كفن المسيح أُخرِجَ من صندوقه ليتأمله الحجاج والبابا "يكرّمه" في 2أيار

19-04-2010

كفن المسيح أُخرِجَ من صندوقه ليتأمله الحجاج والبابا "يكرّمه" في 2أيار

مثير، مدهش، رائع، مذهل... الاوصاف التي تقال عن كفن المسيح المقدس كثيرة. وتبقى كلمات البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الاشهر وقعا. "انه ذخيرة غير مألوفة، ملأى بالاسرار، وشهادة فريدة للغاية عن الفصح ووجه المسيح على الكفن. الآلام والموت والقيامة". اما البابا بينيديكتوس السادس عشر فيرى ان "عرض الكفن مناسبة مؤاتية لتأمل هذا الوجه المكتنف اسرارا، الذي يتحدث بصمت الى قلوب البشر"، داعيا الى "التعرف الى وجه الرّب" (تصريح في حزيران 2008).
في 10 نيسان الجاري فتحت كاتدرائية مار يوحنا المعمدان في تورينو بشمال ايطاليا ابوابها امام آلاف الزوار والحجاج الآتين لرؤية هذا الكفن الشهير الذي لا يزال يثير جدلا على مختلف المستويات. انها المرة الاولى من 10 اعوام التي يُكشَف مجددا عن هذا الوجه الجميل الغارق في الصمت، في سره الكبير، بعدما كان اطل على المؤمنين العام 2000. وهذه المرة، تحضرت المدينة لمجيء اكثر من مليوني شخص حتى 23 ايار المقبل.
المناسبة فريدة في ذاتها، استثنائية، لما يجسده الكفن من اهمية دينية من جهة، اذ يعتبر الذخيرة الاثمن لدى الكنيسة الكاثوليكية، ومن جهة اخرى لما شكل موضع بحث وتجاذب علمي اعواما طويلة، وخصوصا انه يعتبر القطعة الاثرية التي استحوذت اكثر على درس وبحث عبر التاريخ، ولا تزال موضع اهتمام العلماء والبحاثة ورجال الدين والمؤمنين.
وعرض الكفن هذه السنة يجدد الحديث اللاهب في شأنه ويكسبه مزيدا من الشهود والمعجبين. يقول مدير متحف الكفن في تورينو (Museo della Sindone) جيانماريا زاكوني (Gianmaria Zaccone) في حديث لـ "النهار": "انه وقت مهم جدا للكنيسة كلها، وللحجاج ايضا الذين يأتون الى تورينو لرؤية الكفن والتأمل فيه، ومن خلاله في عمل يسوع المسيح الخلاصي". بالنسبة اليه، الرسالة التي يحملها الكفن الى العالم اليوم "مهمة"، اذ "من خلاله يمكن ايجاد وجه المسيح. وانطلاقا من هنا، تظهر لنا ضرورة البحث عنه ايضا في اخوتنا وفي آلام الآخرين ومعاناتهم، وعن الآلام التي حملها المسيح محبة بنا".

تاريخ الكفن في محطات
الكفن المقدس عبارة عن قطعة قماش من الكتان "لونها اصفر فاتح كلون القش"، طولها 4,36 مترا، وعرضها 1,10 متر، وعليها آثار لشكل إنسان كامل من الامام والوراء، انسان صلب، وفي يديه ورجليه اثر لمسامير، وعلى رأسه أكليل من الشوك، وعلى ظهره علامات جلد، وفي جنبه الايمن اثر لطعنة حربة. وقد اكد ذلك أطباء الادلة الجنائية المتخصصون بالتشريح". ويتفق العلماء على ان رجل الكفن سامي الملامح، له لحية وشعر طويل، يراوح عمره ما بين الثلاثين والاربعين. غير انه برزت فروق في احتساب طوله: بعضهم احتسبه 1,60 متر وآخرون 1,80. اما وزنه فقدر بـ80 كيلوغراما(1).
وللكفن ميزة فريدة اكتشفت العام 1898، وتشكل احد الغازه، وتتمثل في "ظهور انسان الكفن على الصورة السلبية كما هو في الصورة الايجابية، اي كما لو نراه بالعين المجردة، علما انه في الفن الفوتوغرافي، يعتبر الشخص الذي نراه بالعين المجردة صورة ايجابية تتحول في فيلم التصوير داخل الكاميرا صورة سلبية". وثمة ميزة اخرى لافتتة هي ان صورة الكفن ذات البعدين تحتوي على عناصر الشكل ذي الابعاد الثلاثة(2). 
يزخر تاريخ الكفن بمحطات رئيسية: العام 525 عثر على صورة "اكيروبيتا" مسماة "منديل"، خلال اعمال ترميم في الرها (حاليا اورفا في تركيا)، وهو على الارجح الكفن المطوي بطريقة تظهر الوجه وحده.  944 نقل الكفن الى القسطنطينية. 1147 كرم ملك فرنسا لويس السابع الكفن في القسطنطينية. 1204 كتب مؤرخ الحرب الصليبية الرابعة روبير دي كلاري: "كان الكفن يعرض كل يوم جمعة في القسطنطينية... لكن احدا لم يعلم ماذا حل به بعد نهب المدينة". وفي تلك الحقبة اخفي الكفن، وبقي مصيره مجهولا حتى العام 1355، يوم عرض علنا للمرة الاولى في اوروبا في كنيسة مدينة ليراي الفرنسية، بمسعى من الفارس الفرنسي جوفروا دي شارني الأول الذي يُعتبر المالِك الأوّل للكفن في الغرب.
العام 1365 سلّمت جان دو فرجيه زوجة الفارس دي شارني الكفن إلى شناونة (رؤساء كهنة) ليراي، بعد موت زوجها، الذين عمدوا الى تنظيم عروض علنيّة له. 1389 منع اسقف تروا بيار دارسي عرض الكفن، بعدما كان سلفه هنري دو بواتييه اعترض على ان دافع العروض هو "الطمع المادي وليس الورع...".  1435 وهبت ابنة جوفروا دي شارني الثاني، مارغريت دي شارني، الكفن الى آن دي لوزينيان، قرينة دوق سافوا لويس الأوّل، وذلك اثر خلاف بينها وبين شناونة ليراي. ثم سلّمته آن الى مدينة شامبيري، حيث حفظ في الكنيسة.
في ليل 3 كانون الأوّل 1532، شبّ حريقٌ في كنيسة شامبيري، وامتدت النيران الى صندوق الكفن المرصع بالمعادن الثمينة، ما ادى الى نفاذ بعض قطرات المعدن الذائب عبر طيات الكفن، محدثة خروقا فيه. وبعد سنتين، عمدت راهبات الكلاريات الى رقعه. 1578 نقل الكفن الى تورينو تخفيفا لمشقات السفر على اسقف المدينة المطران القديس شارل بورومي الذي رغب في تكريم الكفن ايفاء لنذر.  1694 وضع الكفن في الكنيسة التابعة لكاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في تورينو، والذي لا يزال فيها حتى اليوم.
من العام 1939 الى 1946، خبأ الفاتيكان الكفن في دير مونتي فرجن في مقاطعة افيلينو، "لأن الزعيم النازي ادولف هتلر كان مهووساً بامتلاكه ويريد الحصول عليه بأي ثمن"، على ما افاد اخيرا مدير مكتبة دير بندكتين في مدينة أفيلينو الأب أندريا كاردان، مشيرا الى ان "الكفن نقل تحت ستار من السرية الكاملة إلى منطقة كامبانيا". وعام 1938 وهب اومبرتو الثاني دي سوافوا الكرسي الرسولي الكفن بعد وفاته. 1997 انقذ الكفن في الوقت المناسب من حريق قضى على كابيلة جواريني والقصر الملكي القديم(3).

علم "السندونولوجيا"
دراسات وبحوث كثيرة وضعت عن الكفن، ابتداء من العام 1898، تاريخ التقاط اول صورة فوتوغرافية له، وصولا الى العام الماضي. وقد شكل على مر الاعوام موضع اهتمام علماء من مختلف الجنسيات والانتماءات الدينية والفكرية والعلمية، بما شكل علما حديثا سمي "علم الكفن" او "السندونولوجيا"، ويشمل العديد من الاختصاصات. وقد درس العلماء جروح رجل الكفن، النسيج، المواد والبقع العالقة به، اللقاح، واي آثار على القماش... كل شيء. وفي كل محطة، تعارض علماء في النتائج او توافقوا عليها، او تقاربوا في بعضها، شككوا في اصالة الكفن او اكدوها...
وشكل تأريخ الكفن بواسطة الكربون 14 العام 1988 محطة علمية حملت بنتائجها مفاجأة سارة للمشككين، وغير سارة للمدافعين عن اصالة الكفن. "الكفن صنع بين عامي 1260 و1390". وكانت النتيجة التي توصلت اليها 3 مختبرات عالمية حول تاريخ النسيج ابعد من ان توقف السجال العلمي حول اصالة الكفن، اذ علت اصوات علماء آخرين يسألون عن تأثير حرارة حريق 1532 على كمية الكربون 14 في النسيج، ومدى نظافة العينات المأخوذة. وابى الفاتيكان، ولا سيما كردينال تورينو آنذاك اناستيازيو باليستريرو، قبول هذه النتائج. "هذه الفحوص لا تنهي فصول كتاب الكفن"، قال يومذاك.
وبالفعل، بقي الكفن موضع اختبارات ركزت على تاريخ النسيج: العام 1995، برهن العالم الروسي ديمتري كوزنتسوف ان حريق 1532 غيّر كمية الكربون 14 المشعّ في الكفن تغييرا كبيرا، مما افسد عملية تحديد التاريخ. والعام 2005، نشر الباحث راي روجرز بحثا افاد فيه ان المكونات الاساسية لعينة 1988 تختلف عن المكونات الكيميائية لبقية نسيج الكفن، وان عمر النسيج الاساسي يراوح ما بين 1300 و3000 سنة.
وتتابعت المفاجآت: 2005 اعلنت المجلة الفرنسية Science & Vie انها تمكنت من صنع كفن بتقينات القرون الوسطى. و"يكفي لذلك وضع قماش مبلول على نقش تحتي. وبعد الضغط عليه جيدا لاظهار شكل الشخص، يترك ليجف. ويغمس  بالاكسيد الحديدي، ممزوجا بالجيلاتين". عام 2009، اطل أستاذ الكيمياء العضويّة في جامعة "بافيا" الدكتور لويجي غارلاسكيللي بكفن قال انه صنعه وهو نسخة طبق الاصل عن كفن تورينو، "وهي خطوة تثبت في شكل نهائي ان الكفن مزيف ويعود الى القرون الوسطى"، على قوله.

زاكوني: الكنيسة لا تخاف العلم
عن كل هذه الاختبارات، يتكلم زاكوني بوضوح: "هناك اختبارات بيّنت ان الكفن يعكس صورة شخص ثلاثية البعد. اذاً الاحتمالات ان تكون الصورة ثلاثية البعد عالية، بينما احتمالات ان تكون الصورة رُسمت او صُنعت على يد فنان يدويا منخفضة جدا. وغارلاسكيللي وآخرون ممن صنعوا نسخا عن كفن المسيح استندوا في عملهم الى اساس لينطلقوا منه، علما ان الخصائص الكيميائية والفيزيائية والبصرية والبنيوية لهذه النسخ المصنوعة تختلف كليا عن خصائص الكفن. الكفن دُرِس كثيرا، ويجب القول انه لا تمكن مقارنته بنسخ عنه، خصوصا من النواحي الفيزيائية والكيميائية وغيرها".
وعن تأريخ الكربون 14، يقول: "هذا الاختبار جدّي من دون شك. وقد بينت نتائجه العام 1988 ان الكفن يرجع الى القرون الوسطى. لكن مناقشات كثيرة حصلت حول هذا التأريخ. ولسنا في صدد التشكيك في النتائج، لكن يجب الاخذ في الاعتبار ان الاختبارات اجريت على قطعة صغيرة جدا اخذت من هامش الكفن. وبالتالي لسنا متأكدين من ان هذه العينة تمثل في شكل جيد كامل نسيج الكفن، لانه برهنا ان هناك اختلافات مهمة في خيوط النسيج في الجهة اليمنى من الكفن. هناك اذا مشكلة حول صحة تمثيل هذه العينة. ويمكن القول ان تأريخ الكفن لم يُحسَم حتى اليوم".
وهل الكنيسة ستجري بحوثا اخرى بهذا الخصوص في المستقبل؟ يجيب: "اعتقد انها ستقدم على ذلك، لان الكنيسة لا تخاف البحوث العلمية حول الكفن المقدس، وتترك للعلم ان يقوم بعمله. فالاساس بالنسبة اليها ليس ما يتكوّن منه الكفن فحسب، انما ايضا ما يمثله ويعنيه. وقد اكد البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ان الكفن هو مرآة الاناجيل. وبالنسبة الى المؤمن، من المهم اذاً ما يحمله اليه الكفن من صورة، وهي صورة يسوع المسيح من دون شك. وهذا هو المهم".
تجاه كل هذه الضجة المثارة حول الكفن، لم يحسم الفاتيكان موقفه من اصالة الكفن، لا سلبا ولا ايجابا. وستكون للبابا بينيديكتوس السادس عشر وقفة "تكريم" للكفن في تورينو في 2 ايار المقبل، الى جانب برنامج حافل بمختلف اللقاءات. وفي هذه الوقفة التكريمية، يرى بعضهم موقفا واضحا تجاه الكفن حسما للشكوك بما يعزز وضعه. متى الظهور العلني للكفن في المستقبل بعد 2010؟ يجيب زاكوني: "لا نعرف بعد. ويتقرر ذلك في السنوات المقبلة".

(1) لغز كفن المسيح - فارس حبيب ملكي- دار المشرق.
(2) كفن المسيح- دليل تاريخي وعلمي ولاهوتي لجلاء لغز كفن تورينو.
(3) موقع الكفن الرسمي:
www.sindone.org
 (4)www.kafanalmassih.org

 

هالة حمصي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...