الأجندة الإسرائيلية ضد الفلسطينين
كما في الحالة الشارونية التي شهدنا فيها مزاوجة جدلية وعضوية بين الأيديولوجيا والإستراتيجيات والبرامج السياسية وبين الخطط والحملات الحربية المتدحرجة المدججة بكافة أشكال ومستويات المجازر والجرائم البشعة ضد كافة أبناء الشعب الفلسطيني، كذلك في الحالة الأولمرتية اليوم، فإن مثل هذه المزاوجة أصبحت ماثلة أمامنا وملموسة على الأرض.
فقد بدأ أولمرت عهده بالإعلان الصريح عن أيديولوجيا "أرض إسرائيل"، كما أعلن عن مرتكزات أجندته السياسية وعن حدود دولته اليهودية التي يريدها، مغلفا ذلك بفلسفة "الانفصال والانطواء والتجميع" بما يكرس في نهاية المطاف مشروعه السياسي ذا المضامين والأهداف الشارونية.
ولكن بما أن تحقيق الأهداف السياسية والإستراتيجية من وجهة نظر إسرائيل لا يمكن إلا بعد أن يتم كسر شوكة الفلسطينيين وإجبارهم على القبول بما تعرضه عليهم إسرائيل من تسويات سياسية.
وبما أن الوضع الفلسطيني شهد تطورات داخلية ديمقراطية وسلطوية جاءت بحماس للحكومة وللمجلس التشريعي معا وباتت حماس هي صاحبة النفوذ والقرار.
وبما أن كافة المساعي الإسرائيلية التخريبية في الداخل الفلسطيني قد فشلت في إشعال نار الفتنة والاقتتال بين حماس وفتح.
وبما أن الحوار الوطني الفلسطيني قد انتهى مؤخرا إلى تفاهم وصيغة وحدوية لم تكن في حساباتهم، فقد سحبوا من جواريرهم تلك الخطط الحربية المبيتة منذ زمن، والتي كان القيام بها مسألة وقت وتوقيت فقط.
فكانت صواريخ القسام ذريعة قوية إعلاميا. وجاءت عملية "الوهم المتبدد" وأسر الجندي الإسرائيلي لتوفر الحالة الظرفية التبريرية المناسبة لإعلان حملة "أمطار الصيف" التي تخفي وراءها جملة من الأهداف الإستراتيجية الخبيثة، كإضعاف أو إسقاط حكومة حماس ومجلسها التشريعي وإلغاء السلطة الفلسطينية سياسيا تماما بغية تهيئة المناخ المناسب لمواصلة تنفيذ مشروع "الانفصال والانطواء والتجميع".
ولكن قبل تدهور الأوضاع إلى "أمطار الصيف" على نحو مخطط، كانت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية تهيئ المناخ المحلي والإقليمي والدولي عبر شن حملات إعلامية مكثفة متواصلة ضد حماس والسلطة.
ووظفت لذلك ذريعتها التضليلية المعهودة حول "أن حماس حركة إرهابية وحكومة حماس إرهابية. وليس أمامها إلا أن تقبل بالشروط الإسرائيلية والدولية أو أن يجري العمل على إسقاطها".
ولم تكن الحملات الإعلامية التحريضية الإسرائيلية عفوية وبلا نوايا مبيتة، بل إن هناك محددات ومرتكزات وخطوطا وأهدافا سياسية وإستراتيجية للأجندات الإسرائيلية تقف وراء هذه الحروب الإسرائيلية المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني. وفي مقدمتها البعد الأيديولوجي المتعلق بـ"أرض إسرائيل".
أرض إسرائيل في فكر أولمرت
نقرأ هذه المرحلة الأولمرتية من المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية باعتبارها امتدادا للمرحلة الشارونية التي لم تسدل الستارة عليها أبدا، وباعتبار أن أولمرت -كما أعلن هو نفسه- امتداد لتلك المرحلة ومواصل لطريق شارون.
ولذلك يمكننا التوكيد على أن نفس البعدين الشارونيين السياسي/الإستراتيجي والأيديولوجي/التوراتي يقفان أيضا وراء سياسات وحروب حكومة أولمرت ضد الشعب الفلسطيني.
وكما كان شارون ينطلق في حروبه من مزاعمه الأيديولوجية المتعلقة بـ"أرض إسرائيل من البحر إلى النهر" ومن "أن من حق اليهود الاستيطان في كل مكان، وأن من حقهم بالتالي الدفاع عن أنفسهم في مواجهة العماليق الأشرار"، كان أولمرت يثبت يوما بعد يوم أنه لا يقل تشددا وتطرفا ودموية وتمسكا بالثوابت الصهيونية التقليدية عن سلفه البلدوزر.
ولعل تلك التصريحات التي أدلى بها أولمرت أمام "مؤتمر نوبل للسلام – البتراء 2006" الذي عقد في وادي موسى جنوب الأردن 22/6/2007 تعبر أبلغ تعبير عن كل هذه المضامين والمنطلقات الأيديولوجية لهذه الحرب الأولمرتية التي توجت بـ"أمطار الصيف" الصاروخية الإرهابية والمجازر المتدحرجة هناك في غزة.
فعندما سئل أولمرت في ذلك المؤتمر عن حجم الاستعداد للتنازل الإقليمي قال "نحن الإسرائيليين اليهود جازمون أن أرض إسرائيل التاريخية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط هي أرضنا وتراثنا، ونحن اليهود نملك الحقوق التاريخية. الآثار في الأرض لليهود وليس للفلسطينيين".
وهذا يعني عمليا وفق ممارساتهم الملموسة "أن تقسيم الأدوار بين أميركا وإسرائيل في المنطقة يدخل في إطار تحقيق الأسطورة القديمة المتمثلة في فتح الفضاء الواصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج لإسرائيل لتتحرك فيه كما تشاء كمقدمة للهيمنة عليه أمنيا واقتصاديا وعسكريا".
وعلى ذلك يمكننا أن نقرأ المرتكزات والمضامين الحقيقية للأجندة السياسية الإستراتيجية لحكومة تحالف أولمرت-بيرتس- بيريز التي أعلنت حرب "أمطار الصيف" ضد الشعب الفلسطيني.
وفيما يتصل بأرض إسرائيل التاريخية المزعومة وبترسيم حدود دولة إسرائيل، وعلى خلاف نهج الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في التهرب دائما من مسألة رسم حدود الدولة الصهيونية، فقد سمعنا تصريحات وتحليلات إسرائيلية عديدة في عهد أولمرت تتحدث عن ترسيم حدود إسرائيل خلال العامين القادمين تصوروا.
فلنقرأ إذن في الاستخلاص المفيد ما يضمره لنا أولمرت في برنامجه وتصريحاته السياسية الخادعة.
ونقول ها هو أولمرت الشاروني يعيد الأوضاع إلى مربعها الأول ويدشن عهده بأمطار الصيف ويستأنف لغة المروحيات والصواريخ والاغتيالات والمجازر الجماعية ضد نساء وأطفال وشيوخ فلسطين ويهدد بالاجتياح وإعادة احتلال غزة.
بدا وكأن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت بانتظار تلك الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي حملت حماس إلى المجلس التشريعي والحكومة لتعلن أن السلطة الفلسطينية تحولت من الآن فصاعدا إلى كيان إرهابي معاد.
فقد شبه رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي الشاباك الإسرائيلي السابق آفي ديختر مبكرا ميثاق حماس بمؤلف هتلر "كفاحي"، وقال رئيس الشاباك يوفال ديسكين "إن حماس تحاول أن تظهر بصورة براغماتية ومعتدلة، لكنها من ناحية شعبية احتفظت في الشارع الفلسطيني بأيديولوجيتها، وهي تتحدث عن حدود 1967 وتطمح إلى حدود 1948".
واعتبر ديسكن أن حماس تشكل خطرا إستراتيجيا على إسرائيل، بينما أكد دان حلوتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي "أن على إسرائيل أن تقرر وتحدد سياستها منذ اليوم الأول لأن افتراضنا الأساسي هو أن حماس لن تتغير وستظل تشكل تهديدا على إسرائيل".
ويصل إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى الخلاصة المفيدة التي يريدونها هم وهي كما أعلن "أن القدرة على التوصل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين قد استنفدت وانتهت".
وهذا هو بيت القصيد بالنسبة للسياسة الإسرائيلية منذ أن بدأ البلدوزر شارون حرب الاجتياح والإجراءات أحادية الجانب التي كرس بها مقولة "ليس هناك من شريك فلسطيني نتفاوض معه" ونجح في تجنيد الإدارة الأميركية.
لقد تبنت المؤسسة السياسية الإعلامية الدبلوماسية الإسرائيلية جملة شعارات تحريضية ضد الفلسطينيين بغية اتهامهم بالعجز والفشل وعدم صلاحهم لأن يكونوا شركاء في التسوية وبهدف "هتلرة حماس" و"قوعدة" الفلسطينيين أي اتهامهم بالتحول إلى القاعدة، وإقناع العالم الأميركي والأوروبي بشرعية الحروب الإسرائيلية ضدهم.
في هذا السياق التحريضي نشرت صحيفة هآرتس 27/1/2006 تقريرا شاملا حول حماس قالت فيه "هؤلاء هم شركاؤنا الجدد إنهم يصرون على عودة اللاجئين إلى بيوتهم وليسوا على استعداد لأي تسوية حول القدس، ويصرون على تفكيك كافة المستوطنات الإسرائيلية، وليسوا على استعداد لسماع أي شيء حول تكتلات المستوطنات".
فكانت ردود الفعل الأولى على فوز حماس من مثل "ها قد جاءت دولة حماس"، و"حماس المشكلة الإستراتيجية الجديدة لإسرائيل"، و"هزة أرضية في الشرق الأوسط"، و"الفلسطينيون قالوا نعم للإرهاب"، و"السلطة بقيادة حماس لن تكون شريكا لنا"، و"لن نساوم ولن نفاوض حماس طالما لم تلغ ميثاقها وتلتزم بالاتفاقيات"، و"لم تعد هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين"، و"حماس عبارة عن ورم خبيث يجب اجتثاثه"، وغير ذلك الكثير الكثير.
إلى إن وصلت التطورات إلى مستوى البحث عن الخيارات والبدائل ووضع الإستراتيجيات لمحاربة وإسقاط حكومة حماس.
فكانت إستراتيجية الحصار والتجويع كما أعلن كبير مستشاري شارون سابقا دوف فايسغلاس الذي قال "علينا تجويع الفلسطينيين ببطء، ولكن مع الحفاظ على حياتهم".
ووصلت الحملة إلى مستوى التنسيق الشامل بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية حول "هكذا سنعمل على إفشال حكومة حماس" وحل المجلس التشريعي، والأسلوب هو التجفيف المالي والاقتصادي بهدف دفع الفلسطينيين إلى اليأس تحت سلطة حماس إلى أن وصلت الحملة أيضا إلى مستوى تشكيل جبهة عالمية ضد حماس.
خطط الجيش لتدمير مؤسسات حماس والسلطة
وفي أعقاب ذلك بلورت أجهزة الأمن الإسرائيلية خطة شاملة لعزل حكومة حماس كما جاء في معاريف 7/3/2006.
وكتبت هآرتس في نفس التاريخ "قامت الهيئة الأمنية الإسرائيلية بإعداد توصيات لخوض صراع ضد حكومة حماس وعزلها".
ويوما بعد يوم وخطوة بعد خطوة أخذ الإسرائيليون والفلسطينيون يقتربون من حافة المعركة المقبلة.
وفي كلا الطرفين تمحور الشعور حول فكرة أن حالة الحرب قد حسمت ولا شيء سوف يحول دون وقوعها، وأن وصول حركة حماس إلى السلطة قد سرع هذه الحرب وضمن وقوعها، حسب رأي يديعوت أحرونوت.
ولذلك أعد الجيش الإسرائيلي مخططا هيكليا للحرب ضد حماس حسب هآرتس، وقام الجيش بإنهاء تدريبات واسعة النطاق لإعادة احتلال أجزاء من غزة، ثم قام بإعداد خطة خماسية استعدادا للمواجهة مع الفلسطينيين، وأخذ يقترح الخطة تلو الأخرى لاجتياح غزة.
وأخيرا وصل الأمر إلى الخطة الشاملة التي كشف النقاب عنها لضرب كافة مؤسسات حماس في الضفة الغربية، وتشمل إنهاء نشاطات الجمعيات والمؤسسات واللجان التي ترتبط بحركة حماس، وذلك في إطار "خطة مبيتة أعدتها الحكومة الإسرائيلية مسبقا لتدمير الحكومة الفلسطينية كما تقول يديعوت أحرونوت.
وتعتبر المؤسسة العسكرية السياسية الإسرائيلية أن هذه العملية الفلسطينية الأخيرة فرصة لشن حرب لتدمير حماس وأن عملية أمطار الصيف تعتبر أيضا فرصة لصياغة واقع جديد في غزة.
وبالتالي فإن إسرائيل تستثمر هذه العملية والحادثة المأساوية أسر الجندي لإحداث تغيير إستراتيجي في المنطقة، وذلك في إطار حرب لا هوادة فيها قد تستمر لمدة شهرين، أو قد تكون حرب استنزاف مستمرة ضد الفلسطينيين.
قصة خطط ونوايا وأجندات مبيتة
هذه هي العناوين والمضامين والأهداف الحقيقية وراء كل ما يجري، ولذلك عندما يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت تحميل السلطة والحكومة الفلسطينية مسؤولية ما يجري، وعندما يؤكد أن وثيقة الأسرى مرفوضة وأنها لا تشكل بداية للمفاوضات، وأن رد الفعل الإسرائيلي على خطف الجندي سيكون قاسيا جدا.
وعندما يعززه وزير الدفاع "الحمامة" عمير بيرتس قائلا "إن الفلسطينيين سيدفعون الثمن مضاعفا سبع مرات".
وحينما يتوعد رئيس الأركان الجنرال حلوتس باستهداف الحكومة الفلسطينية من أسفل الهرم إلى أعلاه، ويقول "لا حصانة لأحد إذا تم المس بالجندي المخطوف"، و"إن إسرائيل ستقوم بتصفية كل الضالعين في مهمات إرهابية".
وحينما ترفق دولة الاحتلال كل هذه التهديدات بالاجتياح والاغتيالات والقصف والنسف والتدمير واختطاف الوزراء وأعضاء المجلس التشريعي والآتي وفق المؤشرات سيكون أوخم وأقسى، نقول حينما تتسيد كل هذه العناوين وغيرها المشهد الفلسطيني فإن تلك الأجندات والأهداف تغدو واضحة تماما.
فالقصة ليست عملية "الوهم المتبدد" أو "اختطاف الجندي الذهبي"، وإنما هي قصة خطط ونوايا وأجندات مبيتة تهدف إلى إعادة صياغة مشروع الاحتلال من جديد وفقا لموازين ومعادلات القوى والأحوال العربية والإقليمية والدولية التي تصب في حصيلتها المؤسفة لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
لذلك فإن فلسطين لا تحتاج في مقدمة ما تحتاجه إلى بيانات الندب والشجب والعجز فقط، وإنما إلى مواقف عربية جادة وحقيقية رسمية –إن أمكن- وشعبية.
ولا سبيل إلى ردع وتعطيل حروب الاحتلال ومشاريعه في الاجتياح والجرائم والمجازر والاستيطان والجدران إلا بإعادة صياغة السياسات والمواقف العربية أولا.
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد