ادوارد سعيد: أنسنية بلا ضفاف
سوف أستند في تناولي للبيئة التي نشأ ادوارد سعيد وعاش في ربوعها الى مذكراته الشهيرة «خارج المكان», والتي أقدم ادوارد على كتابتها بعد تلقيه تشخيصا طبيا يُفيد اصابته بسرطان الدم €اللوكيميا€. فقد شعر الرجل بأهمية أن يخلّف سيرة ذاتية عن حياته في العالم العربي, حيث ولد وأمضى سنواته التكوينية, كما في الولايات المتحدة حيث ارتاد المدرسة والكلية والجامعة!
ولعل في وصف الناشر العربي, وهو دار الآداب البيروتية, للمذكرات بأنها نص غنائي وجميل الصنعة, يبلغ أحيانا درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو, في الآن ذاته, حميم ومرح. يكشف فيه ادوارد دقائق ماضيه الشخصي, ويستعرض لقرائه معالم البيئة التي كونت شخصيته ومكنته من أن ينتصر, ليصبح بحق واحدا من أهم وأبرز أنسنيي العصر الحديث ـ أقول لعل في هذا الوصف الموجز والبليغ لـ «خارج المكان», تعضيدا لقناعتي بأهميتها في الكشف عن ارهاصات النزوع الأنسني لدى ادوارد سعيد, خصوصا وأن ادوارد نفسه, في مقدمته لتلك الطبعة العربية الأنيقة من المذكرات, يُورد ما يعزز هذه القناعة, وهو قوله: «آمل أن لا أبدو متبجحا ان قلت ان الجديد في €إدوارد سعيد€ المركب الذي يظهر في خلال هذه الصفحات, هو عربي أدت ثقافته الغربية, ويا لسخرية الأمر, الى توكيد أصوله العربية, وان تلك الثقافة, اذ تُلقى ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية, تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات»!
قارئي الكريم, لندلف الآن سوياً الى «خارج المكان», ولسوف نجد ادوارد, وقد أبهرنا كعادته, عبر مُضيه قُدما في قراءة عميقة ومبهرة لجوانيته, بدا فيها كمن يحادث نفسه, لا كمن يكتب الى جمهور واسع وعريض من القراء, في شتى أنحاء العالم. فها هو يعقد ألسنتنا بالدهشة, اذ يقول: «إن الأرق عندي حالة مباركة أرغب اليها بأي ثمن تقريبا. فليس عندي ما هو أكثر تنشيطا, من أن أطرد عني فورا ظلال الوسن لليلة خسرتها, غير اعادة تعرفي في الصباح الباكر, على ما كدت أخسره كليا قبل بضع ساعات أو استعادتي اياه. بين الحين والآخر, أرى نفسي كتلة من التيارات المتدفقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة, وهي الهوية التي يُعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة. تتدفق تلك التيارات, مثلها مثل موضوعات حياتي, خلال ساعات اليقظة. وهي, عندما تكون في أفضل حالاتها, لا تستدعي التصالح ولا التناغم. انها من قبيل النشاز, وقد تكون في غير مكانها, ولكنها على الأقل في حراك دائم في الزمان وفي المكان وبما هي أنواع مختلفة من المركبات الغريبة, لا تتحرك بالضرورة الى أمام, وانما قد يتحرك أحيانا واحدها ضد الآخر, على نحو طباقي ولكن من غير ما محور مركزي. انه ضرب من ضروب الحرية, على ما يحلو لي أن أعتقد, رغم أنني بعيد كل البعد عن أن أكون مقتنعا كليا بذلك. ونزعة التشكيك هذه هي أحد الثوابت التي أتشبث بها بنوع خاص. والواقع انني تعلمت, وحياتي مملوءة الى هذا الحد بتنافر الأصوات, أن أؤثر ألا أكون سوياً تماما وأن أظل في غير مكاني»!
إدوارد يعطينا اذاً مفتاح شخصيته, ويُعري لنا في جرأة وشفافية ارهاصات نزوعه الأنسني! ألا يحدثنا في الاقتباس السابق عن القلق الذي لطالما رافقه في رحلة الحياة, والذي ساعدت على خلقه والاحتفاظ به في حالة تأجج دائم, ظروف البيئة التي نشأ فيها؟! ثم, أليس يحدثنا في الاقتباس نفسه عن رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة, تكون في أفضل حالاتها, عندما لا تستدعي التصالح ولا التناغم؟! وهو حديث يشي في مجمله بالولع الادوري بالحراك الدائم والتشكيك المستمر! وأخيرا, أليس يكشف لنا ادوارد عن إيثاره ألا يكون سوياً تماما وأن يظل في غير مكانه؟! وكلها أمور تُهيئ صاحبها لولوج عالم الفكر الأنسني, على نحو ما سنرى لاحقا. اذاً, ما الذي بقي لي وأنا بصدد الحديث عن بيئة ادوارد التي نشأ فيها, وساهمت في صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري؟ أغلب الظن أنه لم يبق أمامي سوى السعي لرصد وتحليل الحوادث التي تفسر القلق الادوري, واللاتناغم الادوري, اضافة الى الولع الادوري بالحراك والتشكيك الدائمين!
ولتكن البداية حديث ادوارد في مذكراته عن طفولته, وتساؤله القلق عن مدى مسؤولية البيئة التي نشأ فيها عن بقائه في غير مكانه طوال حياته, فهما يساهمان, ولو جزئيا, في افهامنا دواعي ومسببات القلق الادوري والولع بالحراك الدائم والتشكيك المستمر. وكيف لا؟! وادوارد يحدثنا في مذكراته عن طفولة حبيسة لقيود منزلية صارمة, حالت بينه وبين الاحساس بالذات فيما يتجاوز هذه القيود, وأجبرته أن يخطو خطواته الأولى على طريق خلق الذات, مقتديا في ذلك بوالديه, لأنهما كانا أيضا نتاج عملية خلق للذات! ومُجسدا في الوقت نفسه قول ماركيز: «لا يولد البشر مرة واحدة والى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم, انما تجبرهم الحياة على أن يلدوا أنفسهم بأنفسهم»! وادوارد يحدثنا أيضا عن تأثير الارساليات والمؤسسات التعليمية الكولونيالية, التي أُجبر على التعاطي معها, خصوصا خلال رحلته التعليمية, والتي اسهمت في تعزيز اتجاهه نحو خلق الذات بالذات!
يقول ادوارد في «خارج المكان» عن طفولته: «كنت دوما في غير مكاني. لم يترك لي نظام الضبط والتربية المنزلية الجامد الصارم, الذي حبسني فيه أبي منذ سن التاسعة, أي متنفس أو أي مجال للإحساس بالذات في ما يتجاوز قواعده وترسيماته. هكذا أصبحت €إدوارد€ مخلوق والدي, تراقبه في عذاباته اليومية ذات داخلية مختلفة كليا عنه, لكنها على درجة من فتور الهمة, بحيث تعجز, في معظم الأحيان, عن مساعدته. وكان €إدوارد€ أساسا, هو الابن ثم الشقيق وأخيرا الصبي الذي يرتاد المدرسة ويفشل في محاولاته التقيد بالأصول €أو يتجاهلها ويتحايل عليها€. وقد كانت عملية خلقه واجبة الوجوب لأن والديه كانا هما أيضا نتاج عملية خلق للذات بالذات, فلسطينيين ينتميان الى بيئتين مختلفتين ومزاجين متغايرين جذريا, يعيشان في القاهرة الكولونيالية. ابني أقلية مسيحية تعيش هي نفسها ضمن حومة من الأقليات, ليس لأي منهما سند سوى الآخر. وهما يفتقدان, فوق ذلك كله, أي أعراف يهتديان بها في سلوكهما, باستثناء مزيج غريب: من عادات فلسطينية من فترة ما قبل الحرب, وحكم أميركية مجمعة على نحو انتقائي من الكتب والمجلات ومن السنين العشر التي أمضاها أبي في الولايات المتحدة €التي لم تزرها أمي الا في العام 1948€, ومن تأثير الارساليات والتعليم المدرسي المتقطع ومن ثم الهامشي, ومن مواقف بريطانيا كولونيالية تمثل الأسياد وسواد البشرية التي يحكمها هؤلاء الأسياد في آن معا, وأخيرا, من نمط حياة عاينه والداي حولهما في القاهرة وحاولا تكييفه مع ظروفهما الخاصة. فهل يمكن لـ €إدوارد€, والحال هذه, أن يكون الا في غير مكانه؟»!
ولندع ادوارد يروي لنا تجربته مع واحدة من أهم وأبرز المؤسسات التعليمية الكولونيالية التي أُجبر على الدراسة فيها, خلال رحلته التعليمية, وهي كلية فيكتوريا بمصر, ولسوف يرى القارئ الكريم أن حديث ادوارد عن تجربته تلك من شأنه تعزيز قناعتنا بكونها الى جانب التجارب الأخرى المشابهة لها اسهمت بصورة أو بأخرى في تعزيز قلق ادوارد ولاتناغمه واتجاهه نحو خلق الذات بالذات, فقد أدرك ادوارد في كلية فيكتوريا أنه يواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة قصد بها ادوارد بريطانيا العظمى, بل وقابلة لأن تؤذيه, ووجد نفسه مُجبرا على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة آنذاك.
يقول ادوارد في مذكراته: «اتسمت حياتنا في فيكتوريا كولدج بتشوه كبير لم أدركه حينها. كانت النظرة السائدة الى التلامذة أنهم أعضاء, تمموا دفع اشتراكاتهم, في نخبة كولونيالية مزعومة يجري تعليمها فنونا امبريالية بريطانية قضت نحبها, مع أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة انكلترا وآدابها, وعن النظام الملكي والبرلمان, عن الهند وأفريقيا, وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع استخدامها في مصر أو في أي مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة العربية يُعدان بمثابة جنحة يُعاقب عليها القانون في فيكتوريا كولدج, فلا عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا. وكانوا يمتحنوننا بصفتنا تلامذة انكليزا, نجر أذيالنا متخلفين سعياً الى تحقيق هدف مُبهم, يستحيل تحقيقه أصلا, من صف الى صف آخر ومن سنة مدرسية الى سنة مدرسية تالية, يواكبنا أهلنا طوال ذلك المسار مشغولي البال علينا. ثم انني أدركت في قلبي أن فيكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التي تشدني الى حياتي السابقة, وأن ادعاء أهلي انني مواطن أميركي قد تهافت, فقد بتنا ندرك جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة, بل وقابلة لأن تؤذينا, ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر».
ويظل تأكيد ادوارد في مواضع أخرى عديدة من مذكراته على مسألة نفوره من الكولونيالية وممثليها, وكذا تأكيده حرصه على خلق ذاته بذاته, تعضيدا لقناعتنا المُعبر عنها سلفا بالدور المهم الذي لعبته بيئة المنشأ في تغذية القلق الادوري وكذا تحفيز التوجه الادوري لخلق الذات بالذات. فها هو ادوارد يرفض معاملة المصريين له ولذويه في أربعينيات القرن الماضي, كأجانب أو كخواجات, رغم احساسه بهويته العربية, اضافة الى رفضه أن يُختزل الى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية. يقول ادوارد عن ذلك: «مع حلول الأربعينيات يقصد أربعينيات القرن الماضي , لم نعد مجرد €شوام€ بل صرنا €خواجات€, وهو اللقب التبجيلي الدال على الأجانب الذي يحمل دائما لسعة عداء عندما يستخدمه المسلمون المصريون. وعلى الرغم من انني كنت أتكلم باللهجة المصرية ولي مظهر المصري الأصلي, فقد كان ثمة ما يشي بي. وكنت أستنكر التلميح الى انني أجنبي نوعا ما, مع انني أدرك في العمق أنهم يعتبرونني أجنبيا, رغم انني عربي... كان هذا اللقب يقصد لقب الخواجة يقرحني تقريحا, فقد رفضت هذا التعيير من جهة بسبب نمو احساسي بهويتي الفلسطينية... ومن جهة ثانية بسبب وعيي الناشئ لنفسي بوصفي, على العموم, كائنا أكثر تعقيدا وأصالة من أن أُختزل الى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية»!
ولعل فيما أورده ادوارد في مذكراته بشأن تقييمه لمسألة رحيله الى الولايات المتحدة الأميركية في العام 1951, ما يعفيني من المضي قُدما في الاستشهاد بالمزيد من الأحداث التي تعج بها مذكرات ادوارد, والتي تفسر في مجملها القلق الذي لطالما رافق ادوارد منذ كان صغيرا, ذلك القلق الذي ساعدت على خلقه والاحتفاظ به في حالة تأجج دائم, ظروف البيئة التي نشأ فيها ادوارد والتي عرضنا سلفا لقبس منها. أقول لعل فيما أورده ادوارد ما يعفيني من المضي قدماً في سرد المزيد من الأحداث التي تؤكد اضافة الى ما سبق رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة, تكون في أفضل حالاتها, عندما لا تستدعي التصالح ولا التناغم! علاوة على تفسيرها لايمان ادوارد بخلق الذات, وولعه بالحراك الدائم والتشكيك المستمر, وايثاره ألا يكون سوياً تماما, وأن يظل في غير مكانه! فقد تحدث الرجل على نحو لا لبس فيه ولا غموض عن رحيله الى الولايات المتحدة بوصفه مغامرة, اذ إنه لم يملك ساعتها الا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول اليه حياته لو أنه لم يقدم على تلك المغامرة, وهو الحديث الذي يشي بكون مغامرة الحلم الأميركي وتداعياتها انما جاءت تتويجا لمسببات القلق الادوري المتجذر!
وعليه, أستأذن قارئي الكريم في أن أختم حديثي عن تلك البيئة الاستثنائية التي نشأ فيها ادوارد سعيد والتي شاركت في صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري, بهذا التقييم الادوري المشار اليه تواً. يقول ادوارد سعيد, في مذكراته «خارج المكان», عن مسألة رحيله الى الولايات المتحدة الأميركية: «ما أزال مدهوشاً الى الآن من مجرد خطورة المغامرة التي انطوى عليها قدومي الى الولايات المتحدة الأميركية في العام 1951. لست أملك الا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول اليه حياتي لو انني لم أجئ الى أميركا. ولكن الذي أعرفه انني بدأت فيها بداية جديدة, متناسيا, الى حد ما, ما تعلمته من قبل, لأعيد تعلم الأشياء ابتداء من الصفر, مبتكرا, مخترعا ذاتى, أحاول وأفشل, أختبر وألغي ما اختبرته, لأعاود البدء من جديد, سالكا سبلا مباغتة هي, في الغالب, أعسر السبل قاطبة». ويمضي ادوارد قدماً في تقويمه للمسألة نفسها: «ولا أزال, الى هذا اليوم, أشعر بأنني بعيد عن البيت, مهما بدا الأمر مضحكا. ومع انني لست متوهما انني كنت سأعيش حياة €أفضل€ لو بقيت في العالم العربي, أو عشت ودرست في أوروبا, فلا يزال يلازمني بعض الندم. وهذه المذكرات هي, في وجه من وجوهها, استعادة لتجربة المغادرة والفراق, اذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت قد عشت في نيويورك باحساس موقت, رغم اقامة دامت سبعة وثلاثين عاما, فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم, بدلا من مراكمة الفوائد»!
منظور ادوري
ليس سهلا على المرء بالطبع أن يتصدى لسبر غور الرؤية الادورية لأسس دراسة الحركة الأنسنية في الولايات المتحدة. لأنه اذا كان ادوارد سعيد لا يبارى في المضمار الأنسني, كما يعرف القاصي والداني, فكيف لرؤيته المشار اليها في عنوان هذه الجزئية أن تقارب على نحو مرضٍ, وصاحبها أحد أهم وأبرز رموز الحركة الأنسنية الأميركية, بل والعالمية أيضا, في العقود الأخيرة, وربما لعقود أخرى آتية, أظنها عديدة! من هنا أراني في تناولي لهذه الجزئية الشائكة قانعا من الغنيمة بالاياب, كما يقولون! فليتك قارئي الكريم تقبل ذلك مني.
التحق الطالب ادوارد سعيد بجامعة برنستون في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي, ودرس فيها الانسانيات, على أيدي أساتذة يتمتعون بالكفاءة العظمى. وأسست قراءاته في تاريخ الموسيقى والأدب والفلسفة لكل ما حققه فيما بعد باحثاً ومدرسا. اذ أتاحت له الشمولية الرزينة لبرنامج الدروس في برنستون فرصة التحري الذهني في حقول كاملة من المعرفة, وفي حد أدنى من الحرج! وفقط عندما اتصلت تلك المعارف بنقد سزاثماري المحفز أو بالتمكين الرؤيوي الذي منحه اياه أستاذ من طراز بلاكميور, وجد ادوارد نفسه يُنقب أعمق فأعمق من مستوى الانجاز الأكاديمي الرسمي. وبدأ, بطريقة ما, في بلورة منحاه الفكري المتماسك والمستقل. وخلال الأسابيع الأولى من سنته الثانية أدرك ضرورة أن يفعل المزيد لتنمية انبهاره المبكر بالتعقد والفجائية وخصوصا بالتعقدات والالتباسات المتعددة التي تنطوي عليها عمليتا الكتابة والخطابة , وهو انبهار لازمه طوال حياته! والمفارقة في الأمر أن الذي حفز ادوارد على ذلك هم الأساتذة الأكثر تقليدية من حيث المقاربة والمزاج, بمن فيهم كواندرو في اللغة الفرنسية, وأُوتس في الكلاسيكيات, وطومسون ولاندا وبنتلي وجونسون في اللغة الانكليزية. وفي الموسيقى, أجبر ادوارد نفسه على اقتحام عقبة درس الهارموني والطباق, ثم انتقل لمتابعة السيمينارات التاريخية والوضعية الغنية عن بتهوفن وفاغنر خصوصا, حيث صار اليوت فوربز وادكُون مثالين يُقتدى بهما.
ونظراً لارتباط الانسانيات, وهي مجال دراسة ادوارد, وأحد المواد التي قام بتدريسها ابتداء منذ العام 1963 وحتى رحيله, في جامعة كولومبيا التي تقدم, منذ ما يقرب من قرن ومن دون انقطاع, مجموعة من المواد الأساسية قبل التخرجية, شهيرة بل أسطورية في تمثيلها التربية العقلية. مفاعلها الشغال, الذي تأسس في العام 1973, هو سلسلة مواد تُدرس على مدار سنة كاملة عنوانها الانسانيات, تعرف الطلاب بأمهات الأعمال الأدبية والفلسفية في الثقافات الغربية, صارت أخيرا تُعرف باسم الانسانيات «الغربية» تمييزا لها عن مواد موازية معروضة تحت تسمية الانسانيات «الشرقية» أو «المشرقية» أو «غير الغربية» اقول انه نظراً لارتباط الانسانيات, بالسيرة الأكاديمية لادوارد الى هذا الحد, أجدني مُلزما بالبحث عن معنى محدد لها, على نحو يُجنبني وقارئي الكريم غموضها النسبي!
بالكشف في معجم New International Dictionary نجد أن لفظ humanity ويستخدم عادة في صيغة الجمع , يعني «فروع المعرفة الرفيعة, وبخاصة الدراسات الكلاسيكية القديمة, والأدب المحض العلمانى, باعتباره متميزا عن المعرفة اللاهوتية». وعند التحول الى معجم Dictionary of Education and Instruction نجد أن الانسانيات تتكون من فروع دراسية معينة ذات «اتجاه نحو تهذيب الانسان», في مقابل العلوم الطبيعية «التي تعمل على النمو بالمواهب العقلية بصفة خاصة». ونجد في المعجم نفسه أن الانسانيات كانت داخلة في نطاق ما يسمى بـ«التربية التحررية», وأن هذه كانت «تتكيف لظروف ومطالب الانسان الحر والانسان المهذب €الجنتلمان€», وكان يقابلها «التربية العلمية». ويقول جون نيومان, وهو مرجع ثقة في هذا الموضوع, ان «التربية التحررية» وفق هذا المنهج هي «ثقافة عقلية تُدرب فيها العقلية لا بقصد صياغتها في ضوء هدف محدد أو عارض, أو من أجل حرفة أو مهنة محددة, أو من أجل دراسة أو علم, بل من أجلها هي بذاتها». صفوة القول ان الانسانيات تعني حسبما يرغب الدارس. اما الدراسة العلمانية في مقابل الدراسة اللاهوتية, واما الدراسة الاجتماعية والخلقية في مقابل الدراسة الذهنية, واما الدراسة الذهنية في مقابل الدراسة العملية.
قلنا ان ادوارد سعيد قام بالتدريس في جامعة كولومبيا من العام 1963 وحتى رحيله, وهو ما وفر له مكانا متميزا أشرف من خلاله على الحركة الأنسنية الأميركية, وأسلافها الأوروبيين, وذلك في القرن الماضي, وفي بدايات القرن الذي يُظلنا الآن, نظراً للصلة الوثيقة التي تربط الأنسنية بالتربية وبالبرامج الجامعية خصوصا. تلك الصلة التي تتبدى جلية واضحة بين مادتي الأدب والانسانيات اللتين درسهما ادوارد سعيد, وبين الحركة الأنسنية. فالأنسنية ومادة الأدب بما هما انكباب على دراسة الكتابة الجيدة والقيمة, مترابطانفي رأى ادوارد أيما ترابط, تشد وثاقهما صلة قوية. كما ان مادة الانسانيات, على تنوع معانيها, تُعد مضمارا للمفكرين الأنسنيين. فطبقاً لادوارد, تتعلق مادة الانسانيات بالتاريخ العلمانى, وبمنتجات العمل البشري, وبالقدرة البشرية على التعبير الكلامى. في حين يتمثل صميم الأنسنية في الفكرة العلمانية القائلة ان العالم التاريخي هو من صنع بشر من رجال ونساء, لا من صنع رباني, وانه يمكن اكتناهه عقليا, وذلك وفق المبدأ الذي صاغه جان باتيستا فيكو في مؤلفه الرائع «العلم الجديد», اذ قال فيه اننا كبشر في التاريخ نُدرك فقط ما قد أنتجناه. أوبعبارة أخرى, اننا نستطيع أن نعرف الأشياء وفقا للطريقة التي بها صُنعت.
وفي كتابه الأخير «الأنسنية والنقد الديمقراطي», ركز ادوارد اهتمامه على دراسة الحركة الأنسنية والممارسة النقدية, استنادا الى قناعته بأن الأنسنية مذهب نقدي يوجه سهامه الى الأوضاع السائدة داخل الجامعة وخارجها, مذهب يستمد قواه وقيمه من طابعه الديمقراطي العلماني المنفتح, وهو الموقف الذي لا تتبناه بالتأكيد الأنسنية العيابة والمتزمتة التي ترى الى ذاتها على أنها تكوين نخبوي! وكذا قصر ادوارد اهتمامه في الكتاب نفسه على دراسة الحركة الأنسنية في الولايات المتحدة الأميركية, استنادا الى قناعته بأن قسما كبيرا من محاجته ينطبق على سائر البلدان! فادوارد عاش في الولايات المتحدة خلال القسط الأوفر من حياته البالغة كما أسلفنا, وكان خلال تلك العقود الأربعة, مدرسا وناقدا وباحثا ملتزما بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذي عرفه ادوارد أكثر من سواه!
من هنا تأتي أهمية محاجة ادوارد الرئيسية المشار اليها تواً, والمتمثلة في قوله بأنه خلال السنوات الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وضعه لدراسته, لم تعرف الحركة الأنسنية في الولايات المتحدة مجرد أزمة متواصلة لا شك فيها, وانما عرفت تحولات أساسية, صامتة حينا, وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها. فبحسب ادوارد, طرأت تغييرات في الأسس ذاتها التي قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل في الولايات المتحدة وسائر العالم. وكان لادوارد ان هو أراد أن يُغفل تلك التحولات, بكل بساطة, وأن يستمر كما في السابق, على طريقة النعامة, خصوصا وأنه الرجل الذي لطالما كتب بحماس عن قضايا خاسرة, وارتبط فطريا بها خلال معظم سني حياته. بيد أنه لما كان ادوارد سعيد قد أقنع نفسه, بالاقلاع عن لعب دور النعامة, فقد رأيناه تواقا لإقناع غيره بأن الهرب من الواقع والانكفاء العاطفي الى حنين ماضوي, أقل علمية وأقل اثارة بكثير من التعامل مع المسألة على نحو عقلاني ممنهج, ايمانا منه بأن هذا هو ما تقضي به قواعد الأنسنية, على نحو لا مجال للطعن فيه.
د.حازم خيري
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد