الخارجية حيث أوضح أن معظم الصادرات السورية تنحصر بالمواد الأولية ونصف المصنعة التي بلغت نسبتها إلى إجمالي الصادرات عام 2008 نحو 61% في حين تنحصر معظم المستوردات بالمنتجات الجاهزة ونصف المصنعة والتي بلغت نسبتها عام 2008 نحو 91%، وهو ما يؤدي حسب اللحام إلى خسارة القيمة المضافة التي يمكن أن تتحقق من تحويل المواد الأولية ونصف المصنعة إلى منتجات نصف مصنعة ومنتجات نهائية في الاستيراد والتصدير وإلى وجود عجز واضح في الميزان التجاري بلغ عام 2008 نحو 131 مليار ليرة سورية.
وفي سياق المحاضرة أوضح المحاضر أن الصناعة الوطنية أضاعت منذ منتصف السبعينيات وحتى اليوم فرصاً عديدة للنمو من الصعب أن تتكرر أو تعوض، فقد أضاعت الصناعة السورية «فرصة ذهبية للاستفادة من المعونات الكبيرة والقروض العديدة التي حصلت عليها بعد حرب تشرين 1973 من خلال إقامة عدد غير قليل من المشاريع الصناعية لم تدرس بالشكل المطلوب اقتصادياً واجتماعياً وجغرافياً، اعتمدت بشكل أساسي على سياسة الإحلال محل الواردات ما أدى إلى اعتمادها بشكل مطلق على مستلزمات الإنتاج المستوردة، وبالتالي توقف حوالي ثلثي المعامل العامة عند نشوب أزمة الثمانينيات كلياً أو جزئياً لعدم توفر القطع الأجنبي اللازم لتمويل مستلزمات الإنتاج وقطع الغيار».
والفرصة الثانية الضائعة تمثلت بـ«عدم المضي قدماً في الصناعات الهندسية والمستقبلية التي دخلتها في تلك المرحلة في ظل ظروف استثنائية كصناعة الاتصالات والجرارات والبتروكيماويات». أما الفرصة الثالثة فتتجلى بعدم المحافظة على أسواق الصناعة السورية التقليدية، والفرصة الرابعة هي «الفرصة التي نجمت عن إصدار قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991».. وهناك فرصة ضائعة تتمثل بعدم «الاستفادة من العوائد النفطية الهائلة التي حصلت عليها الدول النفطية الخليجية في السنوات الأخيرة في إقامة مشاريع صناعية كبيرة عوضاً عن أو على الأقل إلى جانب الاستثمارات السياحية والعقارية التي توجهت إليها هذه العوائد».. وأكد اللحام أن هناك فرصة متاحةً حالياً، راجياً ألا تضيع هي الأخرى، وهي حسب قوله: «فرصة الاستفادة من نتائج الأزمة الاقتصادية العالمية على دول الخليج العربي بجذب ما تبقى من استثماراتها إلى السوق السورية التي لا تقارن مخاطرها بما حدث لهؤلاء المستثمرين في الخارج»، وأوضح اللحام أن السعي يجب أن يكون ليس لتوجيه رؤوس الأموال هذه للاستثمارات العقارية والسياحية فقط بل والاستثمار الصناعي أيضاً.
واستعرض اللحام في محاضرته واقع الصناعة السورية بين الخطة الخمسية العاشرة والحادية عشرة، مشيراً إلى أن النتائج التي حققتها الخطة الخمسية العاشرة في قطاع الصناعات التحويلية هي نتائج متواضعة جداً على الرغم من اعتماد قياسها على أرقام السنتين الأولى والثانية الفعلية والتقدير الأولي لنتائج السنتين الأخيرتين في معظم الأحيان.
وفي موضوع التحديات والأولويات أكد اللحام أن الصناعة تعد محركاً أساسياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك لتشابكاتها الأمامية والخلفية مع مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني الأخرى الإنتاجية والخدمية وبشكل خاص التشغيل، مبيناً أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه الصناعة السورية اليوم هو تحدي البقاء والنمو، «وهو ما لا يمكن تحقيقه دون رفع القدرة التنافسية لهذه الصناعة، وذلك بتحديثها من كافة الجوانب الفنية والإنتاجية والتسويقية والالتزام بمعايير الجودة والاشتراطات البيئية والاجتماعية الدولية».
وشدد اللحام على ضرورة العمل من أجل زيادة القدرة التنافسية للصناعة السورية على اعتبار ذلك ليس حالة عابرة أو مؤقتة نقوم بمعالجتها بإجراءات تتخذ لمرة واحدة وحسب، بل هو مهمة مستمرة ومتجددة على مر الحياة مع تنامي المجتمع واحتياجاته وتحدياته، ومع تطور الأوضاع الاقتصادية والصناعية المحلية والإقليمية والدولية، وأوضح أن عملية التحديث الصناعي هي مهمة كبيرة ومعقدة تتطلب مشاركة كافة الأطراف المعنية بشكل فعال ومتكامل..
كما أن عملية التحديث الصناعي حسب اللحام لا يمكن أن تقتصر فقط على مستوى المنشأة الصناعية وحسب، بل لابد من توفير بيئة العمل الخارجية المناسبة التي تحيط بالمنشأة الصناعية من كافة النواحي وتجاوبها مع متطلبات التحديث والتطوير وبما يساهم في نقل مخرجاته ونتائجه إلى كافة القطاعات الاقتصادية والخدمية الأخرى. ورأى اللحام أن الصناعة السورية اليوم أمام مفترق طرق وفي وضع دقيق وحرج ولامجال لمزيد من البطء والتردد والانتظار وإضاعة المزيد من الفرص إذا أردنا إنقاذها.
وذكّر اللحام بأن أهم النقاط الجوهرية التي لابد من العمل عليها كأولويات من أجل تحسين أوضاع الصناعة السورية وتمكينها من تجاوز أزمتها والتحديات التي تواجهها هي: تشكيل مجلس خاص للتنمية الصناعية يتولى وضع ومتابعة تنفيذ الخطط والاستراتيجيات والسياسات الخاصة بالتنمية الصناعية ومتابعة تنفيذها، والتنسيق ما بين الوزارات والجهات العامة والخاصة ذات العلاقة بالصناعية برئاسة رئيس مجلس الوزراء أو نائبه الاقتصادي، بحيث يضم إضافة إلى وزراء الصناعة والمالية والاقتصاد والإدارة المحلية والتخطيط ممثلين فعالين من القطاع الخاص ومن المختصين والمستشارين، ويمكن أن ينبثق عن هذا المجلس لجان وطنية مختصة للنهوض بفروع الصناعية الوطنية الرئيسية والمستهدفة.
والنقطة الأخرى هي إحداث مركز وطني دائم للتحديث والتطوير الصناعي يتولى تحديث وتطوير الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة القائمة حالياً والقابلة للتحديث من القطاعات ذات الأولوية للاقتصاد السوري، إضافةً إلى اعتماد برنامج وطني متكامل ومتوازن تتوافق عليه كافة الأطراف المعنية أو معظمها على الأقل لإصلاح القطاع العام الصناعي، يركز بشكل أساسي على تحسين بيئة عمل هذا القطاع الإدارية والتنظيمية والمالية والإنتاجية وأسلوب اختيار إداراته، بما يؤدي إلى معالجة مشكلاته وتمكينه من العمل كالقطاع الخاص بالأسلوب الذي يجعله قطاعاً رابحاً منافسا قادراً على البقاء والتوسع بإمكانياته الذاتية ولا يختلف عن القطاع الخاص إلا في توريد الجزء الخاص الموزع من أرباحه إلى وزارة المالية.
كما دعا اللحام إلى الانتقال إلى دور جديد تنموي ولامركزي لوزارة الصناعة، وإلى تفعيل دور المؤسسات والهيئات الداعمة القائمة حالياً (مواصفات اختبارات، تدريب مهني...)، والإسراع في إحداث المؤسسات الداعمة الضرورية الأخرى لتحديث الصناعة في سورية مثل المراكز الفنية والمخابر المعتمدة والمعارض والاستشارات وضمان الصادرات وغيرها من المؤسسات الداعمة التي تعد عنصراً أساسياً في تحسين بيئة العمل الصناعي وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة السورية بشكل متواصل..
وشدد اللحام على ضرورة إعطاء مسألة التمويل الصناعي الاهتمام المطلوب من المصارف العامة والخاصة وكذلك الصناديق المخصصة لذلك.. وبشكل خاص ما يتعلق بتسهيل شروطه وضماناته وتفعيل دور ما هو موجود حالياً منها، مشيراً إلى أهمية التدقيق المتعمق في شهادات المنشأ للبضائع المستوردة.
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد