علامات الترقيم في الشعر العربي ..ضرورة أم زخرفة؟

11-11-2007

علامات الترقيم في الشعر العربي ..ضرورة أم زخرفة؟

خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول عام 1963 وحتى كانون الثاني عام 1964 اذاعت قناة الثقافة الفرنسية ( فرانس-كلتور) في الاذاعة والتلفزة الفرنسية المحاورات العشر التي أجراها فرنسيس كريميو مع الشاعر الكبير اراغون حيث خاضا في مسائل كثيرة وقد سجلت تلك الحوارات ووجدت طريقها للنشر في كتاب عام 1988 من أهم القضايا التي ناقشها اراغون هي علامات الترقيم في الشعر وعن رأيه بها وأهميتها قال: إن علاقات الترقيم ليست امراً مفروضا في العالم ولم تكن موجودة دائما, لم تكن موجودة في الشعر الفرنسي في القرون الوسطى كما لم تعرفها اللغات اللاتينية واليونانية والعربية إلا جزئيا وفي وقت متأخر يقال عادة: هل نضع علامات الترقيم أو لانضعها (لأن هذه العلامات لم تظهر إلا بظهور الطباعة أي عندما أصبح النص المكتوب في متناول عدد كبير من القراء واستخدمت تعليميا لتسهيل القراءة على من لا يستطيعها بدون تلك العلامات. اذا لا يرى اراغون ضرورة لوضع علامات الترقيم في الشعر!.‏

يقول الدكتور رضوان قضماني استاذ علم اللسانيات في كلية الآداب بجامعة البعث:إن الترقيم في الكتابة هو وضع رموز اصطلاحية معينة بين الجمل او الكلمات لتحقيق اغراض تتصل بتيسير عملية الفهم والايصال والتلقي ومن هذه الاغراض تحديد مواضع الوقف, حيث ينتهي المعنى او جزء منه والفصل بين اجزاء الكلام والاشارة الى انفعال الكاتب في سياق الاستفهام او التعجب, وفي معارج الابتهاج والاكتئاب او الدهشة او نحو ذلك وبيان ما يلجأ اليه الكاتب من تفصيل امر عام او توضيح شيء مبهم او التمثيل لحكم مطلق وكذلك بيان وجوه العلاقات بين الجمل فيساعد ادراكها على فهم المعنى وتصور الافكار وهي علامات تمتن الكلام وتزينه وتعين على التنويع الصوتي اثناء القراءة فيكتسب الكلام دقة في التعبير وصدقا في الدلالة واجادة في نقل ما يريد المرسل ارساله الى المتلقى فيحقق الكلام الغايات المرجوة منه.‏

بدأت علامات الترقيم دوائر وخطوطا للفصل بين الآيات في القرآن الكريم وكانوا يشيرون الى نهاية الجملة وبداية جملة جديدة بدائرة يخرج منها خط, أو تتوضع في داخلها نقطة وهو ما نلاحظه بين الآية والأخرى في سور القرآن حيث توضع ارقام الآيات داخل دائرة بين الآية والأخرى , ومنه انتقلت هذه الطريقة الى الكتب للفصل بين الجمل ثم اخذت تتطور منذ القرن العاشر للهجرة حتى أخذت شكلها النهائي في عصر الطباعة متأثرة في ذلك بالكتابة الاوروبية وأول من وضع نظامها الكامل في العربية العلامة أحمد زكي سنة 1912 فأقرته وزارة المعارف المصرية سنة 1932 وعممته على بقية الدول العربية.‏

الآن يمكننا ان نتساءل لماذا غابت علامات الترقيم عن الشعر العربي القديم وكيف يتعامل الشعر الحديث معها للاجابة عن ذلك يقول الشاعر عبد القادر الحصني:‏

أدوات الترقيم حضورها وغيابها في النص الشعري يثير قضايا كثيرة اولها لماذا غابت ادوات الترقيم عن النصوص الشعرية في كتب الشعر القديمة؟‏

كيف عادت الى الظهور للشعر القديم؟ كيف يتعامل الشعر الحديث مع أدوات الترقيم؟‏

لماذا تغييب في نصوص وتحضر في نصوص ؟!‏

وما مدى دقة وصحة أدوات الترقيم في نص شعري حديث؟‏

أقول : إن النص الشعري القديم في كتب الشعر القديمة غابت عنه ادوات الترقيم للسبب الآتي: إن هذه الكتب نقلت من الصدور الى السطور, من المحفوظ غيبا الى المكتوب على الورق, لماذا لم يضعوا أدوات الترقيم ؟! لأن الراوي الذي يروي الشعر والذين نقلوا هذه الرواية عنه كانوا يعرفون انهم اذا وضعوا ادوات ترقيم من عندهم قد تؤدي الى تغيير في المعنى فما دام المعنى المقصود من الشاعر القديم غير معروف تماما كما هو في مقصده فلندعه اذاً بلا ادوات ترقيم الى ان يأتي التحقيق فيما بعد. مثلا لو أخذنا بيتا من الشعر القديم بلا ادوات ترقيم لنقل بيت ابي العلاء المعري:( لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي) نستطيع ان نضع أدوات الترقيم في هذا البيت بأشكال متعددة ولكن يختلف المعنى الشعري في كل مرة.‏

فإذا قلنا: لقد أسمعت لو ناديت (,)حياً /ولكن لا حياة لمن تنادي‏

لصار المعنى لقد كان يمكن ان تسمع لو أنك ناديت وأنت تمتلك الحيوية وحيا هنا هي حال للمنادى و!! وهذا ربما ليس المعنى الذي قصده المعري ولو قلنا : لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة (.) لمن تنادي؟‏

هنا المعنى مختلف ايضا : اذا يمكننا تغيير اماكن ادوات الترقيم بحيث يصبح للبيت معان متعددة فعلى ما يبدو تخفف القدامى من عبء تقييد البيت في معنى واحد فتركوه مرسلا ليأتي التحقيق فيما بعد ويضع هذه الادوات عندما حققت كتب التراث وجدنا المحقق منها وقد ضبط بالشكل ووضعت ادوات الترقيم . والمحقق عندما يضع أدوات الترقيم يضعها ليس بيسر وسهولة كما نتصور بل يضعها في مجمل تصوره للنص والمعاني المتداخلة فيه. فرؤية الشاعر ودلالاته ومراميه تكون متوضحة للمحقق بما يؤهله الى ان يضع هذه الادوات وحتى في هذه الحال يبقى هناك مجال من الأخذ والرد حول بعض أدوات الترقيم في بعض النصوص مثلما تبقى بعض التساؤلات حول الضبط بالشكل .. هذه العملية ما بين اغفال وضع ادوات الترقيم ثم وضعها في التحقيق اعتقد انها سبب غنى النص, فقد صار غنيا بسبب القراءات التي يحتملها بسبب ادوات الترقيم فيه وهذا لا ينطبق على الشعر فقط وانما على الكتب الاخرى التراثية فعندما نقرأ في الفتوحات الملكية في طبعته الاولى الحجرية حيث لا توجد ادوات ترقيم نجد ان القراءة صعبة والجمل متداخلة فيصعب في بعض الاوقات فك العبارة وتشكل المعاني وتغيب الدقة فيه بسبب غياب ادوات الترقيم, يأتي التحقيق فيما بعد فنرى ان الكثير من مشاكل فك العبارة في النص قد توضحت بفضل هذه الادوات .‏

الآن في الشعر الحديث هناك مشكلة اخرى تختلف عما تحدثنا عنه في النص القديم في النص الحديث دخل عامل آخرهو عامل الجهل والاستهتار واللامسؤولية في استخدام ادوات الترقيم والمزاجية وما في نفس كاتب الكلمات من معان لم يستطع أن يقولها فأراد ان يحملها لأدوات الترقيم ولذلك صرنا امام سيل من ادوات الترقيم لانظام له ! ماذا يعني أن أجد ثلاث اشارات تعجب متتالية ( !!! ) وماذا تعني نقطتان وراء بعضهما البعض (..) احيانا أقرأ في نصوص لشعراء فأجد مالا يقل عن 30 او 40 مرة نقطتين وراء بعضهما البعض مكررة هنا تصبح هذه الادوات مجانية.‏

ومثلما نتكلم عن النقطتين نتكلم عن اشارات الاستفهام والتعجب والفاصلة وأجدها في بعض النصوص عشوائية وفي بعضها ثمة شيء في نفس الكاتب لم يقله فيضع اشارات معينة ولكن النص الشعري ليس نصا لأدوات الترقيم في النهاية بل عليه ان يقول ويفصح ويبين !‏

قد تلعب أدوات الترقيم دوراً ما في اذكاء وترييض فكر القارئ وخياله ولكن ليس الى الحد الذي يصبح معه النص معجونا بأدوات الترقيم, ووجدت نصوصا في الشعر الحديث بلا هذه الادوات والسبب في ذلك فيما اعتقد غياب او ارتباك مفهوم البيت الشعري والسطر الشعري نحن نعرف ان نظام التفعيلة في بدايته مع الرواد كان يعتمد السطر الشعري ( البيت الشعري القديم ) ولكن اختلف عدد التفعيلات فيه.‏

وبعد جيل الرواد بوجيز من الزمن صار السطر الشعري يدور والتفعيلة تدور مع دورانه وحل المقطع الشعري بديلا للسطر.. في اعتمادنا السطر الشعري يمكن القول انه بامكاننا الوقوف عند نهاية كل سطر ويبقى السؤال, ماذا في داخل هذا السطر؟‏

مع دوران السطور في المقطع الشعري في القصيدة الحديثة ( التفعيلة) صار هناك ضرورة لأدوات الترقيم كما اعتقد لأن الجملة الشعرية صارت تدور من سطر الى سطر وتطول ( وفيها اساليب القول على اختلافها) فصار من الضروري وجود ادوات الترقيم فيها .‏

وكذلك ثمة ضرورة لشكل أواخر السطور الشعرية (دوران الوزن صار يدور مع دوران الجملة) التجارب الشعرية المتميزة على صعيد قصيدة التفعيلة هي التجارب التي تحترم ادوات الترقيم وتستخدمها بدقة على النحو الذي استخدمت فيه من قبل مع شيء بسيط من التجاوز الذي نستطيع ان نجد له مبررات ولكن في مواضع قليلة.‏

الآن لو جاء شاعر نص حديث وقال أنا أغفلت أدوات الترقيم لتكون له قراءات متعددة: يمكن ان اتقبل هذا في تجربة أحد الشعراء ومن خلال قراءة هذه النصوص يمكن ادراك ان هناك فعلا لعبة تقصدها هذا الكاتب من خلال هذا الأمر ولكن لا أن تصبح مثل هذه الذريعة مدخلاً لمن لا يعرفون ماذا يقولون وكيف يقولون ليغرقونا بنصوص لا مدبر لها خلال قراءتها .‏

سوزان إبراهيم

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...