لؤي كيالي: الفن والجنون
«قبل ثلاثين عاما رحل الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي، بعد حياة لم تدم أكثر من أربع وأربعين سنة، لكنها كانت حافلة بالجدل حول فنه وشخصه، فالفنان الذي بدأ حياة ابداعية هادئة تهتم أساساً برسم المواضيع التي يفضلها عشاق الفن الأثرياء، وجد نفسه قبيل أواخر الستينيات مستغرقاً في هموم الناس البسطاء وقضايا شعبه الكبيرة، ليسجل تحولاً حاداً في اتجاهه الفني مضحياً بجمهوره التقليدي، من دون أن يكسب من الطرف الآخر سوى الرفض المغلف بالتحفظ والتشكيك، مما قاده الى حالة نفسية شديدة القسوة، ظلّت السمة الملازمة له حتى رحيله».
هذا ما جاء في مقدمة الدعوة التي وجهها المركز الثقافي الفرنسي في دمشق لحضور واحدة من المحاضرات التي نظّمها أخيرا في سياق سلسلة من الأنشطة تحت عنوان «الفن والجنون»، وقد قدّم المحاضرة الفنان والناقد التشكيلي السوري سعد القاسم، وأرفقها بعدد وافر من الصور الضوئية التوضيحية للوحات لؤي كيالي، ومنذ البداية أكد القاسم على أنه على مر العصور كانت هناك محاولات كثيرة لربط الابداع بالحالة النفسية غير الطبيعية، من مثال المقولة الشعبية «الجنون فنون»، ورأى في هذا الربط فكرة مغلوطة تماما، فالتاريخ القريب والبعيد يحفل بعدد كبير من أسماء المبدعين غير المختلين، كما أن هناك الكثير من المختلين نفسيا غير مبدعين على الاطلاق.
بعد ذلك تناول المحاضر مجموعة من الفنانين التشكيليين العالميين ممن نُظر الى شخصهم بعين الريبة، وبدأ حديثه بفان غوغ، واعتبر أن حادثة قطعه لأذنه وتقديمها هدية لمحبوبته الغانية، استغرقت من التداول حتى يومنا هذا أكثر بكثير مما استغرقه فنه، وكأن الجنون هو المطلوب من هذا المبدع، مع العلم أن ثمة دراسة كُتبت في ذكرى مئة عام على رحيله جاء فيها: أنه كان مصابا بالتهاب في أذنه، سبّب له آلاما مبرحة دفعته الى قطعها، واستطرد المحاضر أنه ما من شك أن فان غوغ كان يعيش حالة من الانفعالات الشديدة، هي التي مهدت لضربات ريشته القوية التي ميزت أسلوبه في الفن، وهي المنطقة الأكثر أهمية التي تستدعي القراءة والكشف.
أيضا ذكر القاسم الفنان الكبير غويا، وأشار الى أن أعماله كانت تتصف بكثير من الأناقة والقوة، غير أنه كان هو الآخر يمر بحالات نفسية وهذيانات غريبة نتيجة تخوفه من محاكم التفتيش، مما جعله يهرب من اسبانيا، وقد انعكست مخاوفه برسم الكثير من الأشكال الغريبة ثم الأسطورية التي لا تتقاطع مع أسلوبه العام في التصوير.
فنان آخر ارتبط اسمه بالجنون هو سيلفادور دالي بسبب غرابة طباعه وفنه، غير أن غرابته كانت مفتعلة، فدالي بدأ فنانا واقعيا، ثم انتقل الى الانطباعية فالتجريب قبل السوريالية، وكانت في محاولاته الفنية الأخيرة رغبة حقيقية في الاختلاف عن السائد، وهو سر تميز أسلوبه.
بعد المرور على تلك الأسماء العالمية المهمة التي عُرفت بغرابة طبعها، انتقل القاسم الى تجربة محلية في ذات السياق، هي تجربة الفنان لؤي كيالي، حالة ابداعية استثنائية في التشكيل السوري والعربي، راحت ضحية من ضحايا سوء الفهم على المستويين الشخصي والفني، حيث تناول بداياته الفنية المبكرة، والمحطات الأساسية التي اجتازتها تجربته بالتزامن مع أزماته النفسية التي تسبب بها النقد المسف وغير المنصف.
حول البدايات ذكر المحاضر أن لؤي كيالي ولد في حلب في العام 1934، وبدأت ميوله الفنية بالظهور قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره، وفي العام 1952 أقام معرضه الأول، ثم انتسب الى كلية الحقوق بدمشق، وشارك في المعرض الجامعي السنوي وحصد جائزته الثانية، ثم أُوفد لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة بروما/إيطاليا في العام 1956، وفي سنته الأولى اصطدم مع أستاذه، مما اضطره الى الانتقال الى قسم الزخرفة. أثناء دراسته في روما تفجرت موهبة لؤي، وشارك في العديد من المسابقات والمعارض، وحصد عدداً من الجوائز، وأقام اثنين من معارضه الفردية قبل أن يتخرج في العام 1961، ويعود الى سوريا، لتظل ايطاليا بالنسبة اليه المكان الحميم الذي كان يقيم به المعارض، ويرتبط بعلاقات صداقة واسعة، وكانت لوحاته في تلك الفترة تميل الى تصوير الوجوه النسائية الجميلة.
في السنوات الخمس الأولى على عودته من ايطاليا حقق لؤي نجاحات كبيرة في الوسط التشكيلي بدمشق، وكان ذلك الفنان الممشوق القوام، الوسيم، الشهير والمحاط بالمعجبات، وكان ذلك مصدر حسد وغيرة من بعض الزملاء والنقاد الذين حاولوا النيل منه بالتجريح بفنه، وهنا بدأت أزمته النفسية بالظهور، فرغم أن الكيالي منذ البداية كان يهتم بالفقراء ويرسم الأطفال المشردين ويقدمهم بشكل خاص، فقد اتهمه النقاد أنه فنان برجوازي، وبعد أن انتقل الى تصوير القضايا الوطنية اعتبروه انتهازيا.
ففي العام 1966 بدأ لؤي يتأثر بأفكار الفن الملتزم، وفي نيسان (ابريل) 1967 أقام معرضا بعنوان «في سبيل القضية» ضمّ ثلاثين لوحة نُفذّت بالفحم، صوّر فيه مأساة الشعب الفلسطيني، وطاف به المدن السورية، وهو الذي اشتهر بألوانه الزاهية، وموضوعاته الأنيقة، لكن النقاد اتهموا معرضه بعدم الصدق، واتهموا موقفه بالانتهازية، وأثناء طواف المعرض وقعت هزيمة حزيران، فاشتدت أزمة لؤي النفسية، وأحرق لوحاته، وتم ارساله للعلاج في لبنان.
في مطلع السبعينيات تعافى لؤي من أزمته النفسية، واستقر في حلب، وأوجد حياة جديدة، واستعاد فنه، ومنذ العام 1973 لجأ الى أسلوب الرسم على الخشب المضغوط بألوان شفافة، وبدأ يهتم بالمساحات الواسعة، وعمالة الأطفال، واعتُبرت السنوات ما بين 1973و1976 بمثابة الفترة الذهبية في تجربة لؤي، كان يظلل اللوحة، ثم يكسوها بالألوان الشفافة، ولم يكن يهتم بالتفاصيل ماعدا الشعر والوجه، وكان في ذلك احدى علامات أسلوبه المميز.
انفضت الشلة التي كان ينتمي اليها لؤي، بعضهم هاجر أو انتقل للعمل في مكان آخر، فبدأ يشعر بالوحدة والعزلة من جديد، ما دفعه الى التفكير بالسفر، فباع بيته في حلب، وغادر الى ايطاليا على أمل أن يلتقي بأصدقائه القدامى، ويزاول الفن في فضاء نظيف، لكنه فوجئ بأن الحياة تغيرت هناك، فأصيب بخيبة كبيرة، وعاد الى سوريا بعد عام، وأخذ يتعاطى الحبوب المهدئة، وفي احدى الليالي بينما كان مخدرا سقطت سيجارته من يده، فاحترق هو ومنزله، وبعد ثلاثة أشهر من الحادث توفي في السادس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) في العام 8791.
وبالاستناد الى المعلومات الواردة في سياق المحاضرة، لم تكن سيرة لؤي كيالي بالسيرة العادية، فقد جاء في زمن التأسيس والصراعات التناحرية، وعاش على شفير المتناقضات حاملا الحلم بفضاء أرحب في مخيلته، والحزن في قلبه، انها سيرة مبدع حقيقي، ربما جاء قبل أوانه، فاستحق فضل الريادة في الكثير من الجوانب، لكنه بالمقابل تعرض الى كل صنوف الأذى النفسي، شأنه في ذلك شأن كل السابقين لعصرهم.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد