معرض القاهرة للكتاب بحماية أمنية وعسكرية
آلاف الروايات في «معرض القاهرة للكتاب» ــــ حتى الخياليّة منها أو البوليسية ــــ لم تجنح صفحاتها إلى مشهد مماثل: أطفال مبتهجون في صباح شتوي مشمس، يسابقون الأهل إلى بوابات ملوّنة لكنّهم سرعان ما يصطدمون بصفوف من رجال العسكر. يسدّ هؤلاء المداخل بوجوه صارمة كما في أيّام الشغب، بينما رجال أمن آخرون بملابس مدنية يفتّشون الداخلين بعناية واجتهاد زائد. ماذا يجري؟ هل جئنا إلى معرض كتاب أو ثكنة عسكريّة؟ لا بد من أنّ الأهل سيعجزون عن تفسير الأمر لصغارهم: جاؤوا بهم كي تبدأ علاقتهم بالقراءة، فبدأت علاقتهم بـ... البوليس!
من غير الإنصاف عدم النظر إلى إيجابيّات الدورة الـ41 من المعرض الشهير الذي لم يعد يملك من عصره الذهبي سوى أفعل التفضيل (الأعرق والأضخم والأكبر)، فيما انحطّ إلى أسفل الدركات على مستوى التنظيم والإدارة! في الدورة الحالية، اختلف الأمر قليلاً: مُنع الباعة الجوّالون، وألغيت المطاعم التي كانت تتوسط صالات عرض الكتب، ووسِّعت الممرات بين الأجنحة، ومُنعت مكبرات الصوت. لأول مرة من زمن، بدت ساحات المعرض أكثر هدوءاً ونظافة وتنظيماً. لكنّ المشكلة أنّ ذلك ترافق مع تشديد الإجراءات الأمنية وإلغاء «المقهى الثقافي»، ما أسبغ على التجديدات لوناً بوليسياً، تماماً مثلما تبادر الحكومة إلى رصف شوارع المناطق العشوائية، كي تستطيع سيّارات الشرطة اقتحامها!
على أي حال، الدورة الحالية التي أُجَّل ختامها حتى 8 الشهر المقبل، ستكون الأخيرة وفق الصورة الحالية للمعرض. الموعد المقبل في قاعة المؤتمرات الكبرى المجاورة للمعرض. على أن يستكمل ما بدأ فعلاً من هدم منشآت أرض المعارض وإعادة بنائها بصورة جديدة، فيعود إليها المعرض بدءاً من الدورة الـ43. هل ستستعيد تلك التظاهرة حيويّتها إذاً بمعزل عن تجديد المنشآت؟ لا يبدو ذلك، فحال المعرض كحال مؤسسات الثقافة والإعلام الكبرى في مصر: سيطرت عليها دولة ما بعد يوليو وفق مشروع نهضوي، فاختفى المشروع ولم تبقَ سوى السيطرة.
لكنّ الاختلاف الأهم لا علاقة له بالإدارة، بل بالسوق: تدريجاً تغيّرت طبيعة العناوين... واختلفت نوعية المشترين، بغض النظر عن سوق الكتب الدينية التي بقيت على «ازدهارها» العتيد. فالتغيّر الأبرز طاول رواد المكتبات التي اشتهرت بكتب الفكر والسياسة، فإذا بمعظمها يتجه إلى الأعمال الأدبية. وفي وقت أصبحت فيه دار كبيرة مثل «الشروق» أكثر اهتماماً بالروايات، فإنّ الملمح الأبرز هو الحجم الذي تحوزه تلك الروايات ضمن «دعاية» الدار لنفسها وكتبها. وبدورها تركّز الدور الحديثة على الكتب الأدبية. حتى يبدو للزائر أنّ الزمن الذي كان القارئ يتجه فيه إلى المعرض لمتابعة جديد الفكر والسياسة قد انتهى. لم تعد صدارة المعرض لكتب هيكل ونصر أبو زيد وفرج فودة... في مواجهة كتب الغزالي والشعراوي. بل إنّ الزحام صار الآن على روايات علاء الأسواني، خيري شلبي، بهاء طاهر، وكتّاب شباب مثل حامد عبد الصمد وطارق إمام وحمدي أبو جليل... وغيرهم ممن تشهد أعمالهم الآن رواجاً غير مسبوق.
في ظلّ واقع جديد يشهد تأثر كتب السياسة بسيطرة الفضائيات التي تلتقط التحليلات بصورة آنية تعجز عنها ماكينات المطابع... متى «يتعمّق» المؤلفون فيكتبون ويطبعون ثم يبيعون؟ الأدب وحده يحتفظ بطزاجته خارج الزمن. إذ لن تفسد الرواية مهما انتظرتك وانتظرتها. في ظل ذلك الواقع المتغيّر، وجدت كتب الفكر والسياسة حلاً في إظهار ميل نحو التاريخ القريب والحديث، مثلاً، تقدّم مكتبة «مدبولي» كتاب «مختصر موسوعة مصر القديمة» لعبد المنعم الحفني، وتطبع «حجاب العقل» لنوال السعدواي...
ويبدو أن الذين تنبّأوا بـ«موت الشعر» سينتظرون طويلاً. تعود الدور المصرية بعدد من الدواوين أبرزها «الشاعر والشيخ» لحلمي سالم الذي يستلهم فيه تجربة صراعه القضائي مع الشيخ يوسف البدري. الديوان صدر عن «دار آفاق» التي طبعت «أنا شاهد قبرك» لفاطمة قنديل و«مقسومة على صفر» للينا الطيبي. وليس حلمي سالم وحده من السبعينيين. إذ تقدم «الدار للنشر» لمحمد عفيفي مطر «ملكوت عبد الله» ولحسن طلب «قربان لإله الحرب» و«مختارات» لقاسم حداد و«اسمي ليس صعباً» لفاطمة ناعوت. وتعود «ميريت» عقداً إضافيّاً إلى الوراء، فتقدم من الستينيين سيد حجاب في ديوان يضم قصائد عن فلسطين وغزة، وتعيد طبع الأعمال الكاملة لأحمد فؤاد نجم، ثم تقدم شعراء شباناً هم ياسر عبد اللطيف (جولة ليلية)، أحمد يماني (أماكن خاطئة)... أما «ملامح»، فأصدرت ديوان عادل سلامة «كليك شمال».
وعلى رغم السيطرة القاطعة للرواية، فقد لوحظت قلة العناوين «الجديدة» فيها، أي تلك التي صدرت خصيصاً قبل المعرض مباشرة أو أثناءه. ما قد يطرح استنتاجاً أن رواج الرواية تبيع طوال العام بينما يحتاج الشعر والقصة وغيرهما إلى جمهور مضمون يؤمّنه المعرض. من أبرز الأسماء الروائية المشاركة في عمل جديد صنع الله إبراهيم مع «القانون الفرنسي» (دار المستقبل العربي). ويقدّم القاصّ سيد الوكيل روايته القصيرة «شارع بسادة» التي كتب على غلافها واصفاً إياها «نوفيللا»... في أول اعتراف «رسمي» من مؤلف بطبيعة ذلك الشكل/الحجم الأدبي الذي كاد يسيطر على سوق الرواية المصرية.
محمد خير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد